تطورات ما يجري في غزة منذ بدء الحرب إثر الهجمات التي شنتها حركة “حماس” على إسرائيل، تعكس تطورات سياسية وإقليمية سوف تمتد إلى المنطقة، لكن الانعكاسات التي أحدثتها الحرب في الداخل الفلسطيني هي معقدة للدرجة التي تجعل المسار يشي بتفجر كافة التناقضات الداخلية، ومنها الانقسام الحاد في البيت الفلسطيني، وهو انقسام لا يتعلق فقط بالمكونات وبعضها إنما يطال المكون الواحد. فإلى جانب التباينات بين السلطة الفلسطينية و”حماس” ووصلت ذروته منذ قادت الأخيرة انقلاباً دموياً لحكم قطاع غزة، هناك الانقسام الذي ترتفع درجاته ويعلن عن نفسه بقوة داخل “حماس” بين جناحيها السياسي والعسكري.

فيما تبرز تلك الانقسامات والصراعات السياسية المرتبطة بالإدارة والحكم عملياً حجم الأزمة التي تفرض تداعياتها على مستقبل المسألة الفلسطينية بالشرق الأوسط، حيث إن وضع القضية وإنهاء الصراع الممتد لسبعة عقود وأكثر قليلاً وينفجر بين الحين والآخر يحتاج لتسوية بين الفرقاء الفلسطينيين، قبل التسوية المطلوبة مع إسرائيل، وبرعاية إقليمية ومن الولايات المتحدة. 

ولئن كان حل الدولتين أمراً مطلوباً وتشجع عليه واشنطن والإدارات الأميركية، فإن ما باعد بين هذا المطلب وتحقيق الجاد والحقيقي هو هذا الاقتتال بين الفصائل والمنظمات الفلسطينية، خاصة مع صعود الحركة الإسلاموية بارتباطاتها التنظيمية الأيديولوجية بجماعة الإخوان، فضلاً عن تبعيتها البراغماتية بـ”محور المقاومة” وإيران كما ظهر على نحو جلي، مؤخراً. 

تجدد الصراع بين “حماس” و”فتح”

وقبل فترة وجيزة، عندما قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس باتخاذ قرار بتكليف محمد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة بعد استقالة محمد اشتيه من منصبه، اعتبرت “حماس” هذا الإجراء “فارغ من مضمونه”، وتبادل الطرفان الملاسنات واتهمت حركة “فتح” الفلسطينية بقيادة محمود عباس أن “حماس” ساهمت في إعادة غزة، وذلك في إشارة لهجماتها المباغتة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي. في البيان ذاته، صرحت حركة “فتح” بأن إيران تسعى لــ”محاولة إشاعة الفوضى في الضفة الغربية”.

الصراع بين “حماس” و”فتح” المتجدد الآن على خلفية الحرب في غزة ليس جديداً إنما له تراكمات عديدة وجذور قديمة- “إنترنت”

ترجع أزمة “حماس” مع حركة “فتح” منذ ثمانينات القرن الماضي، أي بعد فترة ليست بالقليلة على إعلان تأسيسها في عام 1988، وكان صعودها المتزامن مع خطوات زعيم الحركة المؤسس ياسر عرفات أو انعطافته لإحلال السلام مع إسرائيل وقد مثلها شيمون بيريز وزير الخارجية وقتذاك برعاية الرئيس الأميركي بل كلينتون، من خلال تدشين اتفاقية أوسلو عام 1993، يفترض حتماً هجومها المباشر على عرفات ومنظمته، بينما سعت إلى أن تحل مكانه حتى تعمل على أسلمة القضية الفلسطينية وكسب الحواضن الجاهزة فضلاً عن باقي الفلسطينيين لجهة حاضنة “حماس” باعتبارها ممثل القضية بالمعنى “الكفاحي” و”الجهادي” بالمعنى الديني المتشدد، واختزال القضية في تحرير المقدسات وليس الوطني الذي يشمل كافة المكونات.

وصلت الخلافات ذروتها عام 2007، عندما اندلع الاقتتال الدموي بين “حماس” و”فتح” وانتهى بانفراد الأولى بحكم القطاع وتراجع حكم السلطة ليكون في الضفة الغربية، ومنذ تلك اللحظة أمست الحركة الإسلاموية تفرض قبضتها وتحكم بأجندة مختلف تماماً عن “فتح”، سواء في ما يخص الارتباطات الخارجية وتحالفاتها مع تركيا وإيران وارتدادات ذلك على الوضع في غزة بالصورة المعقدة التي نراها راهناً.

بالتالي، فالصراع بين “حماس” و”فتح” المتجدد الآن على خلفية الحرب في غزة ليس جديداً إنما له تراكمات عديدة وجذور قديمة، لكن طبيعة هذا الصراع في الوقت الحالي يفترض تساؤلاً مهماً وملحاً بشأن شكل الحكم في القطاع ونمط التسوية والإدارة السياسية والأمني في اليوم التالي بعد الحرب. وقد تورطت الحركة نهاية الشهر الماضي آذار/ مارس في اعتقال عدد من مسؤولي السلطة الفلسطينية في غزة وحظرت قافلة مساعدات تابعة لهم بعد اتهامهم بالعمل لصالح إسرائيل، بل توعدت الحركة الإسلاموية بأنها ستنفذ حملة اعتقالات أوسع تلاحق “فتح” وفق صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.

ولذلك، اضطرت حركة “فتح” بعد حدوث هذه التطورات إصدار بيانات تحمل مواقف معادية لإيران التي تصطف في جانب “حماس” وتشكل لها جبهة دعم وإسناد في المنطقة بين لبنان والعراق واليمن، مما يعكس صعوبة تشكيل إدارة جديدة لحكم غزة بعد انتهاء الحرب المستمرة لنحو ستة أشهر كما توضح الصحيفة الأميركية، والتي توجز بدايات تأزم العلاقة عندما طردت الحركة الإسلاموية فتح من القطاع بشكل همجي وعدواني، عام 2007. وتردف أنه منذ ذلك الحين تفاقم الانقسام، حيث يتهم الإسلاميون المتشددون في “حماس” بين الحين والآخر السلطة الفلسطينية التي تقودها حركة “فتح” في الضفة الغربية، وهي علمانية إلى حد كبير، بالعمل مع إسرائيل والغرب.

ضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية

ولمحت الصحيفة الأميركية إلى رغبة واشنطن والقوى الغربية العمل باتجاه الحل الدبلوماسي وصياغة تسوية تضطلع بها السلطة الفلسطينية التي يضحى بمقدورها إدارة القطاع والضفة في إطار تهيئة تصور جديد إصلاحي يضمن أن تكون في حيز المهمة المطلوبة، وتتخطى ربما أي وضع ووهن طاولها بما يجعلها غير قادرة على مواجهة “حماس” أو تتسبب في فراغ يمنح للحركة الإسلاموية قبلة الحياة مرة أخرى والاستمرار لعدم وجود بدائل. 

الدمار في قطاع غزة- “أ ف ب”

وعليه، فإن “رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يعارض بشدة قيام دولة فلسطينية، وقلقه من السلطة وتململه منها، يجد أصواتاً أخرى في الحكومة ومسؤولين كبار بإسرائيل لديهم نفس الرؤية التي تطرحها واشنطن ومفادها التعاون بشكل أفضل مع سلطة رام الله، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة الاصلاحات السياسية والهيكلية”.

ووفق مسؤول في السلطة الفلسطينية، فإن خمسة من “فتح” ما زالوا رهن الاحتجاز لدى “حماس”. فيما سبق للناطق بلسان “فتح” منذر الحايك وصرح بأن “حماس” تحاول القضاء على أي أطراف تشارك في الحكم أو تضع قبضتها لإزاحة “حماس”، في إشارة لأولوية الحركة الفلسطينية الإسلاموية بأن تقاتل خصمها السياسي المحلي على أن توفر طاقتها العدائية على ما يفترض أنه عدوها، أي إسرائيل، وهي نفس المقاربة التي تعمل وفق منطقها الحركات الإسلاموية بفكرة “العدو القريب” والصراع مع الحكومات المحلية والأنظمة الوطنية بدلاً من القوى التي تزعم أدبياتهم أنهم “الشيطان الأكبر”، إذ إنها مقاربة براغماتية تخفي مطامعهم في الوصول للحكم وتحقيق ما يعرف بـ”التمكين” السياسي. وبالتالي، يبدو منطقياً ومفهوماً ما قاله الحايك بأن “حماس” تركز على “العداء للسلطة الفلسطينية” بل واعتبار الأخير أنها “قوة خارجية أو أجنبية”.

ونقلت الصحيفة الأميركية عن مسؤول أميركي مطلع على الصراع بين “فتح” و”حماس”، قوله إن “إصلاح السلطة الفلسطينية أمر ضروري لتحقيق نتائج للشعب الفلسطيني وتهيئة الظروف للاستقرار في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة”. وتابع: “هناك الكثير من العمل لتحقيق هذه الرؤية، ولكننا ملتزمون بدعم الخطوات المطلوبة لتحقيق هذه الرؤية”. كما شدد مسؤول كبير بالأمم المتحدة على خطوة أن يصبح هناك أي فراغ في السلطة بغزة حتى لا تحدث سيولة بالشكل الذي يؤدي فوضى لا يمكن السيطرة عليها.

“حماس” تعرقل فرص التسوية من خلال موقفها المعادي وعدم انفتاحها على الحلول السياسية الملحة في ظل الوضع الإنساني الصعب على المدنيين بغزة تحت ظروف الحرب ورغبتها في الانفراد والهيمنة.

وبخلاف ما تزعم “حماس” بأن مسؤولي السلطة الفلسطينية لديهم أنشطة “مشبوهة” بغزة، فإن أحد قادة “فتح” شدد على أن وجودهم يرتبط بالتنسيق بشأن توزيع المساعدات وهم غير مسلحين بل هم من داخل غزة وليس خارجها. وأضاف: “كانت هناك قافلة مساعدات مصرية وتم التنسيق بشأنها مثل جميع القوافل الأخرى. نعم، المصريون لديهم اتصال مباشر مع الإسرائيليين، وكانت مهمتنا هي محاولة تنسيق وتوصيل بعض مساعدات السلطة الفلسطينية مع المصريين إلى شعبنا. من المفترض أن يكون هذا شيئًا يرحب به جميع الناس، وليس الهجوم عليه”.

وبالتالي، تواصل “حماس” تسييس المساعدات الإنسانية التي تشارك في جهودها عدة أطراف إقليمية ومن خلال السلطة الفلسطينية، حيث إنها تهدف إلى منع عملية وصول وتوزيع تلك القوافل الإغاثية المدنية وانخراط أي أطراف فيها من دون أو بشرط ظهور الحركة المصنفة على قوائم الإرهاب في مشهدها العام حتى تبعث برسالة أنها مازالت تحكم سيطرتها وتفرض إداراتها السياسية والأمنية على القطاع. 

كل ذلك يعقد مسألة حكم القطاع مستقبلاً، وكذا فرص التسوية التي تعرقلها “حماس” من خلال موقفها المعادي وعدم انفتاحها على الحلول السياسية الملحة في ظل الوضع الإنساني الصعب على المدنيين تحت ظروف الحرب ورغبتها في الانفراد والهيمنة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات