إثر الاستهداف الإسرائيلي الذي طال مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، مؤخرا، أثناء “اجتماع سري” لقادة من “الحرس الثوري” وفصائل فلسطينية بحسب الرواية الإسرائيلية، عاود الحديث، مرة أخرى، حول طبيعة الموقف الروسي، لا سيما أن العلاقات بين موسكو وطهران ظاهريا تبدو قائمة على التحالف والاصطفاف، بينما عمليا تتبدد هذه التصورات في ظل التنافس المحموم بين الطرفين، والذي قد يرقى في مرحلة لاحقة إلى حد الصراع وتصدع الشراكة السياسية إلى معسكرين كل منهما يبحث عن مساحة نفوذه ويتحرى استعادة نفقات الحرب.

تنديد روسيا وسياسة حفظ ماء الوجه

مع تكرار الاستهدافات الإسرائيلية لمناطق نفوذ “الحرس الثوري” الإيراني في سوريا، كان السؤال الملح هو عن مدى وجود تنسيق إسرائيلي روسي بخصوص ذلك، ويحمل السؤال في أحايين كثيرة إشارات وتلميحات تصل حد التصريح بوجود تفاهمات، أو في أحسن الأحوال غض موسكو الطرف عن تلك الضربات حتى تتآكل مساحات هيمنة طهران الميدانية أو تقويض دورها. ومع ردود الفعل الروسية التي لا تذهب أبعد من “التنديد” على فعل بات اعتياديا، سبق لطهران أن اتهمت حليفها الروسي بالمساهمة في خرق البنية الأمنية لإيران في سوريا، كما أنها ترفع عن إيران الحماية من خلال دفاعاتها الجوية. وبالتزامن مع الضربة الإسرائيلية التي استهدفت نخبة عسكرية إيرانية في سوريا، مطلع العام، ألمح الصحفي الإيراني علي قلهكي، إلى أن روسيا “تسيطر على معظم الدفاعات الجوية السورية” ومن ثم تسائل عن مدى حقيقة ضلوعها أو تعمدها “إيقاف دفاعات إس-400 اليوم، كما جرى يوم مقتل رضي موسوي؟”.

كما اتهمت عدة صحف إيرانية منها “جمهوري إسلامي”، روسيا بتسريب مواقع قادة “الحرس الثوري”، وطالبت بضرورة البحث عن “المتسللين” أو “المخبرين” المحليين وهم روس وسوريين ممن يقدمون معلومات استخبارية للطرف الإسرائيلي. كل ذلك يؤشر إلى عمق التباينات السياسية الاستراتيجية بين موسكو وطهران في سوريا، والتي تباعد بين كل منهما، حيث إن تلك التباينات تفاقمها تعقيدات الأهمية الجيواستراتيجية والجيوسياسية لسوريا بالنسبة للطرفين، فمن جهة، تبدو لطهران ضمن دائرة “الهلال الشيعي” بمعناه الأيديولوجي والسياسي في ذهنية “الولي الفقيه”، ومن جهة أخرى، تبدو لموسكو موطئ قدم ثقيل ومؤثر على ساحل المتوسط كما في قاعدة طرطوس، بما يعزز من نفوذها في الشرق الأوسط، بل ويضمن لها فرص وازنة في سياق المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة داخل مناطق نفوذهما التقليدية.

لذا، فمن اللافت أن نبرة موسكو إزاء الضربات الإسرائيلية على مواقع نفوذ إيران العسكرية والأمنية، تبدو كحفظ ماء الوجه، أو هي بالأحرى ردود فعل تقليدية بروتوكولية. ربما لم تتحاز موسكو في ردها الأخير الحيز السابق، وقد اتهمت تل أبيب بالسعي إلى “تأجيج” النزاع في المنطقة، ووصف ما جرى بأنه “غير مقبول”. فيما دانت وزارة الخارجية الروسية، الهجوم “غير المقبول”. وقالت في بيان: “ندين بشدة هذا الهجوم غير المقبول على البعثة القنصلية الإيرانية في سوريا”.

آثار القصف الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق – (إنترنت)

وأثناء مباحثات جمعت سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، الثلاثاء الماضي، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أحمديان، دان الأول الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق. وقال المكتب الصحفي لمجلس الأمن الروسي في بيان له: “أدان نيكولاي باتروشيف بشدة الغارة الجوية الإسرائيلية على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق”، مؤكدًا أن هذا العمل “محفوف بتصعيد للتوتر لا يمكن السيطرة عليه”.

خط ساخن بين موسكو وتل أبيب

إذاً، لم يعد خافيا على أحد أن روسيا منذ عام 2015 أحدثت خطا ساخنا بين قاعدة حميميم وتل أبيب للتنسيق وعدم التصادم في سوريا. وكل التصريحات الإسرائيلية تؤكد أنها تخبر روسيا بموعد الضربات الجوية في سوريا وتنسق معها، فيما لم تؤكد ولم تنف موسكو هذه التصريحات مما يدل على صحة التنسيق، حسبما يوضح الأكاديمي والمحلل السياسي الدكتور خليل عزيمة.

لكن الذي اختلف، والحديث للأكاديمي والمحلل السياسي، أن إسرائيل لم تعد تخبر موسكو بالوقت الكافي للتحذير وإخلاء المواقع الإيرانية، موضحا لـ “الحل نت”، أن إسرائيل غيرت بنك أهدافها من قصف مستودعات الذخيرة إلى استهداف قيادات واجتماعات. وضمنيا إيران هي منافسة للمصالح الروسية في سوريا، خاصة أن لها قاعدة شعبية في سوريا وتعد الحليف الأكثر موثوقية لسوريا سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، وإيران مقبولة في سوريا أكثر من روسيا.

لذلك، فإن إبعاد إيران من سوريا يصب في مصلحة روسيا للتخلص من منافس قوي له نفوذ، ومن جهة أخرى، في مصلحة إسرائيل لزعزعة “محور المقاومة” وإضعافه يقول عزيمة, فروسيا تستطيع منع إسرائيل من القيام بأي غارات على سوريا سواء بالضغط على حكومة بنيامين نتنياهو أو حتى بالتهديد بإسقاط الصواريخ أو الطائرات الإسرائيلية، خاصة أنها تسيطر على الأجواء السورية، لكنها لا تريد ذلك. روسيا تريد الاستفراد بملف الأزمة السورية وتديره لصالحها.

يكاد لا يختلف ذلك عما سبق ونشرته صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية، بأن العلاقة بين روسيا وإيران هي أشبه بـ “زواج منفعة” وليست علاقة استراتيجية، وأن موسكو في تحالفها مع طهران بسوريا هو أمر اضطراري، والهدف الوحيد بينهما كان الإبقاء على حكم بشار الأسد الذي كان على وشك الانهيار، وهنا جاء تدخل أو بالأحرى استدعاء “الحرس الثوري” للقوات الروسية عام 2014 لضمان استمرار الأسد. 

وبحسب الصحيفة البريطانية، فقد انبعثت اضطرابات وتوترات بين طهران وموسكو في الساحة السورية على خلفية محاولات الأولى توظيف دمشق ميدانيا وسياسيا في إطار صراعها مع إسرائيل، في حين أن روسيا تتفادى ذلك تماما، موضحة أن “موسكو منحت الضوء الأخضر لتل أبيب لضرب أهداف إيرانية” في سوريا.

حسابات بوتين البراغماتية

في حديثه لـ “الحل نت”، يوضح الباحث المصري المختص في العلوم السياسية الدكتور عبد السلام القصاص، أن الحادث الأخير في سوريا لا يختلف عن سوابقه، تحديدا فيما يخص الموقف ورد الفعل الروسي، حيث أن موسكو تعطي موافقة ضمنية لإسرائيل على هذه الاستهدافات، بل إن التنسيق بينهما قائما، وثمة قناة اتصال سبق الكشف عنها بين الطرفين بخصوص هذا الأمر، موضحا، أنه “منذ انشغال روسيا بغزوها لأوكرانيا ونقل العديد من قواتها وأسلحتها، تشعر بخطورة استنزاف جهودها العسكرية في كييف بل وتشتت هذه الجهود أمام صراع يبدو طويلا مع الغرب. ورغم ما سببته هذه الحرب من توتر العلاقات بين تل أبيب وموسكو، فضلا عن تنامي العلاقات الدبلوماسية والعسكرية بين الأخيرة وطهران التي أمدّتها بالمسيرات، لكن ذلك لم يسقط من حسابات بوتين البراغماتية مخاوفه من تقليص حضوره الاستراتيجي في سوريا لحساب طهران بما يجعل من الضروري العمل على تسهيل مهمة إضعاف هذا الوجود”. 

ويقول القصاص، إن “بوتين يدرك أن الصراع في كييف لا انعكاسات مباشرة له في الشرق الأوسط على العلاقة بين موسكو وتل أبيب، حيث إن الأخيرة لن تسمح بحال من الأحوال أن تهيمن طهران إقليميا في دمشق، وتدشن قاعدة متقدمة تهدد إسرائيل، بالتالي فإن مساحة العمل في المنطقة بينهما تعزز التعاون مع وجود خلافات قد تبدو مؤقتة أو يمكن فصلها وتهدئتها لحساب ما هو ضروري واستراتيجي”. 

الباحث المصري المختص في العلوم السياسية، يشير إلى أن إسرائيل بحاجة لضمان أمنها من تهديد وعداء “محور المقاومة” الذي يربك حساباتها السياسية والأمنية الاستراتيجية، لافتا إلى “ضرب المقاومة لمصالح عميقة في شرق المتوسط ويفاقم أزمات داخلية للحكومة الإسرائيلية أمام مواطنيها خصوصا المتواجدين في مناطق قريبة من الصراع كما في شمال إسرائيل والجولان، والأمر ذاته بالنسبة لروسيا التي هي بحاجة لتحقبق التوازن المطلوب للميليشيات التابعة للحرس الثوري وضبط تموضعاتها الميدانية والعسكرية عن طريق مثل هذه الضربات”. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات