قبل أسابيع من حلول موعد الانتخابات الرئاسية في روسيا، تم الإعلان، وبصورة مفاجئة، عن وفاة المرشح الرئاسي السابق في انتخابات عام 2018، والسجين الحالي أليكسي نافالني، الذي مثّل صوتا قويا للمعارضة الروسية، بما يترك فراغا كبيرا في المشهد السياسي الروسي الحالي. 

هذه الوفاة تدعو للتساؤل عن الحوادث الغامضة التي تسبق الانتخابات الروسية بالنظر لعملية تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته في المملكة المتحدة البريطانية، قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية لعام 2018. وحينها تم اتهام روسيا بعملية بتسميم سكريبال. 

بعد عامين من حادثة سكريبال، حاولت الدولة الروسية قتل نافالني في آب/ أغسطس 2020، عبر تسميمه بغاز الأعصاب في مدينة تومسك السيبيرية، في حين أثبت التحقيق الذي أجراه نافالني وزملاؤه، أن القتلة بدأوا في مطاردته قبل عدة سنوات من هذه المحاولة، وفقا لمركز “ويلسون” الذي نعى بشدة فقدان أليكسي نافالني، المدافع الشجاع عن الديمقراطية ومكافحة الفساد في روسيا. 

إذ يذّكّر موت نافالني بالمخاطر الجسيمة التي تواجه متحدي الفساد والقمع، حسب “ويلسون”، مشيرا إلى بقاء نافالني، رغم الاضطهاد والاعتداءات الجسدية المتعددة وأحكام جنائية لا أساس لها، ثابتا في سعيه لتحقيق مستقبل أفضل لبلاده. ومع إشارته لنجاح نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بمبادئه غير القانونية وغير الديمقراطية، في إسكات صوت المعارضة الروسية مرة أخرى. فإن إرث الشجاعة والصمود لنافالني سيستمر في إلهام جميع المناضلين من أجل الحرية والعدالة.

عين على نافالني

في منطقة بايتن بموسكو، ولد أليكسي نافالني في 4 حزيران/ يونيو 1976، درس القانون وتخرج من جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو عام 1998، ثم أصبح زميل زائر في “جامعة ييل” الأميركية عام 2010. وبكونه ناشطا في مجال مكافحة الفساد، بات الوجه الأبرز لمعارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واصفاً حزب “روسيا المتحدة” الذي يتزعمه بوتين بأنه يغص بـالمحتالين واللصوص، متهماً بوتين في الوقت نفسه، بأنه يمتص دم روسيا عبر دولة إقطاعية تحصر وتركز السلطة في “الكرملين”.

بعد الاحتجاج الأول له بداية كانون الثاني/ ديسمبر 2011، سجن نافالني لمدة 15 يوما. ثم سجن ثانية ولفترة وجيزة في تموز/ يوليو 2013، بتهمة الاختلاس في مدينة كيروف، وخلال هذه الدعوى، قال للقاضي، إنه سيحارب مع زملائه لتدمير الدولة الإقطاعية التي يتم بناؤها في روسيا، وتدمير نظام الحكم الذي يمتلك فيه نصف عدد السكان، 83 بالمئة من الثروة الوطنية. 

منع والدة نافالني وموكله من رؤية جثمانه – إنترنت

لاحقا، تمت إدانته بذات التهمة، عندما أعيدت محاكمته في عام 2017، حكم عليه فيها بالسجن 5 سنوات مع وقف التنفيذ. وصف نافالني الحكم حينها بالهزلي، وأنه محاولة لمنعه من خوض انتخابات 2018. إذ نظر للحكم أن وراءه أسبابا سياسية. وفي النهاية، ألغت المحكمة العليا الروسية إدانته عقب صدور حكم من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأنه لم يمنح جلسة استماع عادلة في المحاكمة الأولى.

بعد الاشتباه بتسممه إثر دخوله غيبوبة في آب/ أغسطس 2018، أقنعت جمعية خيرية مقرها ألمانيا، المسؤولين الروس بالسماح لها بنقله لتلقي العلاج في برلين. ومن خلال الاختبارات التي أجراها الجيش، كشفت الحكومة الألمانية، وجود “دليل لا لبس فيه على وجود عامل أعصاب كيميائي حربي من مجموعة نوفيتشوك”. السلاح الكيميائي الذي كاد أن يقتل الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا. فيما نفى “الكرملين” أي دور لروسيا في عملية تسميم نافالني.

لاحقا، عاد نافالني إلى روسيا ليساهم في بناء حركة “ديمقراطية هائلة حقا”، بحسب المحامية ليوبوف سوبول، التي عملت مع نافالني في مشروع مكافحة الفساد (Rospil) وخليفته، مُؤسّسَة مكافحة الفساد. في “المجلس المركزي لحزب نافالني روسيا المستقبل”، نتيجة لإيمان نافالني بروسيا وشعبها. لكن، انتهى به الأمر في ظروف تعذيب في مستعمرة روسية، بعد نقله من سجنه السابق في منطقة فلاديمير بوسط روسيا، الذي كان يقضي به حكما لمدة 19 عاما بتهمة التطرف، إلى مستعمرة جزائية ذات نظام خاص، أعلى مستوى أمنيا في السجون الروسية، أعلى الدائرة القطبية الشمالية. إذ تم اعتقاله مطلع عام 2021، إثر عودته من ألمانيا التي قضى فيها 5 أشهر للتعافي من تسمم غاز الأعصاب. 

أليكسي نافالني، البالغ من العمر 47 عاما، يُشار له كألد خصوم الرئيس الروسي بوتين، ولغيره من المستبدين على ما يبدو، إذ كتب عام 2018على صفحته على منصة “إكس”: “بشار الأسد ليس صديقنا. وصلت عائلته إلى السلطة من خلال عدة انقلابات عسكرية. نهبوا البلاد وأرهبوا شعبهم. والآن ينقذ بوتين الأسد بأموال من المتقاعدين الروس. يجب أن يتوقف هذا”.

الذئب القطبي

قبل يوم من إعلان وفاته، شارك نافالني، عبر الفيديو، في جلسة من جلسات محاكمته. لم يشتك من صحته، حسب رئيس لجنة المراقبة العامة في أوكروغ يامال-نينيتس ذاتية الحكم (PMC) دانيلا غونتارغونتار، حيث كان يقضي عقوبته في هذه المستعمرة المعروفة بالذئب القطبي، أو يامسكايا ترويكا، وفق دائرة السجون الفيدرالية، إذ تعتبر المستعمرة الواقعة فوق الدائرة القطبية الشمالية في ظروف دائمة التجمد. واحدة من أماكن الاحتجاز الصارمة للغاية، من حيث ظروف الاحتجاز والانضباط. كما لم تتلق اللجنة العسكرية الخاصة أي بيانات أو شكاوى أو نداءات أو إشارات من نافالني، وفق غونتار. إذ أن الشكاوى من المستعمرات نادرة، والوفيات نادرة للغاية أيضا.

بعيدا عن الاتهامات المسبقة، لعدم صحتها في الجانبين السياسي والقانوني، توفي نافالني بعد حضوره افتراضيا لجلسة محكمته. وخروجه بعدها لما يسمى بالتنفس، وخلالها شعر بانسلاخ لخثرة دموية أدت إلى وفاته بسرعة، حسب الباحث السياسي والخبير في الشأن الروسي، نصر اليوسف. ناقلاً عن العاملين في السجن قولهم: إن “النقطة الطبية الخاصة بالسجن حاولت إنقاذه مباشرة، وتم استدعاء الإسعاف، الذي حضر خلال 7 دقائق. لكن للأسف لم يستطيعوا إنقاذه”.

ليونيد فولكوف، مساعد نافالني المقرب، كتب على صفحته على منصة “إكس”: “نشرت السلطات الروسية اعترافا بأنها قتلت أليكسي نفافالني في السجن. ليس لدينا أي وسيلة للتأكد من ذلك أو نفيه”. إلى جواره، كتب وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني: “مقاومة نافالني لنظام القمع كلفته حياته”. وقال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، إن تاريخ الكرملين “الطويل والقذر” في إيذاء معارضيه “يثير أسئلة حقيقية وواضحة حول ما حدث”. 

بدوره، قال الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي: “من الواضح أن بوتين قتل نافالني. يجب أن يخسر بوتين، يجب أن يفقد كل شيء، يجب أن يتحمل المسؤولية عن كل شي”، فيما أشار الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، إلى أن وفاة نافالني تطرح أسئلة جدية يجب أن تجيب عنها روسيا، مردفا: “نافالني كان في السجن.. كان سجين، وعلى روسيا أن تحقق في وفاته”، فيما نوه إلى أن نافالني كان مدافعا قويا عن الديمقراطية خلال سنوات طويلة، وأن دول “الناتو” كانت تطالب على الدوام بإطلاق سراحه.

بسبب تحقيقاته بخصوص الفساد، أصبح لأليكسي نافالني الكثير من الأعداء في الداخل الروسي، وكثير من الأوليغارشة الروسية تريد اغتياله نتيجة هذه التحقيقات، حسب الباحث في الشأن السياسي الروسي، ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ديمتري بريجع. مضيفا خلال حديثه مع “الحل نت”، أن توقيت موته الذي جاء في ظل مؤتمر ميونخ مثير للغرابة نوعا ما، حيث كانت زوجة أليكسي، يوليا، حاضرة لهذا المؤتمر. 

بريجع يردف، أنه في كل الأحوال، فإن توقيت وفاته ليس في صالح بوتين، نظرا للانتخابات الرئاسية الروسية القريبة في الداخل الروسي، وهو الأمر الذي ستستفيد منه الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي للقول: “هذا هو بوتين، يفعل أشياء غير صحيحة ويجب الضغط عليه، يجب ممارسة الضغط على روسيا وعلى إدارة الرئيس بوتين وعلى أي شخصية مقربة منه، من رجال الأعمال وغيرهم”.

آخر شعلة أمل

 المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، قالت، إن اتهامات الغرب بشأن وفاة زعيم المعارضة الذي كان مسجونا تكشف عما بداخله، مشيرة إلى أن نتائج الطب الشرعي بشأن وفاة نافالني لم تخرج بعد، لكن الغرب توصل بالفعل إلى استنتاجاته الخاصة، فرد الفعل الفوري لقادة دول “الناتو” على وفاة أليكسي وإصدارهم الاتهامات المباشرة ضد روسيا يكشفهم، واستنتاجات الغرب كانت جاهزة مسبقا، حسب زاخاروفا.

فيما اعتبر العديد من السياسيين الروس، أن وفاة أليكسي نافالني مفيدة للغرب. إذ قال رئيس “مجلس الدوما“، فياتشيسلاف فولودين: “من الأمين العام لحلف شمال الأطلسي والقيادة الأمريكية إلى شولز، ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، وفولوديمير زيلينسكي، هم الجناة في وفاة نافالني. إنهم هم الذين اتخذوا عددا كبيرا من القرارات الفاشلة ويتشبثون بمناصبهم، هم الذين يستفيدون من وفاته”.

نافالني إنسان شجاع ومخلص للقضية التي آمن بها، حسب نصر اليوسف. مضيفاً خلال حديث مع “الحل نت” كان معارضا مبدئيا لبوتين، وبعد علاجه من عملية التسمم في ألمانيا، كان باستطاعته أن يبقى ليناضل عبر المنشورات من هناك. لكنه رفض ذلك، ففي كل المقابلات والتصريحات التي أدلى بها عند عودته إلى روسيا، قال: “إذا أردت أن تعارض، فيجب أن تكون على الأرض التي تريد تحريرها من الاستبداد. ولا ينفع أن تكون بعيدا وتنظّر على الآخرين. وهو موقف شجاع للغاية، نظرا لعلمه بترجيح إمكانية اعتقاله، لوجود دعوة مرفوعة بحقه. مع ذلك، رفض كل المغريات وعاد”.

وفاة نافالني أثارت احتجاجات كبيرة – (أ ف ب)

وفقا لبريجع، أصبح نافالني شبيها بالرمز في داخل روسيا وخارجها، دول الاتحاد الأوروبي وجماعات الأحزاب الليبرالية الأوروبية، لكن موته غيّب هذا الرمز. ما سيزيد من حالة التوتر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وسيفيد دول الاتحاد الأوروبي وأميركا لفرض مزيد من الضغوطات والعقوبات على إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومقربيه.

من جانبه، اعتبر “المجلس الأطلنطي”، أن مقتل نافالني يشبه إخماد آخر شعلة أمل داخل روسيا. فبوتين الذي يسعى لتثبيت قبضته على السلطة قبل غزوه لأوكرانيا، دمّر العديد من ألمع أشخاص روسيا الأكثر حرية الذين خرجوا من الاتحاد السوفيتي، حيث أخضع وسائل الإعلام الحرة للرقابة، وتمت تصفية أو حظر منظمات المجتمع المدني مثل ميموريال، أقدم منظمة غير حكومية في روسيا مكرسة لذكرى القمع السوفيتي والسعي لمنع تكراره. فالنظام الذي صاغه بوتين وحلفاؤه، يعتمد على تصنيع شعور بالحتمية والمناعة التي لا تقهر. يجعل من بوتين شخصية أكبر من الحياة، ومن دولته قوية للغاية، لكن في الحقيقة هذا النظام يشعر بالتهديد من أي شخص يحمل لافتة بيضاء احتجاجا.

مهما يكن، وبعيدا عن الاتهامات المسبقة، لا تزال بعض الدول تخشى من معارضي الرأي خشيتها من الوباء القاتل، تكيل لهم التهم، تعتقلهم في ظروف تتنافى مع إنسانيتهم، وأهم من ذلك، تفرض عليهم أصعب خيارين، إما التعذيب الوحشي والسجن العفن، أو البقاء بعيدا عن أوطانهم، وهذا ما فعلته روسيا بوتين مع الراحل نافالني، لكن هل يبقى سبب موته الحقيقي سراً؟ الأمر متروك للوقت.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات