عقدٌ من القتال الذي دخلته إيران في سوريا لإنقاذ الرئيس السوري، بشار الأسد، وحكوماته المتعاقبة، قدمت إيران في هذه الحرب الدعم المادي والاقتصادي والعسكري المباشر أو غير المباشر عن طريق الحرب بالوكالة. 

ولأن هدف إيران هو بقاء الأسد، وبقائه يعني وجود سوريا في قبضة إيران؛ إلا أن الوضع تفاقم أثناء الحرب لتجد إيران نفسها تضخ الأموال الطائلة لتحقيق أهدافها. ففي أيار/مايو 2020، أصدر عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، إعلانًا غير مسبوق مفاده أن إيران أنفقت 30 مليار دولار في سوريا ويجب عليها تعويض الخسارة. 

وليتحول الوجود الإيراني في سوريا من دعم الأسد ومساندته إلى البحث عن الفرص والوصول إلى الاتفاقيات من أجل استرجاع ما أنفق في الحرب، إلا أن السؤال هو: كيف سعت إيران إلى استرجاع أموالها من سوريا؟ وكيف لها أن تعوّض الخسارات الاقتصادية التي تعرّضت لها أثناء وجودها لدعم الأسد؟

التحايل الإيراني على ملف الإعمار

وفقاً لوثيقة مسرّبة كُشف عنها في أيار/مايو 2023 مجموعة القرصنة الإلكترونية “الانتفاضة حتى الإطاحة”، فإن سوريا مَدنيةٌ لإيران بـ 50 مليار دولار، وهي مجموعة من المساعدات في شكل دعم عسكري.

الأسد مقابل الاقتصاد سوريا ستصبح ضحية صفقات إيرانية؟ (3)
وصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في زيارة تستغرق يومين بدعوة رسمية من الرئيس السوري بشار الأسد في 03 مايو/أيار 2023 في دمشق، سوريا. (تصوير: ماتين قاسمي/غيتي)

وتشير التقديرات أيضاً إلى أن إيران زوّدت الأسد بما يقرب من 11 مليار دولار من النفط في الفترة من 2012 إلى 2021. ولهذا قال حسين جابري أنصاري، كبير مستشاري وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، إن إيران لا تريد إنشاء “جمعية خيرية” في سوريا، وترغب بدلاً من ذلك في الحصول على فرص اقتصادية في السوق السورية. 

كذلك، أعرب يحيى رحيم صفوي، أحد كبار مستشاري المرشد الأعلى آية الله على خامنئي، عن موقف مماثل. حيث قال، في 18 شباط/فبراير، إنه “يجب على طهران أن تعيد النفقات التي أنفقتها في سوريا، والسوريون مستعدون لسدادها من خلال مناجم النفط والغاز والفوسفات السورية”. 

ليس ذلك فحسب، بل أدلى مسؤولون إيرانيون آخرون بمثل هذه التعليقات في الأشهر الأخيرة. ولهذا تسعى إيران إلى الحصول على نصيب الأسد في ملف إعمار سوريا. فلأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، تشجع الحكومة الإيرانية القطاع الخاص الإيراني على تولي زمام المبادرة في الأنشطة الاقتصادية في سوريا. 

وبحسب رئيس الغرفة التجارية غلام حسين الشافعي، فإن القطاع الخاص جاهز للقيام بهذا الدور. وفي الوضع الذي يخضع فيه قطاع الدولة الإيراني لرقابة صارمة ومستمرة من واشنطن، فإن تفعيل القطاع الخاص في المنطقة يمكن أن يفتح مجالاً جديداً للتنفس للاقتصاد الإيراني. 

وفي الوقت ذاته، أعلنت شركة “خاتم الأنبياء” للبناء – الذراع الاقتصادية الرئيسية لفيلق الحرس الثوري الإسلامي – عن استعدادها للمشاركة في إعادة إعمار سوريا “إذا أرادت الإدارة الإيرانية أن تفعل ذلك”. فقد أبرمت طهران مع دمشق عدداً من مذكرات التفاهم والاتفاقيات الأخرى، والتي تغطي مجموعة واسعة من المجالات، بدءاً من بناء محطات الطاقة وحتى الاستثمار في الزراعة. 

ويحاول الجانبان أيضاً إنشاء قناة مصرفية، بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية على ما يبدو. وعلى هذا النحو، يمكن القول إن نمط مشاركة إيران في إعادة الإعمار في المنطقة بعد الحرب آخذ في التغير، مع تفوق الفوائد الاقتصادية على الاعتبارات السياسية. 

تضع إيران لنفسها استراتيجية للقيام بدور مهم في إعادة إعمار سوريا في المستقبل من خلال تأمين السيطرة على عناصر البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك الكهرباء والموانئ والمطارات. كما وسّعت طهران نفوذها ليشمل قطاع التأمين لتعزيز آفاقها في هذا المجال. 

المختص في السياسة الإيرانية، إسلام المنسي، في حديثه مع “الحل نت”، يرى أن “التواجد الإيراني في سوريا له أبعاد عديدة منها أن إيران تستهدف البقاء في سوريا والسيطرة على اقتصادها من أجل مشروعها هو الهلال الشيعي لأن سوريا هي حلقة الوصل بين العراق لبنان وفلسطين، بل ربما تكون سوريا هي درة التاج الشيعي وفقدانها لسوريا يعني ضعف وجودها في لبنان والعراق، هذه ناحية”. 

ومن ناحية أخرى ترى إيران أن دعمها للأسد وحكومته يساهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية الداخلية ولهذا تركز إيران على الاستثمارات في سوريا كمحاولة لدعم اقتصادها؛ فتسعى إلى تحويل المكاسب العسكرية إلى مكاسب اقتصادية.

السطو على سوق العقارات

إيران من خلال عملائها في سوريا دأبت للسيطرة على المدن السورية والميادين مثل البوكمال ودير الزور ودمشق وحلب، والتي أصبحت في وقتنا هذا خاضعة للنفوذ الإيراني الكامل، حيث بدأت طهران بالاستحواذ على الممتلكات والأصول المملوكة للمدنيين، بما في ذلك الأراضي الزراعية.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يسار) يلتقي hgرئيس السوري بشار الأسد في الرياض، المملكة العربية السعودية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. (الصورة من الرئاسة الإيرانية)

المكاتب العقارية انتشرت بشكل كبير في هذه المدن وأطرافها، مع ظهور وسطاء عقاريين جدد، منهم جاسم الخالد وغريب الطائي. وأكد ناشطون محليون من محافظة دير الزور شرقي سوريا، أن منظمات إيرانية، أبرزها “جهاد البناء”، تشرف على عمليات شراء العقارات، ولها فروع في معظم المدن السورية التي تسيطر عليها إيران. 

كما كشفت تقارير محلية عن وجود مسؤول إيراني يدعى الحاج أمير إيراني، يدير عمليات بيع وشراء العقارات في الميادين والبوكمال ومناطق دير الزور. كما كشفوا عن مكتسبات إيرانية من خلال عملاء من المنطقة، منهم رعد الملقب بأبو الليث، وزهير الملقب بالنمر. هؤلاء الأفراد غير معروفين نسبيًا على نطاق واسع ولكنهم سهّلوا تلك المعاملات بشكل كبير. 

وبحسب تقارير إعلامية، فإن عملية البيع والشراء تنشط في ريف دمشق على جانبي طريق حمص السريع، وتشمل مناطق مثل المزرعة ومكسر والحجرية والسيال وصولاً إلى تل كردي. كما يغطي طريق دوما – حرستا، وينتهي في منطقة عدرا الصناعية، ومنطقة الضمير التي تربط الصحراء بالحدود العراقية، بتسهيل وإدارة فرع أمن الدولة بقيادة العميد سامر بريدي. 

وردا على التمدد الإيراني في دمشق، حذر ناشطون من دمشق، من ظاهرة بيع وشراء العقارات من قبل سماسرة إيرانيين. وفي هذا الصدد يرى المنسي، أن ما يحدث في سوريا هو عملية كاملة لإخضاع سوريا للنفوذ الإيراني الذي يتمثل في الشق العسكري المتمثل في (الحرس الثوري ولواء فاطمون وزينبيون) وغيرهم. 

وأيضا الشق الاقتصادي الذي يسعى إلى أن يكون التواجد الإيراني في سوريا غير مكلف لإيران، إذ تعمل إيران على تغيير الطبيعة الديموغرافية لسوريا بمعنى إجراء تغييرات سكانية تجعل الإيرانيين مرتبطون بالأرض السورية مما يساعد على تغلغل النفوذ الإيراني وبالتالي يصعب اقتلاعه بسهولة وهذا يكون من خلال إخلاء المناطق السورية من أهلها ليحل محلهم المليشيات الإيرانية أو الأفغانية.

تشير المعطيات عبر المصادر المفتوحة، إلى إن عمليات البيع هذه يديرها رجال أعمال ومستثمرون مرتبطون بشكل مباشر بـ “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني تحت حماية الأفرع الأمنية، ومكاتبهم العقارية منتشرة في أنحاء العاصمة، يشترون العقارات السورية بأسعار منخفضة. 

تغلغل إيران في أسواق مدن وبلدات دمشق لشراء عقارات تجارية وأراضٍ زراعية كانت قيمة بعضها قبل الأزمة تتجاوز ربع مليون دولار، لكنها تباع الآن بأقل من 7 آلاف دولار. كما أن العقارات التي تقدر قيمتها بآلاف الدولارات، لا تزال خالية، ولا يقيم فيها أحد. 

ويبدو أن الظاهرة تفاقمت في ظل الانهيار الاقتصادي والمعيشي الذي تعانيه البلاد، مما سهّل على طهران الاستيلاء على أحياء بأكملها بطرق مالية تارة وبالإكراه والترهيب تارة أخرى. فالعديد من منازل المدنيين تحولت إلى قواعد عسكرية ومراكز لإنتاج المخدرات، خاصة مادة “الكبتاغون”. كما استحوذت إيران على البنى التحتية والطرق والكهرباء والاتصالات، فضلاً عن الصناعات شبه النفطية، إضافة إلى الأراضي والعقارات بموجب عقود موقعة بينها وبين الحكومة السورية.

إيران تبتلع الاقتصاد السوري

تعمل إيران بشكل فعّال على فرض سياستها على الاقتصاد السوري، ويتمثل هذا الفرض في عديد من الإجراءات الإيرانية المهيمنة:

1- إلغاء الرسوم الجمركية:

أمين سر “الغرفة التجارية السورية الإيرانية المشتركة”، محسن النحاس، قال إن إلغاء الرسوم الجمركية بين البلدين ساري المفعول منذ كانون الثاني/يناير 2024. 

كما أعلن بنك “سوريا” المركزي عن اتفاقية لتبادل العملات المحلية لتسهيل التجارة والمعاملات المالية والتنسيق فيما يتعلق بربط أنظمة الدفع الإلكتروني في البلدين. ويمكن استخدام البطاقات المصرفية الصادرة من كلا البلدين في الآخر لتسهيل المعاملات التجارية والسياحية.

وتعتمد إيران في تنفيذ الاتفاقيات على سفارتها في دمشق. كما أن إلغاء الرسوم بين البلدان سيحول سوريا إلى سوق للبضائع الإيرانية.

2- التأثير غير المباشر من خلال الشركات الخاصة:

تتضمن استراتيجية إيران تمكين الشركات الخاصة من خلال إعطاء النفوذ الاقتصادي طابعاً “غير مباشر”. ويتم تسهيل ذلك من خلال تهيئة بيئة مواتية من خلال إنشاء البنوك وشركات التأمين ونظام اقتصادي مستقل، وخاصة داخل المناطق الحرة. 

الرئيس السوري بشار الأسد خلال توقيع البرنامج الشامل للتعاون الاستراتيجي وطويل الأمد بين إيران وسوريا، في 03 مايو/أيار 2023 في دمشق، سوريا. (تصوير: ماتين قاسمي/غيتي)

والهدف هو إضفاء الشرعية على الاستثمارات في سوريا وتسويتها، وإبعادها عن التأثير المباشر للتقلبات السياسية. وتقوم إيران بتسجيل العديد من الشركات الخاصة في سوريا، مما يمنحها استثمارات وامتيازات كبيرة كجزء من هذه الاستراتيجية.

3- عامل النفط:

استخدمت إيران بطاقة النفط بشكل استراتيجي للضغط على الحكومة السورية من خلال إعادة تشكيل ديناميكيات التبادل التجاري بين البلدين. قبل عام 2022، كانت إيران تزود سوريا بالنفط بسعر مخفض، أقل من نصف قيمته السوقية (30 دولاراً للبرميل)، وبالأجل. 

لكن، رداً على مؤشرات الانفتاح العربي والدولي على الأسد وعزوفه عن الالتزام بالاتفاقات مع إيران، اختار الأخير الاستفادة من ورقة النفط. وبدأت إيران ببيع النفط إلى سوريا بسعر السوق العالمية، بشرط السداد الفوري. وأدت هذه الخطوة إلى تعليق صادرات النفط إلى سوريا لأكثر من شهرين، مما تسبب في اضطرابات واسعة النطاق.

هذا بالإضافة إلى أن المناخ الدولي ساهم بشكل مباشر في ابتلاع إيران للاقتصاد السوري، فمثلا ضعف الموقف الروسي والصين في سوريا، لأن روسيا تعاني من الضغوط الاقتصادية بسبب الحرب الأوكرانية، إلى جانب أن الأصول الروسية المجمدة والنفقات الواسعة المرتبطة بالحرب، قد حدت من قدرة روسيا على تقديم مساعدة اقتصادية كبيرة لسوريا. 

وبالمثل، ظل اهتمام الصين بالاقتصاد السوري حذراً على الرغم من زيارة الرئيس السوري إلى بكين. وفي مواجهة العقوبات الغربية والمخاوف بشأن الظروف المضطربة وعدم الاستقرار الأمني ​​في سوريا. في ذات الوقت هناك غياب عربي فقد تضاءلت بشكل كبير توقعات الأسد بالحصول على فوائد اقتصادية من خلال الانفتاح العربي. 

لقد أصبح واضحاً أن نطاق مبادرة الانفتاح العربي على سوريا يقتصر على إعادة انضمامها إلى “جامعة الدول العربية” وتوفير الشرعية السياسية للحكومة السورية. ويبدو هذا الانفتاح المحدود كان واضحاً في ضوء رد فعل دمشق السلبي على المبادرة العربية وإحجامها عن التعاون مع الدول العربية، لا سيما في مكافحة تجارة المخدرات وإعادة اللاجئين إلى وطنهم كخطوة أولية. 

كل ذلك ساهم في أن في تظهر إيران بمظهر الأمان لاقتصاد السوري؛ وقد أدى ذلك إلى تسارع ملحوظ في حصول إيران على تنازلات سيادية من دمشق.

وأخيراً، في حين أن الأسد قد يضمن بقاءه ويحصل على الموارد الأساسية للحفاظ على الخدمات الأساسية والمؤسسات الإنتاجية، فمن غير المرجح أن تشهد البلاد فوائد كبيرة يمكن أن تحفز التنمية، أو تخفف من الصعوبات الاقتصادية، أو تبدأ في إعادة الإعمار. وبمرور الوقت، سيصبح فصل إيران عن الاقتصاد السوري أو موازنة دورها أمراً صعباً على نحو متزايد. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات