مثّل انفتاح الصين على أفغانستان في ظل حكام كابل الجدد، سابقة تكشف عن ديناميات السياسة في بكين وبراغماتية التعاطي مع المحيط الجيو استراتيجي، رغم التناقضات التي تبدو قائمة، ظاهرياً، على خلفية التباين الأيدولوجي، أو ما نجم إثر خلافات قديمة في المرحلة الأولى لحكم “طالبان” مع وجود مسلحي الإيغور بما يمثل تهديدات مباشرة على بكين. غير أن بحث بكين عن مصالحها الاقتصادية والتجارية، ومنها الموارد الطبيعية، النحاس والحديد والليثيوم والنفط، يجعل الفرص تتزايد باتجاه الحركة السياسية المنفتحة والمرنة على كابل.

ولهذا، ذكرت وزارة الخارجية الصينية، أن سفيرها قام بتقديم أوراق اعتماده في حفل أقيم في كابل، فيما تعد بكين أول دولة تعين سفيراً لها منذ سيطرة الحركة المتشددة والأصولية على الحكم. وجاء في بيان الخارجية الصينية: “هذا هو التناوب الطبيعي لسفير الصين في أفغانستان، ويستهدف مواصلة دفع الحوار والتعاون بين الصين وأفغانستان.. سياسة الصين تجاه أفغانستان واضحة وثابتة”. 

ونقلت وكالة “رويترز” للأنباء عن الناطق بلسان وزارة الخارجية في حكومة “طالبان”: “إن المبعوث الجديد تشاو شينغ هو أول سفير دولة يتولى المنصب” وذلك منذ آب/ أغسطس 2021، حيث صعدت “طالبان” للسلطة بعد فرار الرئيس أشرف غني وانسحاب الولايات المتحدة من البلاد بعد نحو عقدين.

أفغانستان.. نقطة عبور استراتيجية للصين

ربما، تبدو مظاهر الاحتفاء غير العادي التي سجلتها وسائل الإعلام المختلفة لتعيين الصين سفيراً لها في أفغانستان، جزءاً من الكرنفال السياسي المقصود لحاجة حكام كابل الجدد إلى هذا الرواج لحكمها، وكذا البحث عن شرعية من خلال الاعتراف بها من قبل الأطراف الإقليمية والدولية، ومن ثم وظفت خطوة الصين السياسية والدبلوماسية لتحقيق أقصى استفادة ممكنة. 

وفي المقابل، فإن بكين، هي الأخرى، ترى كابل ضمن خطتها لتدشين شبكة ممرات تجارية عالمية “الحزام والطريق”، ومهمته ربط بكين بآسيا وإفريقيا وأوروبا. وفي هذا الممر العالمي والحيوي والذي يبدو شرياناً يتعين ضخ استثمارات هائلة من خلاله، تبرز أفغانستان مثل نقطة عبور استراتيجية نحو آسيا الوسطى والشرق الأوسط.

ولا تعدو عملية الاعتراف “المتزايدة” و”العلانية” للصين بحكم “طالبان” كونها أمراً جديداً أو مباغتاً، بل إن سوابق عديدة بين البلدين تكشف عن محطات من التعاون، وبخاصة الأمني، بما يضمن المصالح الاستراتيجية بين الطرفين، تحديداً الصين التي كانت تتخوف من مسلحي الإيغور بأفغانستان، وتتحرى تأمين الممرات التي ستشكل شبكتها التجارية العالمية. والشاهد من تحركات بكين تجاه كابل هو الهاجس الأمني والمصالح الاقتصادية. 

أمام إغراءات الصين بأداء دور تنموي لطالبان، فإنها تلح على الأخيرة بضبط وقمع أي نزعة مسلحة من الإيغور قد تجد في الأولى حاضنة أو ملاذات آمنة.

تتزامن تحركات بكين وتوسعها السياسي والدبلوماسي إزاء “طالبان”، مع حركة مماثلة في دائرة المصالح أو التنقيب عن الموارد الطبيعية، سواء النفط في حوض آمو داريا شمالي أفغانستان، أو مناجم الليثيوم في ولاية غزني، الأمر الذي العلاقات بها هذا القدر من السيولة والدفء بين الطرفين.

السعي لاستغلال موارد أفغانستان

في إشارة لافتة، يقول الباحث المختص في العلاقات الدولية، الدكتور عبد السلام القصاص لموقع “الحل نت”، إن أفغانستان تمثل “نقطة جذب استثماري” في خطط ومشاريع بكين، فضلاً عن الموارد المهمة كالنفط والليثيوم والنحاس، لكن الأمر الأكثر أهمية من ذلك بالنسبة لبكين يتمثل في “مواصلة البحث عن مناطق التنافس القصوى مع الولايات المتحدة”.

كما أن مسألة الخلاف بين البلدين على الأساس الأيديولوجي لا تبدو “مسألة حاسمة في مجال العلاقات الدولية، خاصة في أجندة الصين البراغماتية، والتي تعطي الأولوية للمنافع والعوائد الاقتصادية والتجارية، مع الأخذ في الحسبان أن هذا الخلاف في حقيقته ليس جوهرياً، بل مسميات والنتائج في المحصلة واحدة، حيث إن بكين وطالبان كل منهما يتشارك الملف الحقوقي نفسه في قمع النساء مثلاً والأقليات حتى مع اختلاف الأدوات التي تدير هذا القمع وحمولاتها العقائدية”، في إشارة للإسلام السياسي والشيوعية.

الباحث المختص في العلاقات الدولية، يلفت إلى أن أفغانستان الغنية بالموارد الطبيعية التي ستتمكن الصين من استغلالها وإدارة هذه الموارد بإمكانيتها ستكون بالنسبة للأخيرة عبارة عن “سوق جديد” للمنتجات الصينية.

مسؤولون أفغان وسكان محليون يتفقدون ممر واخان البري الذي يربط أفغانستان بالصين – (الجزيرة)

بحسب المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، فـ”بالنسبة لبكين، يثير استيلاء طالبان السريع على العاصمة كابل والقصر الرئاسي الكثير من المخاوف من أن الاضطرابات وعدم الاستقرار يمكن أن تمتد إلى منطقة شينجيانغ الغربية الحساسة للصين، والتي تعد موطناً لقومية “الإيغور” المسلمة. كما تتخوف الصين من أن تدهور الأوضاع قد يضر باستثماراتها الاستراتيجية في إطار مبادرة (الحزام والطريق)”. 

مخاوف بكين تمثلت أيضاً في حالة عدم اليقين التي أثارها طالبو اللجوء الأفغان المتجهون إلى حدود الصين، فضلاً عن علاقات “طالبان” الحالية مع الجماعات الإرهابية، خاصة وأن “طالبان” الآن تختلف عن “طالبان” عندما كانت في الحكومة منذ 20 عاماً، حيث ترى الصين أن طالبان تتمتع الآن بعلاقات عميقة الجذور ومعقدة مع الجماعات المتطرفة والإرهابية. وبالتالي سيكون من السابق لأوانه تقدير حجم القلق الصيني إزاء مستجدات الأحداث على الساحة الأفغانية.

“المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية” يردف: “بالنسبة للصين فإنها ترى أن طالبان قوة سياسية في أفغانستان لا يمكن تجاهلها، سواء كانت في السلطة أم لا. لذا في ظل هذه الظروف، ترى بكين أن التعامل مع طالبان أفضل من عدم التعامل معهم. وفي هذا السياق، أبدت الصين استعدادها لتطوير علاقات حسن جوار وعلاقات ودية وتعاونية مع أفغانستان في ظل حكم طالبان. ويُمكن للصين أن تشارك في إعادة الإعمار بعد الحرب، وتوفير الاستثمار للمساعدة في التنمية الاقتصادية المستقبلية للبلاد، لكنها لن تقوم بذلك حتى تتأكد من استقرار الوضع الأمني، إذ وفي ظل سيطرة طالبان بالفعل على معظم أفغانستان فإن العديد من الأماكن ما تزال مضطربة، ولا يزال الوضع يتغير بسرعة كبيرة، لذا فإن المساعدات ستكون رهينة باستقرار الأوضاع”.

“طالبان” والسعي لكسر عزلتها الدولية

إلى ذلك، يرى الكاتب والمفكر السوري، المقيم في فرنسا، خلدون النبواني، أن اشتراك الصين مع أفغانستان بحدود تصل إلى 76 كم، يجعل من الصين تجد في “طالبان” منطقة خصبة وأرضاً حدودية مهمة للاستثمار التجاري والاقتصادية. 

النبواني يضيف في حديث خاص مع “الحل نت”: “لنتذكر أن أفغانستان بلد يمتلك ثروات باطنية مهمة وبخاصة النفط والنحاس وهما لم يتم استثمارهما عموماً. وذلك بسبب الحروب والاضطرابات في هذا البلد الذي يتم التنافس عليه بشكل كبير منذ الحرب البادرة ما بين ما كان يسمونها منظومة الاتحاد السوفيتي والغرب الليبرالي”.

الآن وبعد سقوط حكومة كرازي وعودة “طالبان” للسلطة، انسحبت معظم الدول من أفغانستان، وليس هناك اعتراف دولي بها، وليس هناك حتى تمثيل لطالبان لدى دول العالم، ما عدا تقريباً الصين، كما يقول النبواني. وصحيح أن الصين لم تعترف بطالبان ولكنها قبلت بسفير لها لديها، وعينها بشكل مباشر على النفط والنحاس، والنحاس رقم واحد. وهناك رغبة للاستثمار في هذا البلد الذي أصبح معادياً للغرب ورافضاً لكل أجندات الغرب، كما أن الصين ليس لديها ضغوطات على قضايا تدور حول حقوق الإنسان.

بالتالي، ربما تجد حكومة “طالبان” إمكانية أكبر للتعاون والتعامل مع بكين مقارنة مع الدول الغربية، ففتحت الأبوب أمام الصين من أجل هكذا استثمار، وبخاصة مثلما ذكرت، والحديث للكاتب والمفكر السوري المقيم بفرنسا، أن “طالبان” أرسلت سفيراً لها إلى الصين وهذا يعني أيضاً إمكانية أنها تريد أن تخرج من العزلة الدولية من بوابة الصين.

والأخيرة -أي الصين- تقوم “بلعب دور كبير جداً في إعادة تشكيل العالم ضمن أقطاب جديدة”، خاصة أنها لعبت دور المصالحة في إعادة العلاقات ما بين إيران والسعودية. من ثم، فالصين تتقدم بقوة بالمجال الاقتصادي والدبلوماسي وتؤجل الحروب المباشرة، بحيث تسمح لنفسها بمزيد من القوة الاقتصادية ومحاولة التأثير ولعب دور مهم جداً على الساحة الدولية وبخاصة من الجانب الاقتصادي.

أيضاً الصين تريد أن تجعل من حدودها مع أفغانستان جزءاً من الممر التجاري لمشروع “طريق الحرير”، وهو أيضاً “مدار للصراع” ما بين الصين والقوى الغربية، لا سيما الولايات المتحدة التي تجد في الصين تهديداً كبيراً، وعليه “ربما أفغانستان ستكون جزءاً من مشروع “طريق الحرير”، وهناك استثمارات كبيرة اقتصادية بشكل أساسي، ولا يوجد هناك مشكلات أيدولوجية خطيرة بينهما، مع تخوف الجانب الصيني بأن حدودها المشتركة مع أفغانستان والتي تقطنها الجالية المسلمة والروهينغا، قد تتحول لمنطقة إرهابية. ولكن الصين تريد استثمار تلك المنطقة، وذلك بفتح مجال تجاري فيها (…) كل ذلك يجعل الصين تتقدم بنفوذها في كل هذه المنطقة، وإذا حدث ذلك بالفعل، فنحن أمام إعادة رسم وتشكل عالم جديد متعدد الأقطاب”، يقول النبواني مختتماً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات