في قلب سوريا، حيث تتجذر العادات وتتوارث الأجيال تقاليدها، يحتفي السوريون بشهر رمضان المبارك، متمسّكين بطقوسهم الروحانية وسط دوامة الحياة العصرية السريعة. وعلى الرغم من الأزمات التي تعصف بالبلاد، يحرص الأهالي على نقل هذه التقاليد إلى أبنائهم، متحدّين بذلك خطر النسيان والاندثار.

مع انتهاء الربع الأول من عام 2023، ومنذ ما قبل بداية شهر رمضان، لمس السوريون بشكلٍ مباشر الارتفاعات الكبيرة في أسعار مختلف السلع الأساسية الضرورية، حيث ارتفع وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد. 

وفقاً لـ”مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، ليقفز إلى أكثر من 5.6 ملايين ليرة سورية (أما الحد الأدنى فقد وصل إلى 3,546,083 ليرة سورية). ويجري ذلك كله بينما لا يزال الحد الأدنى للأجور (92,970 ليرة سورية – أي أقل من 13 دولار شهرياً) شديد الهزالة وغير كافٍ لتغطية أي شيء فعلياً من أساسيات الحياة. 

استقبال رمضان: بين التراث وتحديات الحاضر

مع اقتراب النصف الثاني من شهر شعبان، تبدأ الأُسر السورية بالتحضير لاستقبال الشهر الفضيل، حيث تتزين الأسواق بمظاهر الاحتفال، وتتسابق العائلات لشراء مستلزمات الصيام، وخاصةً مكونات الحلويات التقليدية التي تُعد بأيدي نساء العائلة لتزيين موائد الإفطار وسهرات ما بعد صلاة التراويح. 

رمضان إدلب
الأسواق السورية في رمضان – إنترنت

ومع تنامي الأيام نحو رمضان، تتجه الأنظار إلى شراء اللحوم، وبالأخص اللحم البلدي الذي يُفضل رغم ارتفاع أسعاره.

أسعار المواد الغذائية في سوريا واصلت ارتفاعها مع قدوم شهر رمضان، إذ بلغت كلفة وجبة الإفطار نحو 300 ألف ليرة سورية، وذلك رغم التحسن الطفيف في سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار.

لكن الظروف الراهنة تضع العراقيل أمام هذه الاستعدادات؛ فالحرب التي تجتاح البلاد تُلقي بظلالها على تأمين مستلزمات شهر رمضان، حيث تعاني الأسواق من نقصٍ في السلع الغذائية وتصاعد في الأسعار، مما يجعل من مهمة ربَّ الأُسرة في توفير احتياجات الشهر مسعىً محفوفًا بالتحديات. ومع ذلك، يظلّ السوريون متمسكين بعاداتهم، متحدّين الصعاب بإرادة لا تلين.

فطور أول يوم والطقوس الدينية

في رحاب الأول من رمضان، تتجلى عادات السوريين العريقة حيث تلتئم الأسرة الكبيرة في دفء بيت العائلة. إذ يجتمع أبناء العائلة المتزوجون حول مائدة الإفطار الأولى، متشاركين لحظات الألفة والمحبة. 

الكبة السورية في رمضان
الكبة السورية في رمضان – إنترنت

لا يخلو الإفطار من “الشوربة العربية”، شوربة رمضان الأصيلة التي تتوارثها الأجيال. ومع اقتراب موعد الأذان، تتوسد الأسرة الأرض، وتعد الأم قهوتها “التركية” العطرة، معلنة بدء مراسم “حلول الصيام” بالماء والتمر، ويتميز الكبار بتذوق فنجان القهوة المعتق بنكهة الهال اليابسة، قبل أن ينهض الرجال لأداء صلاة المغرب في مسجد الحي.

في هذه الأيام، تبرز موائد الرحمن كملاذٍ للكثير من الأُسر السورية التي طالها الفقر، نتيجة الأوضاع الأمنية المتقلبة. ويتدفق الناس إلى هذه الموائد، التي يقيمها القادرون كعمل خيري يقرّبهم إلى الله، متشاركين الإفطار في جوٍّ من الإخاء والتكافل.

ومع حلول المساء، يتسابق السوريون لأداء صلاة التراويح، حيث تمتلئ المساجد بالمصلّين من كلا الجنسين، وتتعالى الأدعية بين كل ركعتين، معبّرة عن الروحانية والتقوى. 

وفي العشر الأواخر من الشهر الفضيل، يتعمق السوريون في العبادة بصلاة القيام والتهجد، وتكثر الدروس الدينية، مستغلّين هذه الليالي المباركة للتقرب إلى الله والتزوّد من العلم والإيمان.

المسحّر والحكواتي: عادات دمشقية غابت في رمضان

في زوايا دمشق العتيقة، حيث تتناغم الأصوات مع نسمات الليل الباردة، كانت تعيش عادات رمضانية تحاكي روح المدينة وتنبض بالحياة في شهر الصيام. “المسحر” بطبلته المميزة و”الحكواتي” بقصصه الشيقة، كانا يمثلان جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي لدمشق.

ساعات الصيام رمضان
ساعات الصيام رمضان في سوريا طويلة – إنترنت

لكن مع تقلبات الزمن وتغير الأحوال، تلاشت هذه العادات تدريجياً، تاركةً وراءها حنيناً لأيام كانت أكثر بساطة وعمقاً. لكن هذه العادات، التي كانت تُضفي على رمضان بهجته وروحانيته، بدأت تختفي شيئاً فشيئاً.

الحياة العصرية بضجيجها وسرعتها أطفأت جذوة التقاليد القديمة، وأصبحت ذكريات “المسحر” و”الحكواتي” مجرّد حكايات يتناقلها الأجيال الجديدة دون أن تعيش واقعها.

في غياب هذه الشخصيات، يواجه الدمشقيون تحدّياً في الحفاظ على هويتهم الثقافية. “المسحر” و”الحكواتي” لم يكونا مجرد عادات، بل كانا يمثّلان الروابط الاجتماعية والتاريخية التي تشكّل الهوية الدمشقية. ومع غيابهما، يبحث الدمشقيون عن سُبل لإعادة إحياء هذه العادات والحفاظ على تراثهم الغني.

سهرات رمضان وسادة المائدة

في ليالي رمضان الساحرة، تتلألأ الأزقة والشوارع بأنوار الفرح والسّمر رغم التقنين الحاصل من الحكومة، حيث تتجه الأنظار بعد صلاة التراويح إلى دكاكين الحلوى، بحثًا عن ذلك الطعم الأصيل لـ”القطايف” السورية، المعروفة في أرجاء الشرق الأوسط. 

رمضان في الشرق الأوسط
رمضان في سوريا – الحل نت

هذه الحلوى الشعبية، التي تُعجن بحنان من الدقيق والزبدة والخميرة والماء ورشة ملح، تُقلى في أحضان الزيت الغزير حتى تتفتح أطرافها كزهرة الصحراء، ويجف وسطها كقلب النخلة، لتُقدّم ساخنة، مغمسة في رحيق القطر أو العسل الذهبي أو الدبس الدافئ.

ومع اقتراب وداع شهر الصيام، تنبض الأسواق بالحياة ليلاً، حيث تتنقل الأسر بين الأكشاك والمتاجر، تبحث عن أبهى حلل العيد وما تبقى من زينة لحلويات العيد. وتتزين البيوت استعدادًا لاستقبال العيد، بألوان الأضواء المبهجة والزينة المتلألئة، معلنة بدء صفحة جديدة من الفرح والاحتفال.

في ليلة العيد، تتجدد أحلام الصغار بأثواب الفرح، فيرتدون ملابس العيد الزاهية، وأحيانا يغفون في أحضانها، متشبثينَ بفرحة قد لا تعرف الكلل. وفي الجانب الآخر، يسهر الكبار في انتظار فجر العيد، يعملون بجد لتجهيز البيت والحلويات، ويعيدون ترتيب كل زاوية لتكون في أبهى حلة لاستقبال الضيوف والمهنّئين بالعيد.

وفي هذه الأثناء، يحافظ السوريون على تقاليدهم العريقة، متحدّين بذلك ظروف الحرب ومآسيها التي لا ترحم. ويبحثون عن بصيص أمل في البسيط واليسير، ليعبروا به أيامهم، متسلّحين بالأمل لمواجهة الواقع المرير الذي يخيّم على أرض سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات