مع إعلان حركة “طالبان” قراراتها التعسفية المتشددة بخصوص عزمها تطبيق الحدود والإقرار بتنفيذ العقوبات البدنية وفق تأويلات الشريعة على النحو التقليدي والقديم وبحسب أدبياتهم، تنسف الحركة الإسلاموية الراديكالية مزاعمها القديمة بالاعتدال وعدم العودة إلى ممارساتها الوحشية التي ارتبطت بفترة حكمها الأولى في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية. 

الوجه الدموي لـ”طالبان” بدأ رويداً رويداً منذ وصولها للحكم، حيث كانت تضع قدمها في السلطة وتتوغل في كابل سياسياً وميدانياً وبقدر ما يتسع نفوذها كانت تكشف عن درجة تشددها وحقيقة ما ترمي إليه من أهداف تتطابق مع سيرة العنف الأولى، وأن كل مزاعمها البراغماتية هي سلم مؤقت، فتوجهت إلى المرأة وفرضت الحجاب ومنعت الفتيات من التعليم أو بشكل أدق حظر مواصلة التعليم بعد الصف السادس، أي الاقتصار على التعليم الابتدائي الذي لن تتخطى فيه الفتاة مرحلة الطفولة تقريباً، بما يجعل معارفها محدودة على القراءة والكتابة ومن دون تنمية أي مهارات أخرى تطور قدراتها المعرفية والمهنية في المجال العام الاجتماعي والسياسي ويضمن لها المطالبة بامتيازات وحقوق مختلفة. 

“طالبان” واستخدام المرأة كـ”أداة”

وكما هو حال كافة التيارات الإسلاموية يكون العنف الممنهج بحق الفئات الضعيفة كالمرأة والأقليات، وذلك ضمن خطة لتطويعهم وضمان انصياعهم القسري وعدم تمردهم. لذا، إعلان الحركة تطبيق بعض الأحكام المتشددة مثل رجم النساء لجريمة الزنا، يقع في هذا السياق الاستهدافي بحق المرأة والتي لطالما تكون الأداة التي تعمد التيارات الأصولية المتشددة إهدار حقوقها واضطهادها حتى تبرز فائض قوتها وتوحشها لتخيف القوى الأخرى، وتنقل من خلال العنف ضد المرأة رسالة بالمآلات التي تنتظر من يعادي سلطة المعممين.

أفغنيات يتمشين في 1972 بأحد شوارع كابل- “قناة العربية”

فزعيم الحركة هبة الله آخند زاده الذي هاجم القوى الغربية التي تطالبه باحترام حقوق الإنسان على خلفية الانتهاكات المتواصلة، وقال عن المدافعين الغربيين بأنهم “حلفاء الشيطان” بينما طالب عناصر الحركة المتشددة والمسلحة بالصمود في مواقفهم العدوانية بحق المراة، لا يختلف خطابه عن باقي التنظيمات الإسلاموية التي تصنف القوى الغربية بأنها “الشيطان” كما هو الحال مع إيران الملالي، أو تنظيمي “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين، وجميعها لديهم سجلات حافلة بالعنف ضد المرأة تصل لدرجة تنفيذ الموت العلاني في الساحات والشوارع والميادين. 

نقلت صحيفة “الغارديان” عن المحامية الحقوقية الأفغانية ومسؤولة منظمة “نافذة الأمل للمرأة” صفية عريفي، مخاوفها بخصوص استئناف العمل بفتوى رجم النساء حتى الموت، واعتبرت أن هذا الإعلان المتشدد تسبب فيه صمت المجتمع الدولي عن جرائم وخروقات الحركة بحق المدنيين، موضحة أنه “مع هذا الإعلان من قبل زعيم حركة طالبان، بدأ فصل جديد من العقوبات الخاصة ومعاناة النساء الأفغانيات من عمق العزلة. لأن، لا أحد يقف بجانبهن لإنقاذهن من عقوبات طالبان. وقد اختار المجتمع الدولي التزام الصمت في مواجهة هذه الانتهاكات لحقوق المرأة”.

نهاية الشهر الماضي آذار/ مارس، بثت “إذاعة أفغانستان”  تصريح آخند زاده، الذي قال فيه: “سنجلد النساء… وسنرجمهن علناً حتى الموت (بتهمة الزنا)”. وذكر بصيغة تهديد مبطنة: “لم ينتهِ عمل حركة طالبان بالسيطرة على كابل، بل بدأ لتوه”. ورد على ما يتردد من تصريحات منددة لتجاوزات الحركة الحقوقية، وقال: “يمكنك أن تسمي ذلك انتهاكاً لحقوق المرأة عندما نرجمها علناً أو نجلدها لارتكابها الزنا لأن ذلك يتعارض مع مبادئكم الديمقراطية، لكنني أمثل الله، وأنتم تمثلون الشيطان”.

لا يمكن النظر إلى حديث الزعيم الطالباني بأنه عفوي بل يعكس أهداف استراتيجية، وسياسة تتجاوز مشهد العنف المقصود والدموي عند قطع يد سارق أو رجم امرأة بدعوى إقامة علاقة جنسية خارج الأطر الشرعية من وجهة نظر تلك التيارات.

كما نقلت الصحيفة البريطانية عن الباحثة الأفغانية في منظمة “هيومان رايتس ووتش”: “قبل عامين، لم تكن لديهم الشجاعة التي يمتلكونها اليوم للوعد برجم النساء حتى الموت في الأماكن العامة؛ والآن يفعلون ذلك. لقد اختبروا سياساتهم الوحشية الواحدة تلو الأخرى، ووصلوا إلى هذه النقطة لأنه لا يوجد من يحاسبهم على الانتهاكات. ومن خلال أجساد النساء الأفغانيات، تفرض حركة (طالبان) الأوامر الأخلاقية والاجتماعية وتسيطر عليها. وينبغي أن نحذر جميعاً من أنه إذا لم يتوقف الآن، فسوف يأتي المزيد والمزيد”.

وبحسب الناشطة الحقوقية الأفغانية في منظمة “العفو الدولية” سميرة حميدي، فإن الحركة “عملت، خلال فترة العامين ونصف الماضية، على تفكيك المؤسسات التي كانت تقدم الخدمات للنساء الأفغانيات”. “ومع ذلك، فإن تأييد زعيمهم الأخير للرجم العلني للنساء حتى الموت هو انتهاك صارخ للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”. مشيرة إلى تفاقم وضع النساء تحت حكم “طالبان”، وقد تعرض 417 شخصاً (منهم 57 امرأة) خلال العام الماضي فقط للجلد والإعدام بحسب منظمة “أفغان ويتنس”. وهي منظمة بحثية تراقب حقوق الإنسان في أفغانستان. 

مواقف متشددة ضد المرأة

لا يمكن النظر إلى حديث الزعيم الطالباني بأنه عفوي بل يعكس أهداف استراتيجية، وسياسة تتجاوز مشهد العنف المقصود والدموي عند قطع يد سارق أو رجم امرأة بدعوى إقامة علاقة جنسية خارج الأطر الشرعية من وجهة نظر تلك التيارات، حيث إن المطلوب تحقيقه من أهداف هو تعميق الانقسام العالمي والترويج لوجود قيم غربية وديمقراطية “كافرة” بينما هم يطبقون القيم “الإسلامية”، فضلاً عن الطاعة التامة لأفكارهم العقائدية وفرضها في نموذجها المحلي بحيث يتم قبولها عالمياً وكسب اعتراف دولي بها، ولا تصبح أحكامهم التي يزعمون أنها مستمدة من الشريعة وهي “أحكام إلهية” منبوذة وتصنفهم على “لوائح الإرهاب العالمي”. 

ومن هنا، تصطف القوى الإسلاموية في اتجاه التصريح علانية بمواقفهم المتشددة ضد المرأة وتطبيق العقوبات البدنية البدائية والتحريض ضد القوانين الوضعية ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بل إن المرجح أن تبدأ فصول عنف رجعة زائدة لتصبح عملياً بمثابة أمر واقع ولا يمكن الفكاك منه، وله صفة شرعية، كما في إيران. 

وفي ما يبدو أن روسيا والصين تسعى كل منهما إلى الاستفادة من صراعاتهما مع الغرب وواشنطن وتذهب إلى منح الحركة الشرعية وتتعاطى معها دبلوماسياً بصورة منفتحة. 

وزعم القائد الطالباني: “تقولون إن رجم المرأة حتى الموت انتهاك لحقوقها، ونحن في أفغانستان سننفذ حكم الرجم حتى الموت بحق الزانية قريباً، صحيح أن هذا ضد ديمقراطيتكم الغربية لكننا سنواصل القيام بذلك”. 

سياسة العداء للغرب وقيمه وأفكاره هي ضمن أهداف الحركات الإسلاموية بكافة أشكالها المختلفة، وسواء كان سنية أو شيعية، حيث إن ذلك هو السبيل لإدامة الحواضن المتطرفة وتعبئة الأفراد في إطار الحرب على الحضارة الغربية، وقد دان آخند زاده الحريات الغربية ومبادئ والقيم الحقوقية، وشدد على مقاومة الحركة لكافة أشكالهم. وتابع: “كلانا يدافع عن حقوق الإنسان الفارق بيننا أننا نفعل ذلك كممثلين لله بينما تفعلونه أنتم كممثلين للشيطان، وتعاملون النساء كالحيوانات، هل هذه حقوقكم؟”.

وبالتالي، لا يخفي آخند زاده أهدافه وسياساته الاستراتيجية بخصوص أن لديه أجندة إسلاموية ورؤية للحكم تتصادم مع المبادئ الحقوقية للدولة الحديثة في ظل التقدم والتطور السياسي والاقتصادي والتقني الذي فرض عقد اجتماعي يختلف عن ما كان في فترات سابقة، وهذه المبادئ رغم دمويتها وبدائيتها ووحشيتها لا يتنازل عن تحقيقها في الواقع، خاصة أنها محايثة لشروط حكمه القائم على فكرة “الحاكمة لله”، وهي الصفة المقدسة التي تجعل لهم الامتياز والتفوق على الحضارة الغربية وفق مزاعمهم. إذ إن اندماج هذه التيارات الإسلاموية مع المبادئ القانونية والحقوقية الحديثة والقبول بالديمقراطية ونمط الحكم في عالم ما بعد الحداثة فضلاً عن عدم معقوليته وعدم مقبوليته لديهم، فهو من الناحيتين النظرية والعملية يتصادم مع شروط وجودهم السياسي القائم على أنهم النسخة الصحيحة من الدين التي بمقدورها وحدها تحقيق العدالة واستعادة الامبراطورية الإسلامية التي امتدت أطرافها للشام والعراق مروراً بفارس ومصر وشمال إفريقيا وحتى حدود الهند وتاخمت الصين.

المرأة أثناء حكم “طالبان”- “سي إن إن بالعربية”

وهذا الحلم المتوهم أو بالأحرى الصراع الذي لا يريد الإسلاميون له أن ينفذ أو ينتهي بل إطالة أمد الحرب من خلال شن الحرب على النساء والأقليات وباقي المعارضين لهم باعتبارهم وكلاء محليين للقوى الغربية المعادية هو ما عبر عنه القائد الطالباني بقوله: “إن الاستيلاء على كابل لا يعني أننا سنجلس الآن في المكاتب ونشرب الشاي، ونحن لم ننته بعد سنقوم الآن بتطبيق الشريعة على هذه الأرض”.

التشبث بالأفكار المتشددة

وعليه، فإن الحركة المتشددة التي عادت لحكم كابل قبل نحو ثلاثة أعوام، وأعلنت تلك التصريحات المتشددة قبل أيام قليلة، تتماهى مع مبادئها الدينية المغلفة بطبقة صلبة تقاوم التغيير أو المرونة أو حتى المراجعة، إنما لا تقاوم إغراء المخاتلة والتقية الدينية السياسية على نحو مؤقت حتى تصل إلى مرحلة التمكين في السلطة، فالحركة التي تأسست في منتصف تسعينات القرن الماضي على يد الملا محمد عمر وانتمى للأخير طلاب المدارس الدينية في قرية ديوبند بالهند، وأعلنت “الإمارة الإسلامية” في كابل بعد وصولها للحكم للمرة الأولى عام 1996، لم تتحرك قيد أنملة بعيداً عن أفكارها القديمة بخصوص منع النساء من التعليم والعمل، والعنف الوحشي ضد المعارضين، واعتبار مقولات “أمير المؤمنين” نهائية لا يمكن الطعن فيها أو مراجعتها، سواء كان الملا عمر أو الأمير القائد الحالي آخوند زاده.

والحكومة في وجهة نظر التيارات الإسلاموية تختلف تماماً في طبيعتها الوظيفية ومصادر سلطتها عن ما هو قائم في الدول بمفهومها السياسي والقانوني الحديث، حيث إن الأولى تستمد مرجعيتها من فكرة “الحاكمية” التي كان أبرز منظر لها أبو الأعلى المودودي الباكستاني ثم سيد قطب في مصر وقد أخذ من سابقه البناء الفكري واستلهم منه “مانفيستو” العنف الإسلامي الذي تتبناه كافة التيارات الراديكالية، حيث يقول المودودي إن مهمة “الدولة الإسلامية” ليست في “الأمن والدفاع عن الحدود والأرض والسيادة أو تحسين مستوى المعيشة” بل “ترقية الحسنات التي يريد الإسلام أن تُحلى بها الإنسانية، وتستنفد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر منها الإنسانية”، وهذه المبادئ التي صاغها المودودي في كتابه المعروف بـ”تدوين الدستور الإسلامي” يقود إلى رؤية كفاحية تقوم على الجهاد والعنف بناء على التفويض الإلهي بحسب مزاعمهم.

ويؤكد المودودي رفضه أن يتولى الأقليات في الحكومات الإسلامية أي مناصب تمثيلية وعدم مشاركتهم في الحكم والسياسة هو امتثال لـ”عهد النبوة” وكذا “عهد الخلافة الراشدة”، وفي كل منهما لم يكن هناك أي اختيار لـ”أهل الذمة” في “مجلس الشورى”، أو في مناصب القضاء والحكم والوزارة أو قيادة الجيش. وينطبق الأمر ذاته على المرأة فيقول: “ليس في كتب التاريخ أو الحديث أي دليل أو حادثة تشير إلى أن النبي أو أحد الخلفاء الراشدين منحوا المرأة فرصة للمشاركة في مجلس الشورى”.

ومثلما اعتبر المودودي أن الأحزاب السياسية من بين “العصبية الجاهلية” وأن “لا حزبية في الإسلام” وفق الشعار الشهير لتيار الإسلام السياسي الأم، أقرت “طالبان” حظر الأنشطة السياسية في آب/ أغسطس العام الماضي، بدعوى “عدم وجود أسس شرعية وفقهية لها”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة