“وحدة المجتمع الروسي هي السلاح الرئيسي للبلاد”. هذه العبارة، أو بالأحرى الرسالة المزدوجة، بعث بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لقوى محلية كما للغرب والولايات المتحدة اللتين يخوض ضدهما حربا في أوكرانيا. فخلال النصف الأول من آذار/ مارس الحالي، كرر تلك العبارة التي تبدو مماثلة للخطاب السياسي الذي يستعين به قادة الأنظمة القمعية والأوليغارشية التي تتوجس من التنوع، بينما ترى في “وحدة المجتمع” ضرورة للحد من الاختلافات ولجم المعارضة، بحيث يضحى المجتمع كتلة متجانسة تصطف وراء “القائد” في مواجهة القوى المعادية. 

ويكاد لا يختلف الخطاب البوتيني كثيرا في حرفيته كما في مضمونه عن ما تردده طهران ودمشق، بغض النظر عن مصادفة تحالفهما البراغماتي والاستراتيجي معا. 

ومع بدء فترة رئاسية جديدة لبوتين تمتد لستة أعوام تضاف إلى عقدين لم يغادر خلالهما موقع السلطة والنفوذ، تلح تساؤلات عديدة حول نزاهة تلك الانتخابات، والتي ربما، لم تشهد تزويرا بالمعنى الشائع والتقليدي، إلا أنه، وفي ظل شح المعلومات وغياب الشفافية، حتما هناك فرض إرادات قسرية لتحقيق الطاعة السياسية لبوتين، وإهدار أي فرص أخرى لغيره، وذلك من خلال التضييق على الصحافة وقوى المجتمع المدني وملاحقة الأحزاب وفرض قوانين تحرم أو تجرّم الأنشطة التي تصنفها أجهزة الأمن الروسية بـ “العمالة” و”تهدد الأمن القومي”. 

بوتين وتصفية معارضيه

كأن تخطي بوتين لعقدين في الحكم وقد لامس أكثر من ربع قرن يضعه في مقاربة حتمية مع جوزيف ستالين، والذي حكم نحو ربع قرن الاتحاد السوفيتي السابق، بينما شهدت فترة حكمه توحشا يرقى إلى “جرائم ضد الإنسانية”، خاصة في ظل تصفية خصومه ومعارضية وتورطه في قتل 20 مليون شخص. وبحسب ما نقلت الأديبة والصحفية الروسية لاريسافا سيلفيا عن المذكرات السوفيتية، فقد وصف زعيم الثورة البلشفية والزعيم الشيوعي فلاديمير لينين ستالين بأنه “فظ خشن وغير منصف”. فيما بلغت دمويته حدودا لا نهائية، وفق ما ذكرت في كتابها “نساء الكرملين”. فتحوم حوله شبهات تتعلق بتدبير قتل زوجة لينين بالسم، ونفي ثم قتل منافسه الشيوعي ليون تروتسكي. وتبقى الشبهة الأكثر فداحة تتعلق بالموت الغامض لزوجته وما إذا كانت انتحرت عمدا نتيجة إهانة بالغة مست كرامتها بسببه، أو هو من تورط في التخلص منها.

الانتخابات انتهت بفوز بوتين وهزيمة للمعارضة، صورية رمزية، لا تشكل منافسة جادة وتهديدا لحكمه بالشكل الذي يفرض بدائل سياسية عن البوتينية بروسيا. بل إن بعضهم يتماهى مع السياسات ذاتها ولا يسجل أي مواقف معارضة في “الكرملين” عبر ممثليهم الحزبيين، بما يجعل الاستحقاق أمام صورة من التغييب القسري لبيئة تنافسية ديمقراطية. وهي عملية ممنهجة تتم هندستها من خلال سحق أي معارضة سواء بالتعاطي الخشن على طريقة ما جرى مع أليكسي نافالني، أو بشكل ناعم ومستتر كما يتم من خلال القوانين التي تحظر الأحزاب، بينما تشوه منظمات المجتمع المدني، وكذا تلاحق الصحافيين والحقوقيين، كما السياسيين.

نهاية تموز/ يوليو العام الماضي، وبالتزامن مع حملة قمع طاولت خبيرا سياسيا معارضا للحرب في أوكرانيا هو بوريس كاغارليتسكي، وكذا المخرجة بفغينا بيركوفيتش التي جرى اعتقالها هي الأخرى، زعم الرئيس الروسي أنه بصدد مواقف ضد من وصفهم يتسببون في “أضرار” داخل روسيا. وقال: “علينا أن نضع في اعتبارنا أنه لكي ننجح، بما في ذلك في منطقة النزاع، يجب علينا اتباع قواعد معينة”.

وفي ظل هذا المناخ من تعميم الخوف ونشر الرعب، وفرض سلطة بطريركية ليس بمقدور أحد أن يتصدى لها أو يهز قداستها بالمعارضة والتشكيك، أو حتى النقد والمسائلة، فإن الاستحقاق الانتخابي الرئاسي سيظل تحصيل حاصل وعبارة عن تجديد “البيعة” في حالة كرنفالية، لا تمت للسياسة والدولة بالمعنى الحداثي بصلة.

فلاديمير بوتين – إنترنت

فيما اعتبر “البيت الأبيض”، أن الانتخابات الرئاسية الروسية “ليست حرة ولا نزيهة لأن الرئيس فلاديمير بوتين زج بمعارضيه في السجن ومنع آخرين من الترشح أمامه”. وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن إعادة انتخاب، فلاديمير بوتين، رئيساً لروسيا جرت في انتخابات استندت إلى “القمع والترهيب”، وذكر بوريل، أن “هذه الانتخابات ارتكزت على القمع والترهيب”، ولم تكن “حرة أو نزيهة”.

الباحث الروسي مدير وحدة الدراسات الروسية في “مركز الدراسات العربية الأوراسية”، ديمتري بريجع، يقول إن التحدث عن تخوفات الروس السياسية والقلق الذي يشعرون به يعكس مجموعة من العوامل المعقدة. موضحا لـ “الحل نت”، أن بوتين وسياساته الخارجية والداخلية قد أثارت مخاوف بشأن استمرارية الصراع مع الغرب وتأثيرها على الاستقرار السياسي والاقتصادي في روسيا. 

تضييق على المجتمع المدني والأحزاب

الصراع في أوكرانيا ودعم الغرب لأوكرانيا، زاد من التوترات والقلق بين الروس، وفق بريجع. ويقول إنه “بالنسبة للمجتمع المدني الروسي والأحزاب، فقد شهدت روسيا في السنوات الأخيرة تشديدا على الضغط على المنظمات غير الحكومية والأحزاب المعارضة. تم تقييد حرية التجمع والتعبير، وتشديد الرقابة على وسائل الإعلام المستقلة. تعتبر هذه الخطوات جزءا من جهود بوتين لتعزيز السيطرة على السلطة والمؤسسات في البلاد. من خلال التقييدات والقيود على المجتمع المدني والأحزاب، تم تقويض دورهم في التأثير على السياسات الحكومية والمساهمة في الحوار الوطني. هذا التقويض يمكن أن يرى على أنه جزء من استراتيجية لتعزيز سيطرة الحكومة وتقوية قبضتها على السلطة”.

الحرب في أوكرانيا أثّرت بشكل كبير على المجتمع المدني الروسي، وفق الباحث الروسي ومدير وحدة الدراسات الروسية في “مركز الدراسات العربية الأوراسية”، لافتا إلى أنه “بعد بدء الهجوم الروسي بالكامل في شباط/ فبراير 2022 وحتى الوقت الحالي، يشعر المجتمع المدني الروسي بالتفكك والتشتت في مختلف البلدان، حيث يبحث العديد من الروس عن طرق للتعبير عن معارضتهم للحرب، والمشاركة في العمليات السياسية، والتواصل بنشاط مع بعضهم البعض. ففي آب/ أغسطس العام الماضي، أعلنت السلطات إغلاق منظمة حقوقية هي ساخاروف”.

تنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن نينا خروشيفا، أستاذة الشؤون الدولية في “جامعة نيو سكول” في مدينة نيويورك، والتي تزور روسيا بانتظام: “الناس قلقون للغاية”، مشيرة إلى أن “حالة انعدام اليقين هي الأسوأ، بالرغم من أن الشعب الروسي اعتادها”. وتعكس هذه المخاوف، وفقا للصحيفة الأميركية، المزاج الحالي في روسيا، حيث تعلم الكثيرون “الأمل في الأفضل لكن مع توقع الأسوأ”، لافتة إلى أن حالة عدم اليقين التي تحدثت عنها خروشيفا وخبراء آخرين “تفاقمت”، مع حديثهم عن أن “روسيا أصبحت أكثر استبدادية”.

وتشير الصحيفة الأميركية، إلى أن بوتين لم يعد “مقيّدا بحزب معارض في البرلمان أو مجتمع مدني قوي”، ومن ثم فهو “حر نسبيا في التصرف كما يحلو له”. فيما رجح خبراء بأن “الكرملين” قد يوظف تلك النتائج بالاستحقاق الانتخابي لجهة مواصلة “قمع المعارضة بشكل أكبر وتصعيد الحرب في أوكرانيا”.

وفي تقرير سابق لـ “هيومن رايتس ووتش”، قالت إن الحكومة الروسية شنت حملة قمعية استهدفت المجتمع المدني في العام التالي على عودة فلاديمير بوتين إلى الرئاسة، وهي الحملة التي تُعد غير مسبوقة في تاريخ روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

التقرير المعنون بـ “قوانين للإنهاك: حملة قمع المجتمع المدني الروسي بعد عودة بوتين إلى الرئاسة”، يصف بعض التغييرات التي طرأت منذ عودة بوتين إلى الرئاسة في أيار/ مايو 2012. وقد استعانت السلطات الروسية بجملة من القوانين التقييدية وبدأت في حملة شملت جميع أنحاء البلاد اشتملت على عمليات التفتيش التي انطوت على تعديات لمقار المنظمات غير الحكومية، وعلى مضايقات وترهيب وحبس نشطاء سياسيين في عدة حالات، مع السعي إلى وصم من ينتقدون الحكومة بأنهم أعداء سريين. ومن بين تلك القوانين “قانون العملاء الأجانب”، وقانون “الخيانة”. كما وثّق التقرير الحقوقي، الحملة التي عمت جميع أنحاء روسيا واشتملت على تدخلات وعمليات تفتيش حكومية لمقار مئات المنظمات، وشارك فيها مسؤولون من جهات وقطاعات بالدولة. 

القضاء الروسي: أداة للقمع؟

هيو ويليامسن، قال: “تزعم الحكومة إن هذه عمليات تفتيش روتينية، لكن يبدو بوضوح أنها ليست كذلك”. وتابع: “هذه الحملة غير المسبوقة في مجالها ومستواها يبدو أنها تهدف بوضوح إلى ترهيب وتهميش منظمات المجتمع المدني. يمكن استخدام حملة التفتيش هذه لإجبار بعض المنظمات على الكف عن أعمال مناصرة حقوق الإنسان والدعوة لاحترامها، أو لإجبارها على أن تغلق أبوابها”.

الكاتب السياسي درويش خليفة، يقول إن المعارضة والمجتمع المدني الروسي قد تعرض كل منهما لانتهاكات عديدة من قبل الحكومة الروسية التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين. ومن أهم هذه الانتهاكات، القيود التي فرضها على الحريات الأساسية، التي تشمل حرية التعبير وحرية التجمع وحقوق الإنسان، حيث تم فرض قيود صارمة على المعارضة السياسية والمنظمات غير الحكومية.

لوحة زيتية تجسد جوزيف ستالين – إنترنت

كما عانت الأحزاب السياسية المعارضة وقادتها من الاضطهاد والاعتقالات التعسفية، وفق حديث درويش لـ “الحل نت”، مما أدى إلى تقييد نشاطها وتقويض قدرتها على التأثير في الساحة السياسية. وألمح إلى تسييس القضاء في روسيا وقد تحول إلى أداة لقمع الآراء السياسية المختلفة. ولم يتوقف القمع عند الحدود السياسية فحسب، بل فرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام المستقلة وتم تشديد الرقابة على الإنترنت، على النحو الذي أدى لتقييد حرية التعبير وانتشار المعلومات.

فيما تعرض العديد من النشطاء والمعارضين للاغتيال والإخفاء القسري، كان آخرهم المعارض السياسي البارز  أليكسي نافالني، وتشكل تلك الانتهاكات وغيرها جزءا من سجل حقوق الإنسان المثير للقلق في روسيا خلال فترة حكم بوتين. ففي عام 2012، تم اعتقال أعضاء فرقة Pussy Riot، بما في ذلك ناديجدا تولوكونيكوفا وماريا أليخينا. وذلك بعد أدائهم لأغنية احتجاجية في كاتدرائية في موسكو تنتقد بوتين والكنيسة الروسية الأرثوذكسية. في شباط/ فبراير 2015، تم اغتيال بوريس نمتسوف، السياسي المعارض والناشط البارز بالقرب من “الكرملين” في موسكو، حيث كان نمتسوف يعارض بشدة سياسات الحكومة الروسية بقيادة بوتين وكان ينتقد الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

ولم يسلم المعارض الراحل مؤخرا، نافالني، والحديث للكاتب السياسي درويش خليفة من الاعتقال منذ عام 2020، حيث وجد ميّتا في سجنه، عندما كان يقضي حكما لـ 19 سنة، في سجن ناءٍ في المنطقة القطبية الشمالية، بتهمة “التطرف”، وهي تهمة دوافعها سياسية. كل هذه الأمثلة تمثل فقط غيض من فيض من الحالات التي تملأ سجل بوتين الحقوقي وتحفل بجرائم عديدة ومتفاوتة. وقد تعرضت فيها المعارضة كما النشطاء الروس في مجالات حقوقية وسياسية كثيرة لانتهاكات خلال فترة الحكم الممتدة لعقدين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات