في خطوة تعكس توجهات اقتصادية مشبوهة في سوريا، أصدر حسين عرنوس، رئيس الوزراء في الحكومة السورية، قرارًا في الربع الأخير من شهر شباط/فبراير الفائت، يقضي بالموافقة على مقترح تقدمت به وزارة الصناعة، حول إيقاف وحظر استيراد الفئات والأحجام المحددة من البطاريات التي تتوافر لها بدائل إنتاجية محلية، وهذا يبدو ظاهرياً. 

وقد كُلفت وزارة الصناعة بمهمة إعداد قائمة تفصيلية بأنواع وأحجام البطاريات المنتجة محليًا، لتقديمها إلى المديرية العامة للجمارك بهدف تحديد البنود الجمركية الضرورية لتنفيذ هذا القرار.

ويُشير القرار إلى أن الإجراء جاء استجابةً لطلبات تقدمت بها عدة شركات محلية متخصصة في صناعة البطاريات، سعيًا لحماية منتجاتها الوطنية من خلال تقييد الاستيراد أو إلغاء الدعم الحكومي لعمليات الاستيراد المتعلقة بالبطاريات.

غير أن هذا التحول جاء عقب ثلاثة أشهر من تمكّن شركة إيرانية من السيطرة على المصنع الوحيد للبطاريات السائلة في البلاد، ما يثير العديد من التساؤلات؛ وأبرزها: هل كان قرار الحظر فعلا بوصاية إيرانية؟

خطوة محسوبة

ارتباط السيناريو السابق يعود إلى تطور لافت مرتبط بتغيرات عميقة في السياسات الصناعية، حيث كشف مصطفى إسماعيل، المدير العام للشركة السورية للبطاريات والغازات السائلة، عن تحول ملكية المصنع الوحيد للبطاريات في سوريا إلى شركة إيرانية لم تُعلن اسمها. 

أمراء الحرب وحيتان الاقتصاد السوري الموالين لإيران أنتم التالي! (2)
تظهر هذه الصورة التي نشرتها وكالة الأنباء العربية السورية الرسمية، الخميس، الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يمين) أثناء اجتماعه مع وزير الخارجية السوري فيصل مقداد في دمشق (صورة لوكالة فرانس برس)

ويأتي هذا الاستحواذ في إطار خطة إيرانية طموحة لتحديث الإنتاج وإضافة فئات جديدة من البطاريات كالجيل الجديد وبطاريات “MF” والليثيوم، بالإضافة إلى إنشاء معمل متطور لإعادة تدوير الرصاص يتوافق مع المعايير الدولية.

أيضا، هذه الخطوة تأتي تماشياً مع الاتفاقية المبرمة مع الشركة الإيرانية، التي تضمنت خطة ائتمانية لإنتاج بطاريات بتقنيات ومواصفات تختلف عن الأساليب التقليدية المتبعة، وذلك بهدف تعزيز الكفاءة الإنتاجية والحفاظ على البيئة. 

أسعار البطاريات شهدت المنتجة بعد إعلان الاستحواذ الإيراني زيادة بنسبة 10 بالمئة، ومبررة ذلك أنه استجابةً للتحديات الاقتصادية الراهنة وارتفاع تكاليف الإنتاج المتأثرة بالتضخم.

ما يدعو إلى اليقين بأن هذه الإجراءات تأتي بأوامر إيرانية ودمشق هي جهة تنفيذية ليس إلا، ترجع إلى سلسلة الأحداث الاقتصادية الأخيرة التي أعلنت، ففي آذار/مارس الجاري، رئيس “الغرفة التجارية السورية الإيرانية المشتركة”، من الجانب السوري، فهد درويش قال: إن تصفير الرسوم الجمركية مع إيران وافتتاح البنك المشترك بين البلدين، إضافة إلى الخطوات اللاحقة التي ستوضع موضع التنفيذ قريباً بين البلدين فإننا أمام حالة متقدمة للتعاون الثنائي وستوازي قريباً العلاقات السياسية والاستراتيجية.

حديث درويش سبقه، إعلان طهران التوصل إلى اتفاق مع خمس دول، بينها سوريا والعراق، من أجل إنشاء منطقة حرة مشتركة، وفي سوريا تحديدا أعلن نائب رئيس “الغرفة الإيرانية السورية المشتركة” من الجانب الإيراني، علي أصغر زبردست، قبل أيام عن موافقة البنك “المركزي” الإيراني على تأسيس بنك إيراني سوري مشترك، وإصدار الرخص اللازمة رغم عدم وضوح نوعية الخدمات المصرفية التي سيقدّمها البنك الإيراني-السوري.

كيف خططت طهران لهذه الخطوة؟

مؤكد أن إيران تسعى الآن إلى توسيع بصمتها الاقتصادية في المنطقة، ومن خلال تعزيز صناعة بطاريات سورية قوية، تكسب إيران شريكاً استراتيجياً وسوقاً تصديرية محتملة خصوصا أن هذه السوق التي صرفت عليها مليارات الدولار وآلاف القتلى من الميليشيات حاليا بحاجة إلى طرق إمداد الكهرباء.

ويتيح حظر الاستيراد على المصنّعين المحليين للنظام الإيراني الاستفادة من الطلب المتزايد لا سيما أن مشكلة الكهرباء تؤرق السوريين والعراقيين واللبنانيين منذ أكثر من 10 أعوام، بسبب عدم الاستقرار السياسي والعقوبات التي فُرضت على حكومات هذه الدول بسبب تبعيتها لإيران، فضلا عن فرار الاقتصاديين العرب والأجانب بسبب الفساد والتهتك الحكومي الذي موّلته إيران بطريقة أو بأخرى.

خطوة حظر استيراد البطاريات الذي يفيد الشركة الإيرانية في سوريا ومع اقتراب موعد افتتاح البنك الإيراني-السوري المشترك، تلوح في الأفق تساؤلات حول طبيعة الخدمات المصرفية التي سيوفّرها هذا الصرح الاقتصادي الجديد الذي فُرض على السوريين كبقية الاستثمارات التي توقّعها حكومة دمشق. 

وإن كانت التفاصيل لا تزال غامضة، فإن الثابت هو أن البنك سيشكل ركيزة أساسية في دعم النفوذ الاقتصادي الإيراني وتعزيز الرقابة المالية على الأنشطة الاقتصادية في سوريا، في ظل مرحلة تشهد تحولًا نحو تعظيم عوائد جهتين لا ثالث لهما، النظام الإيراني وذراعه العسكرية “الحرس الثوري”.

خنق عنق الزجاجة

بحسب تصريحات أمين سر “الغرفة التجارية السورية الإيرانية”، مصان نحاس، من المنتظر أن يباشر البنك أعماله في غضون شهر، مع التركيز على تسهيل “التقاص التجاري” وتبادل السلع مع تسوية الفوارق المالية. 

الرئيس السوري بشار الأسد (إلى اليمين) يتصافح ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي بعد توقيع مذكرتي تفاهم حول “التعاون الاستراتيجي طويل الأمد” في دمشق في 3 أيار/مايو 2023. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

هذا البنك لا يُعد خطوة استراتيجية نحو تبني العملة المحلية لكل دولة في التعاملات التجارية، لأن العملة الإيرانية أو السورية كليهما بطبيعة الحال لا تدعمان بعضهما و تحتاجان إلى رافعة خارجية تضخ المليارات لإيقاف نزيفهما اليومي.

ويُلاحظ أن المنافع المترتبة على إنشاء البنك أو قرار حظر الاستيراد تميل بشكل ملحوظ لصالح إيران، مقابل منافع أقل بروزًا لحكومة دمشق. إذ يُعتبر البنك أداة لإيران لتمويل الأنشطة الاقتصادية في مناطق النفوذ السوري، وربما يتجه لتقديم قروض شخصية بشروط ميسرة، في إطار استراتيجية لكسب الولاء ودعم التغييرات الديموغرافية. 

ليس ذلك فحسب، بل من شأن وجود البنك أن يحفّز التبادل التجاري بين البلدين، مما يخدم الاقتصاد الإيراني بشكل أساسي فقط.

من جهة أخرى، تأتي هذه الخطوة في أعقاب تسريبات تشير إلى أن ديون إيران على الرئيس السوري، بشار الأسد، بسبب دعمها العسكري له، والحكومات المتعاقبة التي أعطاها الثقة وطلبت خطوط ائتمانية لتأمين وجودها، تتجاوز 50 مليار دولار، مما يجعل البنك وسيلة محتملة لإيران لتحصيل هذه الديون.

كما يُمكّن البنك إيران من تعزيز نفوذها الاقتصادي ويوفّر غطاءً رسمياً لتدفق الأموال الإيرانية، مما يسهم في توسيع دورها الإقليمي ويسهل عمليات مثل غسيل الأموال، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة والتجارة غير الشرعية.

في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة والانفتاح العربي المتزايد على النظام السوري، تبرز الأحداث التي حصلت خلال أقل من شهر كحظر استيراد البطاريات، والمصادقة وإقرار اتفاقية تصفير الرسوم الجمركية مع إيران، واتفاقية المنطقة الحرة فضلا عن إنشاء البنك، كمحاولة استراتيجية لتعزيز موقعها الاقتصادي وحماية مصالحها الاستثمارية. 

يُنظر إلى هذه الاتفاقيات التي غالبا ما تعلن أولا من جهة النظام الإيراني، كمنصة تمكن طهران من تأمين مشاركتها في مشاريع إعادة الإعمار المستقبلية، وذلك في مواجهة احتمال تنامي النفوذ الاقتصادي العربي في سوريا.

تعكس هذه الخطوة أيضًا حالة من القلق الإيراني من إمكانية تهميش دورها الاقتصادي نتيجة للتقارب العربي-السوري، خصوصًا في ظل القيود المالية التي تواجهها. 

ومع ذلك، يبدو أن إيران تراهن على أن العقوبات الدولية والتحديات الاقتصادية التي تواجهها حكومة دمشق ستحول دون تحقيق تقدم اقتصادي ملموس عبر “التطبيع” العربي. لذا، تسعى إيران لتسريع وتيرة الاتفاقيات الاقتصادية مع سوريا، مستغلة الظروف الإقليمية المتقلبة لتأمين موطئ قدم ثابت في الساحة الاقتصادية السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات