تقف الأوضاع الاقتصادية في سوريا على مفترق طرق محفوف بالمخاطر، حيث يُواجه الاقتصاد تضخمًا هائلًا يتجاوز الـ 600 ضعف، وتتقاذف العملة الوطنية أمواج الغموض والتقلبات. 

في هذا السياق، يشير الدكتور شفيق عربش، الأستاذ بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق، إلى أن الاستثمار في السلع والتجارة يُمثل الخيار الأمثل في ظل هذه الظروف، نظرًا للارتفاع المستمر والملحوظ في أسعار السلع على مستوى البلاد.

وفي حديثه لصحيفة “الوطن” المحلية، ألقى عربش الضوء على مدى التضخم الذي شهدته السلع منذ عام 2011 وحتى الآن، مُؤكدًا أن الزيادة في التضخم لبعض السلع قد تخطت الـ 600 ضعف، مما يُعيد طرح السؤال: إلى أين يتجه اقتصاد سوريا في هذا الزمن العصيب؟

التضخم يتجاوز الحدود

في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة، يبرز الذهب كملاذ آمن يعد بالاستقرار والأمان في سوريا. ويعتبر الاستثمار في المعدن النفيس خيارًا استراتيجيًا، خاصةً عندما يتم التداول بالعملة المحلية، مما يعكس توجهًا نحو التحوط في مواجهة تقلبات السوق.

واقع مؤلم يعيشه الشعب السوري، حيث يعاني ما يقارب الثلثين من السكان من نقص حاد في الغذاء – غيتي

وفي تحليل دقيق للوضع الراهن، يتضح أن العقارات في سوريا شهدت تراجعاً في قيمتها الحقيقية مقارنةً بالدولار، مما يشير إلى تغييرات جوهرية في السوق العقاري منذ عام 2011. ويُظهر التاريخ أن الذين اختاروا الاستثمار في العقارات بعد هذا التاريخ، مستخدمين العملة الصعبة والذهب، قد واجهوا خسائر ملموسة. 

فبينما كانت قيمة الأونصة من الذهب لا تتجاوز 1500 دولار بين عامي 2011 و2013، ارتفعت اليوم لتتخطى 2200 دولار. وفي الوقت ذاته، انخفضت قيمة العقارات من حوالي 25 مليون ليرة سورية، أي ما يعادل 500 ألف دولار، إلى مستوى يجعل من الصعب على المالكين استرداد رأسمالهم في حال البيع. 

هذه الديناميكيات تعكس التحديات التي يواجهها المستثمرون في سوريا، وتسلط الضوء على الحاجة إلى استراتيجيات استثمارية مدروسة.

الذهب في سوريا الذي كان يُعد لعبة استثمارية بات يتطلب خبرة ومهارة، وليست مجرد تجارة للهواة. حيث حاليا يتسابق الناس لشراء الذهب عند ارتفاع أسعاره بشكل طفيف، ويسارعون لبيعه عندما تزداد الأسعار أو حتى عند انخفاضها، في محاولة يائسة للحفاظ على قيمة مدخراتهم. 

ومع ذلك، يغفل الكثيرون عن حقيقة أن الربح لا يكمن فقط في فارق السعر، بل يتأثر أيضًا بتكاليف الصياغة التي باتت باهظة، مما يؤدي إلى خسارة هذه التكاليف عند البيع، حتى وإن لم تنخفض أسعار الغرام.

أما بالنسبة للعقارات، فتُشير الأدلة إلى أن الاستثمار فيها يُعتبر خيارًا موفقًا لأولئك الذين يمتلكون عملة صعبة في الوقت الراهن. في المقابل، يُعد الاستثمار في العقارات بالعملة المحلية مغامرة محفوفة بالمخاطر، حيث يكون الخسارة أقرب من الربح، مما يتطلب تفكيرًا عميقًا وتخطيطًا دقيقًا قبل اتخاذ قرار الاستثمار.

الليرة السورية في مهب الريح

في مواجهة التحديات الاقتصادية، اتخذ بنك “سوريا” المركزي خطوات جريئة خلال عام 2023، حيث أقدم على تخفيض قيمة الليرة السورية أربع مرات متتالية. في ظل هذه الإجراءات، شهدت نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي تحولًا ملحوظًا حيث بلغ سعر صرف الليرة 11,557 ليرة سورية لكل دولار أميركي، مقارنةً بـ 8,542 ليرة سورية في مطلع العام.

اقتصاد سوريا في خطر.. تضخم يتخطّى 600 ضعف والعملة في مهب الريح (1)
أشخاص يتسوقون في سوق عزرا اليهوذي (عزرا اليهودي) المعروف أيضًا باسم “السوق اليهودي”، في مدينة القامشلي في شمال شرق سوريا. (تصوير دليل سليمان/وكالة الصحافة الفرنسية)

تعكس هذه الأرقام انخفاضًا في قيمة العملة بلغ 56% في السوق السوداء كحد أدنى منذ بداية العام، وتصاعدت النسبة لتصل إلى 75% خلال عامين، و83% على مدى ثلاث سنوات. 

وبحلول شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، وصلت الليرة إلى مستوى تداول يقارب 14,000 ليرة سورية للدولار في السوق السوداء، مما يعكس الوضع الاقتصادي الراهن والتحديات التي تواجه العملة الوطنية.

في سوريا تشهد الأسواق تقلبات ملحوظة، حيث يعاني المستهلكون من ارتفاع متزايد في أسعار السلع المستوردة والمواد الغذائية المحلية، وفقًا لما ذكرته صحيفة “قاسيون” المحلية. إذ تعكس هذه الزيادات الحادة في التكاليف تدهور قيمة العملة الوطنية، مما يضع عبءًا إضافيًا على كاهل الأسر السورية.

في شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2023، ارتفعت تكلفة السلة الغذائية الأساسية لأسرة مكونة من خمسة أفراد بنسبة مذهلة تصل إلى 100% مقارنةً بمطلع العام. وإذا نظرنا إلى العامين الماضيين، نجد أن التكلفة قد تضاعفت أربع مرات، مما يشير إلى تآكل مستمر في القدرة الشرائية للمواطنين. 

وعلى الرغم من مضاعفة الحد الأدنى للأجور إلى 187,940 ليرة سورية في آب/أغسطس 2023، إلا أن هذه الزيادة لم تكن كافية لمواكبة التضخم الحاد، حيث تراجعت القوة الشرائية بشكل كبير مقارنةً بما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، مما يعكس الواقع الاقتصادي الصعب الذي يواجهه الشعب السوري.

السوريون والمستقبل

تباعاً للسياق السابق، سلط تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) الضوء على الأزمة الغذائية المتفاقمة في سوريا، حيث يعاني ما يقرب من ثلثي السكان، أي حوالي 15.4 مليون شخص، من نقص حاد في الغذاء ويحتاجون إلى دعم عاجل لسبل العيش والمساعدات الزراعية.

سوريون ينظرون إلى واجهة محل حلويات في دمشق مزينة خصيصاً بمناسبة حلول شهر رمضان الذي يصوم فيه الناس من الفجر حتى الغروب. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

يُظهر التقرير أن أكثر من 12.9 مليون شخص في حاجة ماسة إلى المساعدات الغذائية، بمن فيهم أكثر من 2.1 مليون شخص يقيمون في المخيمات. ويواجه حوالي 2.6 مليون شخص آخرين خطر الانزلاق إلى أزمة انعدام الأمن الغذائي، مما يُعقد الوضع الإنساني الهش بالفعل. هذه الأرقام المقلقة تُعد نداءً للعمل الفوري لمواجهة هذه الكارثة الإنسانية.

كما يكشف التقرير الصادر حديثا، عن واقع مؤلم يعيشه الشعب السوري، حيث يعاني ما يقارب الثلثين من السكان من نقص حاد في الغذاء. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها، أفاد ما يزيد عن 1.96 مليون شخص بأنهم لم يتمكنوا من تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية.

وفي ظل هذه الظروف، أعلن آدم عبد المولى، منسق الأمم المتحدة المقيم للشؤون الإنسانية، أن الحاجة إلى المساعدات الإنسانية في سوريا تتزايد بشكل مستمر، حيث ارتفع العدد من 14.6 مليون في عام 2022 إلى 15.3 مليون في عام 2023، ووصل إلى 16.7 مليون في الوقت الحالي.

تجدر الإشارة إلى أن الأزمة قد دفعت أكثر من 7 ملايين سوري إلى النزوح داخل حدود بلادهم، بينما لجأ عدد مماثل تقريبًا إلى البحث عن مأوى في دول الجوار كتركيا والأردن ولبنان، في رحلة بحث عن الأمان والاستقرار. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي قصص حياة تنبض بالتحديات والأمل في آن معًا.

في خضم هذه الأزمة الإنسانية، أطلقت الأمم المتحدة نداءً عالميًا لجمع مبلغ ضخم يصل إلى 4.07 مليارات دولار، بهدف تقديم يد العون لـ10.8 ملايين من الشعب السوري في عام 2024. ومع ذلك، يُظهر الواقع المؤلم أنه حتى الأول من آذار/مارس الجاري، لم يُستجب لهذا النداء سوى بنسبة زهيدة تبلغ 0.02%.

يُسلط هذا النقص الحاد في الموارد الضوء على العقبات الكبيرة التي تعترض سبيل تلبية الاحتياجات الأساسية، ويُعيد التأكيد على الحقيقة القائلة بأن الشعب السوري، الذي يواجه تحديات جمة، يستحق فرصة أفضل للحياة والأمل في مستقبل أكثر إشراقًا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات