نحو أسبوعين احتاجتهم إيران لحسم مسار المشاورات، وتنسيق حيّز الرّد الميداني الذي يحفظ ماء وجهها على استهداف مبنى القنصلية في العاصمة السورية دمشق، مؤخّراً، فضلاً عن تصفية عدد من أبرز قياداتها العسكرية الأمر الذي وضعها في مأزق تحديد ماهية “الهجوم الإيراني على إسرائيل” ودرجة خشونته دون أن يدفع الأقدام نحو الانزلاق لمواجهة عسكرية تتجنبها حتماً طهران على خلفية اعتبارات سياسية ترتبط مرة بسياق تموضعها داخل ما يعرف بـ”محور المقاومة”، ومرة أخرى بمقدرات وضعها داخل الشرق الأوسط كقوة إقليمية تسعى لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها، وما بينهما هدف رئيس يتجلى عند حدود علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية والالتزام السياسي بذلك.

بدا الهجوم محدوداً وأقل مما هو متوقع عند قطاعات من المحور الذي تقوده طهران، لكنه في واقع الأمر لا يختلف عن سياسة طهران البراغماتية في وقائع مماثلة، لا سيما بعد مقتل قاسم سليماني نهاية فترة حكم دونالد ترامب، وترتيب هجمات على قاعدة عين الأسد الجوية والتي تم إبلاغ الطرف الأميركي بتفاصيلها وملابساتها، الأمر الذي تكرر في الهجوم على إسرائيل أمس، حيث أبلغت طهران واشنطن بأن ردها سيكون “محدوداً”. 

تفاصيل معروفة

في الأحوال كافة، فإن طهران سعت إلى عمل استعراض قوة، وفقط، من دون رغبة في تصعيد جاد لاستعادة الردع أو ترسيم خطوط التماس بين الطرفين حول حروب الظّل المندلعة بينهما بعد الهجمات العنيفة التي نفذتها إسرائيل وطاول قادة استراتيجيين ولهم أوزان عسكرية ميدانية في دمشق وآخرين من المحور ذاته في الضاحية الجنوبية لبيروت.

أحد المؤيدين للحكومة الإيرانية يرفع صورة للجنرال القتيل قاسم سليماني في ميدان فلسطين في طهران، في 14 أبريل/نيسان 2024، في احتفال بالهجوم الذي شنه الحرس الثوري الإيراني على إسرائيل. (تصوير حسين بيريس/فرانس برس)

وقد جاءت الهجمات الإيرانية خلال ساعات الليل من مساء السبت بصورة تتماهي بالكلية مع كل ما تداولته وسائل الإعلام خلال الأيام التي سبقت الضربة مما يضعها حيّز الضربة المنسقة، حتماً، وهو الأمر الذي يؤكد كون طهران صاغت الأمر كله بحسابات سياسية تستهدف حماية وجودها وعدم تهديد بقاءها ضمن المعادلة الإقليمية. 

وبينما ترقّب الإقليم وصول المسيّرات والصواريخ الأجواء الإسرائيلية التي تم إسقاط نحو 99 بالمئة منها وفق البيانات الإسرائيلية الرسمية، فإن تلك المسيّرات والصواريخ التي تم نشرها في الفضاء لا تحمل سوى رسائل سياسية ينبغي أن تصل لمستحقيها ولا تستهدف أذى أو إصابة أي أهداف بشرية ومدنية، فضلاً عن التصريحات الإعلامية والسياسية التي أفصحت عن كون تلك الهجمات لا تبتغي سوى غلق تلك الصفحة التي أعيد فتحها مطلع الشهر، وينبغي غلقها مع تلك الضربات المحسوبة والمعلومة آنفاً.

إلى ذلك، أصدر “الحرس الثوري” الإيراني مع ساعات صباح الأحد، البيان الأول بشأن الرد على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية في دمشق. وقال في بيانه الأول: “نفذنا عملية بطائرات مسيرة وصواريخ رداً على جريمة الكيان الصهيوني بقصف قنصليتنا في سوريا”. وأضاف: “العملية نفذت بعشرات الصواريخ والطائرات المسيرة لضرب أهداف محددة في الأراضي المحتلة”.

من جانبها، أفادت القناة “12” الإسرائيلية، بأن “تقارير تتحدث عن إطلاق صواريخ مجنحة من إيران نحو إسرائيل بعد وقت من إطلاق أسراب المسيرات”. كما قالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي: “من المرجح أن يستمر الهجوم الإيراني عدة ساعات”.

في إطار ذلك، رجح المسؤول السابق في “البنتاغون” والباحث بمركز الشرق الأدنى للدراسات الاستراتيجية ديفيد دي روش، بأن الإيرانيين قرروا أنهم بحاجة إلى إنشاء مستوى من الردع ضد الإسرائيليين. 

وتابع روش في حديثه لـ”الحل نت”، إن “الحرس الثوري” الإيراني الذي شعر بالحرج بسبب مقتل العديد من قادته البارزين يحتاج أيضاً إلى إثبات قدرته على الدفاع فعلياً عن المصالح الإيرانية بعد هجمات تنظيم “داعش” الإرهابي في كرمان، والهجمات البلوشية المستمرة في الجزء الإيراني من إقليم بلوشستان، والاحتجاجات المستمرة داخل إيران.

وتابع ديفيد دي روش قائلاً: إن “الأمر كله سيتحدد على مدى نجاح إسرائيل في هزيمة الهجوم الإيراني، وإذا طال إسرائيل أي ضرر، فإنها ستخلق رادعاً دفاعياً”. 

“هجوم إيراني وقح”

قالت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في منشور على منصة “إكس” (تويتر سابقا) إنه يتعين على الولايات المتحدة أن تظل بعيدة عن الصراع بين إيران وإسرائيل، مبينة أنه “يمكن اعتبار الأمر منتهيا”، وحذرت من أن رد طهران سيكون أشد إذا انتقمت إسرائيل. وذكرت البعثة: “إذا ارتكب النظام الإسرائيلي خطأ آخر، فإن رد إيران سيكون أكثر خطورة بكثير”. 

هجوم وقح ماذا كشف الرد الإيراني على إسرائيل؟ (1)
المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي يحضر احتفالاً مشتركاً للجيش في طهران. (تصوير حسين فاطمي/وكالة الأنباء الفرنسية)

من جانبه أشار الدكتور محمد الزغول رئيس وحدة الدراسات الإيرانية في مركز “الإمارات” للسياسات، إلى أنه في هجوم ليلة أمس أطلقت إيران ما مجموعه: 185 مسيرة، و36 صاروخ كروز، و 110 صواريخ أرض-أرض على إسرائيل. 

معظم هذه الأدوات تم التصدي لها بنجاح خارج الأجواء الإسرائيلية من قبل تحالف ضم أميركا وفرنسا وبريطانيا، وبمشاركة أردنية، وما وصل منها إلى داخل إسرائيل استهدف موقعين عسكريين تم إخلاؤهما مسبقا، أحدهما قاعدة “نفتانيم” الجوية التي انطلق منها الهجوم على القنصلية بحسب مصادر إيرانية.

وتابع في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، أن معظم المقذوفات على ما يبدو كانت غير مذخرة، وكان هدفها إرهاق الدفاعات الجوية فقط. وأوقع الهجوم أضرارا مادية فقط، وقدرت كلفة التصدي له بحوالي مليار دولار، لافتاً إلى أن إيران عملت على أن يكون محددات هجومها حيز الإقرار بـ”التفوق الإسرائيلي”، ولم تحاول كسر هذا التفوق، أو اختبار رغبة الغرب بالحفاظ عليه، وذلك عبر إيقاع قتلى من مستويات قيادية مثلاً، أو حتى تحقيق إصابات بين أشخاص مدنيين.

إن إيران في ردها ببساطة لم تتجاوز فكرة “المقاومة”، ومنطقها، والتي تعني فعل شيء في مقابل العدوان، وليس الرد المتكافئ عليه. 

لذلك جاء الرد الإيراني محدوداً وغير متناسب مع العملية الإسرائيلية التي أوقعت قتلى بمستويات قيادية عليا في “الحرس الثوري”، لتبقى إسرائيل محتفظة بالتفوق، وهو ما يمنع اضطرارها للرد، ويسحب البساط من حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي، ويحدث شرخا بينها وبين واشنطن التي لن تكون مضطرة للموافقة على أي رد طالما ظل التفوق الإسرائيلي محفوظا، بحسب المصدر ذاته.

جو بايدن في بيانه مع ساعات صباح يوم الأحد، أكد فيه أن واشنطن ساعدت إسرائيل في إسقاط جميع الطائرات المسيرة والصواريخ القادمة “تقريبا”. وأضاف: “سأجتمع مع زعماء مجموعة السبع لتنسيق رد دبلوماسي موحد على الهجوم الإيراني الوقح”. كما أكد أنه لم يتم رصد أي هجمات ضد القوات أو المنشآت الأميركية في المنطقة، مؤكدا أن واشنطن ستبقى يقظة أمام جميع التهديدات.

فكرة الإلهاء والإغراق

وفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاجاري، قال إن عددًا صغيرًا من الصواريخ أصابت إسرائيل وألحقت أضرارًا طفيفة.

لافتات وملصقات مناهضة لإسرائيل وضعت على جدران المباني في العاصمة طهران بعد إطلاق إيران طائرات مسيرة وصواريخ على إسرائيل رداً على الهجوم على القنصلية في سوريا في 14 أبريل/نيسان 2024. (تصوير فاطمة بهرامي/ غيتي)

من جهته، وافق مجلس الحرب الإسرائيلي على رد حاسم وقوي ضد إيران، بعد الضربات التي شنتها ضد إسرائيل بعشرات الصواريخ، بحسب ما أعلنته وسائل أعلام عبرية. 

وانتهت الجلسة بتفويض بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت وبيني وغانتس عضو مجلس الحرب، باتخاذ القرارات بما في ذلك الرد الإسرائيلي، لكن الوزيرين المتطرفين إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش اعترضا على تفويض جالانت وغانتس لاتخاذ قرار مع نتنياهو بشأن الرد على الهجوم الإيراني.

بدوره يشير اللواء أركان حرب سابقاً بالجيش المصري، ياسر هاشم، إلى أنه بعد الاتهام الإيراني لإسرائيل بقصفها مقر قنصليتها في دمشق والذي راح ضحيته قائد “الحرس الثوري” في سوريا ولبنان ومساعده وآخرين في مطلع شهر أبريل/نيسان الجاري، توعدت إيران إسرائيل برد قاس وبدا أنه سيكون جزأ منه ردا مباشرا سينطلق من الأراضي الإيرانية التي لا تمتلك حدودا مباشرة مع إسرائيل. 

وبالتالي ستعتمد على صواريخها مثل “شهاب 3 وسجيل وغدير وعماد الذي يبلغ مداهم الأقصى 2000 كم وصواريخها الكروز من نوع سومار والذي يبلغ مداه 2500 كم وطائراتها المسيرة من طرازات شاهد التي يبلغ مداها 1500 كم وتحمل راساً متفجرا بقوة 50 كجم”.

وكان من المتوقع أن تكون أهداف القصف الإيراني أهدافاً حيوية، وفق حديث هاشم لـ”الحل نت”، تشمل قواعد جوية ومنطقة المفاعل النووي “ديمونة” ومصافي النفط في حيفا ومقار حكومية في القدس وتل أبيب وكذا كان متوقع أن تشارك بعض الفصائل الموالية لإيران مثل “حزب الله” اللبناني أو “الحوثيين” اليمنيين أو “المقاومة الإسلامية” في العراق في الضربة. 

هذه الضربة التي اعتمدت على فكرة الإلهاء و الإغراق التي تتبعها روسيا في حربها ضد أوكرانيا والتي عادة ما تعمل على تشغيل منظومات الإنذار والدفاع الجوي بتعدد الأهداف والاتجاهات مما يسمح بنفاذ بعض وسائل الهجوم إلى أهدافها.

يتابع الخبير العسكري المصري، ياسر هاشم، تصريحاته لـ” الحل نت”، أن سياق الضربة الإيرانية كان مكشوفاً مما جعل وسائل هجومها يتم اكتشافه مبكراً، ويسهل اعتراض بعض وسائل الهجوم في خارج أجواء إسرائيل. 

بينما سيكون الباقي من وسائل الهجوم عرضه للاكتشاف والتدمير بالدفاع الجوي متعدد الطبقات التي تمتلكه إسرائيل سواء من منظومات الإنذار والتتبع والتوجيه المتنوعة التي يصل مدها إلى مئات الكيلومترات، والتي تشمل أقماراً صناعية مثل “أفق 13” ورادارات ومناطيد ومن منظومات الاشتباك مثل (الأرو و باتريوت باك 2 وباراك ومقالع داوود والقبة الحديدية).

لم تتجاوز حدود الإزعاج

تعمل القوات الجوية الإسرائيلية، وفق هاشم، بدور فعال في مهام الدفاع الجوي، بما تمتلكه من طائرات متقدمة مثل (إف 35 و إف 15 وإف 16) في الإنذار والتصدي للصواريخ الجوالة والمسيرات لسرعتها المحدودة وعلى مسافات بعيدة. 

صورة تظهر مشهدًا لملحق قنصلي جديد للسفارة الإيرانية في دمشق يوم افتتاحها في 8 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

بينما تتحمل الدفاعات الجوية الارضية وخاصة صواريخ (أرو وباتريوت) للصواريخ البالستية، وكما توقع الجميع نفذت إيران ما سبق وهذا أعطى إنذاراً علنياً للهجوم الإيراني الذي افتقد تأثير المفاجأة، ونظراً لمرور وسائل الهجوم الإيرانية مثل المسيرات والصواريخ الجوالة في أجواء دول أخرى فهو أيضا تسبب في إحباط بعض تلك الوسائل. 

ومع ذلك نجحت سياسة الإغراق في وصول بعض وسائل الهجوم وبخاصة الصواريخ البالستية إلى الأجواء الإسرائيلية مما أدى لتفعيل الإنذارات والدفاعات الجوية فوق القدس وديمونة و قاعدة “نيفاتيم” ومناطق أخرى وسط وجنوب إسرائيل.

بدا أن إيران استخدمت الطائرات المسيرة على موجتين، الموجة الأولى من نوع “شاهد 136” ذات المحرك المكبسي والموجة الثانية من نوع “شاهد 238” ذات المحرك النفاث والموجة الثالثة صواريخ كروز والموجة الرابعة صواريخ بالستية. 

وعلى الرغم من اتساع الضربة وتنوعها واشتراك بعض الميليشيات الموالية لإيران من لبنان والعراق واليمن في الضربة إلا أن غياب عنصر المفاجأة وبعد المدى جعل تلك الضربة الواسعة ضعيفة لأدنى حدودها. إذ انحصر تأثيرها فى خسائر مادية بقاعدة “نيفاتيم” وبعض الأضرار الأخرى نتيجة سقوط بعض نواتج اعتراض الصواريخ. 

وشاركت الولايات المتحدة بشكل مباشر بقواتها الجوية في إسقاط المسيرات والصواريخ الجوالة في أجواء العراق وسوريا وربما الأردن. فيما تأتي مشاركتها ليكون لها دور في التأثير على القرار الإسرائيلي لمنعها من التصعيد برد مضاد، قد يستهدف الأراضي الإيرانية وخاصة منشآتها النووية، وفق هاشم.

وعلى الرغم من اتساع الضربة الإيرانية وتنوع وسائلها إلا أن تأثيرها التدميري لم يتجاوز حدود الإزعاج وهو ما استفادت منه إسرائيل في اختبار دفاعاتها الجوية بشكل عملي، والذي قد يساهم أيضا في أن تستطيع الولايات المتحدة مرة أخرى إقناع دول المنطقة بإنشاء شبكة إنذار جوية موحدة، لدرء التهديدات الإيرانية وغيرها مستقبلاً. 

أما عن رد الفعل الإسرائيلي على تلك الضربة فيرجح اللواء أركان حرب سابقاً بالجيش المصري ياسر هاشم، بأنه “سيتركز في جنوب لبنان وسوريا سواء بتصعيد لاستهداف العناصر الإيرانية والمتحالفة معها بينما ستبذل الولايات المتحدة جهودها لمنع الرد الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية”.

ويختتم اللواء أركان حرب ياسر هاشم تصريحاته قائلاً: “إن تقديري يستقر نحو أن طبيعة الصراع الإيراني الإسرائيلي في جوهره الحقيقي تنافس لكنه تنافس عنيف بين قوتين إقليميتين كل منهما يحاول إثبات جدارته، وتوسيع رقعة أدواره في المنطقة استغلالا لحالة التفكك والسيولة السياسية في المنطقة واتجاه معظم دول المنطقة لسياسات احتواء التهديدات والإشكاليات”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة