منذ انخراط إيران في الحرب السورية إلى جانب حكومة دمشق ودعمها بالسلاح والقوة قبل أكثر من 10 سنوات، لم تتوقف طهران عن استكمال هيمنتها على سوريا يوما وعبر شتّى الوسائل، فبعد انحسار مستوى العمليات العسكرية في عموم البلاد، ومع المتغيرات التي تمرّ بها دمشق اليوم، خاصة بعد عودتها إلى “الجامعة العربية”، تسعى الدولة الإيرانية إلى إحكام قبضتها على البلاد وذلك عَبر البوابة الاقتصادية.

ذكرت العديد من التقارير في السابق أن طهران تسيطر على عدّة قطاعات اقتصادية في سوريا، وتعمل بشكل حثيث للحصول على المزيد منها. ولعل أبرز الصفقات الأخيرة هي إعلان دمشق عن تسريع إجراءات تأسيس شركتي تأمين وإعادة التأمين في سوريا بالتعاون مع إيران، ما يعني أن الطموحات الإيرانية للسيطرة على هذا البلد المتهالك مستمرة.

إيران والهيمنة على سوريا

نحو ذلك، كشف مدير عام هيئة الإشراف على التأمين رافد محمد، أنه بناءً على الاجتماع الأخير لوزير المالية السوري ووزير الاقتصاد والمالية الإيراني، تم تكليف الهيئة بالتنسيق مع الجانب الإيراني (بيميه مركزي إيران- مؤسسة التأمين المركزية) لدراسة وتسريع إجراءات تأسيس شركتي تأمين وإعادة التأمين في سوريا.

المسؤول السوري أردف وفق ما أوردته صحيفة “الوطن” المحلية اليوم الإثنين، أن مجلس إدارة الهيئة في جلسته الأخيرة وافق على الطلب الأولي لتأسيس الشركتين: شركة المودة الدولية للتأمين برأسمال 25 مليار ليرة، وشركة السلام الدولية لإعادة التأمين برأسمال 50 مليار ليرة، بنسبة مساهمة من الجانب الإيراني تمثل 60 بالمئة ومن الجانب السوري 40 بالمئة لكلتا الشركتين.

وأوضح المسؤول السوري أنه تم عقد اجتماع عمل ضمّ المساهمين السوريين والإيرانيين في تأسيس شركتي التأمين وإعادة التأمين، مشيرا إلى أن هذا الاجتماع هو الأول من نوعه بين جميع المساهمين من كلا البلدين، مؤكدا على تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع إيران في مختلف المجالات.

كما ونوّه إلى انسحاب معظم معيدي التأمين الأجانب من العمل مع شركات التأمين السورية، مدّعيا أنه بسبب العقوبات الاقتصادية. وبالنسبة لتفاصيل المساهمين، هم ثلاث شركات تأمين إيرانية “شركة ألبرز، شركة الكوثر، شركة سنا”، والمساهمون السوريون “شركة الاتحاد العربي لإعادة التأمين، المؤسسة العامة السورية للتأمين، مصرف التوفير، نقابة الأطباء، شركة ضمانتي للاستشارات”.

ما أهداف إيران؟

من ناحية أخرى، لا بدّ أن الهيمنة الإيرانية على قطاعات ومنافذ اقتصادية جديدة في سوريا تحمل عدة أهداف، وبحسب المراقبين، فإن معظمها يكمن في إحكام قبضتها على البلاد لأطول فترة ممكنة من الزمن وذلك للتحكم بالقرار السياسي السوري، وتاليا تمرير مشاريعها العدائية في المنطقة، لا سيما وأن جغرافية سوريا تشكّل مكانا استراتيجيا لذلك.

وتعمل إيران جاهدة لتحقيق كافة أهدافها في سوريا، بما يسمح لها باستخدام الأراضي السورية لدعم وتسليح ميليشياتها ووكلائها الإقليميين، وخاصة “حزب الله” اللبناني. وما الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت نقاطا حيوية مثل مطاري دمشق وحلب، إلا دليل على قيام طهران بتزويد ميليشياتها بالأسلحة عبر استخدام الجغرافيا السورية.

وتمثّل البوابة الاقتصادية، أو إن جاز التعبير، “الأداة الاقتصادية” أهم أدوات الاستراتيجية الإيرانية في سوريا. وهو ليس جديدا، لكنه انتعش مع تراجع العمليات العسكرية في البلاد. وتشارك طهران في العديد من القطاعات والمشاريع الزراعية والصناعية والطاقة والنفط والغاز والفوسفات والخدمات والسكن.

ومؤخرا كشفت وثائق سرية مسرّبة أن حكومة دمشق منحت إيران بشكل غير مباشر ميناء اللاذقية للاستثمار فيه لمدة 30 عاما، وهو ما فسّره المحللون على أنه بداية تحرك إيراني لإحكام سيطرتها على سوريا أكثر ولفترة زمنية أطول، ولكن هذه المرة من البوابة الاقتصادية بعد أن توسّعت عسكريا وتغلغلت في المجتمع إلى حدٍّ ما عبر نشر عقيدتها في العديد من المناطق في سوريا.

طبقا للمعلومات والوثائق التي نُشرت لأول مرة قبل نحو أسبوع، تبيّن أنه بعد 20 يوم فقط من زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لسوريا خلال شهر أيار/مايو 2023، تم تمديد عقد شركة “CGM-CMA” الفرنسية لاستثمار ميناء اللاذقية بسوريا لمدة 30 سنة.

هذه الوثائق السرية نشرها الدكتور كرم شعار، أحد زملاء معهد “نيو لاينز” للأبحاث ومقرّه واشنطن، على صفحاته الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي. وأضاف “باعتبار أن إيران كانت موعودة للحصول على ميناء طرطوس بموجب الاتفاقية الشاملة للتعاون الاقتصادي السوري الإيراني عام 2015، لكنه ذهب إلى روسيا لمدة 49 عاما لصالح شركة ستروي ترانس غاز، المملوكة لـ الأوليغارشي غينادي تمشنكو، وتم ترضية طهران بميناء اللاذقية الأقل استيعابا وحداثة”.

ووفق وثائق إيرانية مسرّبة مؤخرا، فإن الجانب الإيراني كان يحصل على ما لا يقل عن 15 بالمئة من إيرادات ميناء اللاذقية منذ عام 2019 وحتى أواخر عام 2021. وكان عقد الشركة الفرنسية للاستثمار في ميناء اللاذقية لمدة 10 سنوات لأول مرة وتم التوقيع عليه عام 2009 بالشراكة مع شركة “سوريا القابضة”.

لاحقا تم تمديد العقد عام 2019 لمدة إضافية 5 سنوات فقط وتحت ضغط إيراني، على اعتبار أن الأخيرة تريد السيطرة المباشرة على الميناء الساحلي السوري، أما اليوم فقد تم تمديد العقد لمدة 30 عاما وتحت السيطرة الكاملة التابعة للشركة الفرنسية وبرأس مال لا يُذكر يبلغ 1.5 مليون يورو فقط، وبالتالي لا يستبعد الخبير الاقتصادي، أن يكون العقد قد تم توقيعه مقابل مبلغ مالي غير معلن تم دفعه للقصر الجمهوري بدمشق، أسوة بالعديد من الاستثمارات الأخرى التي قام بها تجار ورجال الحرب بسوريا، مشيرا، في رأيه، إلى أن الاتفاقية يمكن اعتبارها بمثابة توافق لإبقاء الشركة الفرنسية في المقدمة وتقاسم الأرباح بينها وبين الإيرانيين وذلك بغية تجنب العقوبات الغربية.

صورة من الإنترنت

ميناء اللاذقية يشكل أهمية قصوى لإيران، نظرا لأنه يحقق مصالحها المالية من تجارة الأسلحة وتهريب المخدرات وخاصة “الكبتاغون”، ومن ثم يوفّر لها موضع قدم وهيمنة وإشراف استراتيجي على سواحل المتوسط. كما أن لإيران أهداف أخرى من الهيمنة على ميناء اللاذقية، وهو تمرير المشروع الإيراني المعروف باسم “الهلال الشيعي”، الذي يمتد من طهران مرورا بالعراق وسوريا وصولا إلى لبنان وشواطئ المتوسط.

“امتيازات اقتصادية”

في المقابل، تجد طهران مبررات لزيادة استثماراتها في سوريا، على اعتبار أنها دعمت الحكومة السورية في حربها على المعارضة، وتعتبر ذلك دَيناً لدمشق ويجب عليها الآن سداده على شكل امتيازات اقتصادية. وبحسب العديد من التصريحات والبيانات، فإن إيران كانت تدعم دمشق بالمساعدات، بما فيها العسكرية والاقتصادية، تُقدّر قيمتها بنحو 6 مليارات دولار سنويا.

وتقول دراسات أصدرها “الكونغرس” الأميركي في وقت سابق، إنه من الصعب قياس المساعدات الإيرانية المقدمة لسوريا بشكل دقيق، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها تشمل مجموعة من المساعدات الاقتصادية، فهناك عمليات لنقل النفط والبضائع بالإضافة إلى المساعدات العسكرية، وقد قدمت إيران قروضا بقيمة 6.6 مليار دولار لحكومة دمشق منذ عام 2013.

وكشفت وثيقة سرية في آب/أغسطس الفائت، صادرة عن الرئاسة الإيرانية أن طهران أنفقت 50 مليار دولار على الحرب في سوريا، وتعتبرها “ديونا” تريد استعادتها على شكل استثمارات ونقل للفوسفات والنفط والموارد الأخرى من سوريا إلى إيران.

ميليشيات إيرانية في شرق سوريا- “إنترنت”

تفيد الوثيقة، التي حصلت عليها مجموعة “ثورة لإسقاط النظام” المعارضة من خلال اختراق موقع الرئاسة الإيرانية، بأن الميزانية التي أنفقتها إيران خلال الحرب السورية على مدى 10 سنوات تجاوزت 50 مليار دولار، لكن الاتفاقيات التي تم إبرامها مع سوريا لاستعادة هذه الأموال لا تتجاوز 18 مليار دولار.

وبالتالي، وفي ظل الهيمنة الإيرانية التدريجية على الاقتصاد السوري، يبقى التساؤل المُلحّ هنا، كيف ستتخلى طهران عن مكاسبها وأطماعها داخل سوريا، وسط سعي الدول العربية لإيجاد مخرج للأزمة السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة