فعليا، تشهد الساحة في سوريا تغيرات جوهرية بتوازن القوى، حيث يظهر الدور الروسي علامات تراجع واضحة مؤخرا في نفوذه داخل دمشق، فما أسباب هذا التراجع؟ أسباب سنبحث عن أجوبة واقعية لها في السطور التالية.

 على الرغم من الدور الحاسم الذي قامت به روسيا في دعم الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن التحولات الجيوسياسية والمستجدات المحلية تلقي بظلالها على مشهد المواجهة السورية، وهنا سنقوم بمراجعة أسباب تأثيرات تراجع الدور الروسي المحتملة.

تعَدُ الأزمة السورية واحدة من أبرز التحديات التي واجهها المجتمع الدولي في العقد الأخير، حيث تشهد البلاد صراعا دمويا متسارعا منذ نحو 13 عاما وحتى اليوم.

ازدياد الضغوط الدولية على موسكو

فيما يتعلق بروسيا، فقد ازدادت الضغوط الدولية على موسكو التي تلعب دورا حاسما في هذا الصراع، نتيجة التقارير المتواترة عن انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا.

تاريخ دخول روسيا على الساحة السورية يعود إلى عام 2015، حين اتخذ “الكرملين” قرارا بالتدخل العسكري لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، ومع مضي الوقت، زادت التقارير حول انتهاكات وجرائم حرب في سوريا، ما أثار استياء المجتمع الدولي وفرض ضغوط إضافية على روسيا.

تتنوع وسائل الضغط الدولي على روسيا، بدءا من فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، وصولا إلى المحاكم الدولية التي تطالب بمحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، يتزايد تأثير هذه الضغوط السلبية على الاقتصاد الروسي، وذلك خاصة مع استمرار توسيع نطاق العقوبات.

في هذا السياق، يعزز التركيز على تقارير استخدام الأسلحة الكيميائية تلك الضغوط، حيث تسعى الدول الرائدة إلى تحميل روسيا مسؤولية وقف هذا النوع من الهجمات، الأمر الذي قد يؤدي الى تقليص دعم موسكو للحكومة السورية، حيث يصبح الثمن الدولي باهظا.

بعد وقت قصير من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022 تم إعادة نشر سرب من الطائرات المقاتلة من طراز “Su-25” في روسيا، وفي آب/ أغسطس من نفس العام، أفادت التقارير أنه تم شحن نظام صاروخي بعيد المدى من طراز “S-300” إلى شبه جزيرة القرم من ميناء طرطوس السوري.

جندي روسي في سوريا – إنترنت

بالإضافة إلى ذلك، انسحب الجيش الروسي من بعض مناطق اللاذقية، التي أعاد مقاتلو “حزب الله” الموالي لإيران توغلهم ونفوذهم فيها على الفور، ولا تزال عمليات نقل القوات الروسية ذات الخبرة إلى أوكرانيا واستبدالها في سوريا بجنود مبتدئين مستمرة.

اليوم، تشارك القوات الروسية في عدد أقل من العمليات العسكرية في سوريا، وذلك ببساطة لأن المرحلة النشطة من الصراع السوري قد انتهت، ومع ذلك، لا تزال الغارات الجوية على الأراضي السورية مستمرة، وكذلك المناورات العسكرية الروسية المشتركة مع الجيش السوري.

أوكرانيا تجبر “الكرملين” على تقنين نفوذها في الشام

الباحث في الشأن السياسي ديمتري بريجع، يقول في حديث مع “الحل نت”، إن الوضع اليوم في روسيا وفي ظل أزماتها السياسية وحربها على أوكرانيا يُحتم عليها تغيير أولوياتها.

“هناك احتياجات مختلفة لروسيا اليوم واهتمامات أخرى. هناك تنافس مع الغرب، وهناك الحرب في أوكرانيا يجب إنجازها وإتمام السيطرة على المقاطعات الأربعة. روسيا الآن بحاجة إلى جنود في كييف أكثر من سوريا”، يبيّن بريجع.

بالنسبة لموسكو الغارقة في الصراع الأوكراني، فإن النتيجة المثالية في سوريا ستكون المصالحة بين الأطراف المتحاربة، وحاولت روسيا مطلع العام الجاري تنظيم حوار بين وزير الخارجية السوري ونظيره التركي، إذ أن تركيا قد تلعب دورا حاسما في حل الصراع السوري، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أنقرة تخلت منذ فترة طويلة عن هدف الإطاحة ببشار الأسد، الأمر الذي قد يكون شكلا من أشكال الحوار لكلا الجانبين.

المحلل السياسي أندريه مورتازين يقول في حديث مع “الحل نت”، إن الحرب في أوكرانيا تفرض على روسيا إبقاء تركيز قواتها هناك عوضا عن سوريا، “للحد من التدخل الغربي في كييف” على حد تعبيره، أو بمعنى آخر لتقويض قوة أوكرانيا في الدفاع عن أراضيها.

“تحولت أوكرانيا  إلى رأس الجسر لحلف الناتو، لذا لا يمكن لروسيا الانسحاب من تلك المناطق حتى لا تسيطر قوات حلف الناتو عليها”، كما يقول مورتازين، الذي يوضح أن موسكو تركز على العمليات العسكرية شمال أوكرانيا وتصرف احتياطاتها العسكرية والاقتصادية على حربها هناك.

تشكل المواجهة بين إيران وإسرائيل عقبة أخرى أمام حل الصراع السوري، فمن ناحية، تحاول روسيا الحد من التوترات؛ ومن ناحية أخرى، سمحت لإسرائيل بتدمير المواقع الإيرانية والمدعومة من إيران في سوريا مرارا وتكرارا. أدى التعاون الوثيق بين موسكو وطهران نتيجة للحرب في أوكرانيا إلى تعقيد عملية توازن القوى بالنسبة لروسيا بشكل خطير.

يقول بيرجع، إن “العلاقات الروسية الإيرانية متذبذبة،  ففي الأساس تبقى روسيا أقرب الى إسرائيل من إيران،  وهو أمر معروف منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكن ومع مرور الوقت، هناك تغييرات سياسية تشهدها روسيا ستعزز بدورها سلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووضعه على هرم السلطة مجددا”. 

تأثير الوضع الاقتصادي على استراتيجية روسيا في الأزمة السورية

من بين الجوانب الرئيسية التي قد تشكل مركزا لتحول الوضع الاستراتيجي الروسي هي القضايا الاقتصادية، ففي حال تزايد الضغوط الاقتصادية على روسيا، قد تجد الحكومة الروسية نفسها مضطرة للتركيز على مشاكل اقتصادية داخلية، مما يجعلها تقلل من تورطها أو تدخلها في نزاعات إقليمية، بما في ذلك الأزمة السورية.

التكاليف الاقتصادية الهائلة التي يتحملها الاقتصاد الروسي نتيجة للتورط في النزاع السوري تعتبر عبئا كبيرا على الخزانة الروسية، خاصة في ظل استمرار الحروب والتحديات الاقتصادية العالمية. 

يتطلب تمويل النشاط العسكري، وخاصة في سياق صراع دائم مثل النزاع السوري، إنفاقا هائلا يمكن أن يؤثر على الاقتصاد الروسي ويقلل من إمكانية تحقيق التنمية المستدامة.

مع ذلك، يقول بيرجع في حديثه مع موقع “الحل نت”، إن روسيا لن تنسحب تماما من سوريا، وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية. “يجب أن نفهم أن هناك اتفاقية عمرها أكثر من 40 عاما بين دمشق وموسكو. الموانئ السورية ستبقى تستفيد منها روسيا إضافة إلى الأراضي الساحلية”. 

قوات روسية في سوريا – إنترنت

حديث بيرجع هو إشارة إلى اتفاقيات اقتصادية عديدة وقعت بين الطرفين -روسيا وسوريا- خلال السنوات الأخيرة، منها تعاقدات شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسية الخاصة مع حكومة دمشق لاستئجار مرفأ طرطوس لنصف قرن قادم، بالضبط 49 عاما مقبلا..

علاوة على ذلك، قد يكون لتغير التحالفات الإقليمية تأثيرا كبيرا على استراتيجية روسيا في سوريا، ففي ظل تطور العلاقات مع دول أخرى وتبدل الديناميات الإقليمية، قد يتطلب من روسيا إعادة تقييم دورها في سوريا وتعديل استراتيجيتها وفقا للمصالح الجديدة.

 موسكو والاضطرار لعدم التدخل في سوريا ماليا وعسكريا

تشهد الأوضاع الإنسانية في سوريا تحولات كبيرة مع تراجع الدعم الروسي، الذي كان يمثل عنصرا حيويا في تعزيز قدرة الحكومة السورية على مواجهة التحديات الإنسانية، ويتجلى تأثير هذا التراجع في زيادة حاجة دمشق إلى المساعدة الإنسانية، مما يعكس تفاقم الأوضاع وتعقيد الأزمة الإنسانية في البلاد.

في ظل استمرار النزاع وتأثيره الكبير على البنية التحتية والخدمات الأساسية، يصبح التحدي أكبر مما كان عليه سابقا، فمع تراجع هذا الدعم، يتزايد العبء على المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية، وقد تجد نفسها غير قادرة على تلبية احتياجات السكان المتزايدة بسبب تفاقم الأزمة.

مؤخرا، أوقفت روسيا مساعداتها المالية لسوريا. وفي ربيع عام 2023، أفادت وزارة الخارجية الروسية بتسليم 5500 طن من البضائع الإنسانية إلى سوريا. والآن يتم إعادة توجيه هذه الموارد إلى الأراضي التي تم ضمها حديثا في أوكرانيا.

تتعدد العوامل التي تسهم في تراجع الدور الروسي في سوريا، ومع كل تحول يفتح الباب أمام فرص وتحديات جديدة، يبقى السؤال حول كيفية تأثير هذا التراجع على الأمن الإقليمي والساحة الدولية مفتوحا.

على الرغم من كل الصعوبات، تعتبر سوريا بالنسبة لروسيا رصيدا قيما يمكن استخدامه في المفاوضات مع تركيا وإيران وإسرائيل، وبناء على ذلك، ليس لدى روسيا أي خطط لمغادرة سوريا رغم تراجع نفوذها وحجم وجودها العسكري فيها، إذ ترى موسكو في وجودها هناك ورقة مساومة في حوار محتمل مع مجموعة متنوعة من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط إضافة إلى الدول الغربية. 

في الوقت نفسه، أصبحت موسكو -مضطرة- غير راغبة بشكل متزايد بالتدخل في الشؤون الداخلية السورية، سواء عسكريا أو ماليا. وبدلا من ذلك، تركز على إقناع الأطراف بعدم تصعيد الوضع، ففي نهاية المطاف، تحرص روسيا على الحد من تشتيت تركيزها عن حربها في أوكرانيا، التي تمثل أولوية السياسة الخارجية التي تستهلك كل مواردها تقريبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات