منذ عام 2011، اجتاحت الأزمات الاقتصادية السورية بعاصفة من الشدة والانخفاض الذي يُشبه الزلزال، مُحدثةً تأثيرات جسيمة على نسيج الحياة اليومية للمواطنين، وكأن العقوبات الاقتصادية كانت الوقود الذي أشعل فتيل التعقيدات الاقتصادية، مُضاعفاً من حدّة الوضع الراهن.

وفي ظل الحرب الطاحنة، تحولت الأرض السورية إلى مسرحٍ لمأساة اقتصادية، حيث تُشير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الشعب السوري يُعاني تحت وطأة الفقر المُدقع. وكأن ذلك لم يكن كافياً، فقد شهدت الليرة السورية انهياراً مروّعاً في قيمتها، مع تضخّمٍ يُنذر بالخطر ويُعمّق الجراح.

الحكومة السورية التي امتهنت عزف سيمفونية الأسعار، أصدرت قرارات رفعت من أسعار المحروقات والكهرباء، مُحوّلةً الأسواق إلى موجة تسونامي من الغلاء، وباتت الحكومة، في نظر الشعب، شريكاً في هذا الارتفاع الصاروخي للأسعار، الذي شهد قفزة تتجاوز الـ 100 بالمئة خلال رمضان الحالي مقارنةً بالعام الماضي، مُضيفةً بُعداً جديدًا للتحديات التي يواجهها السوريون في شهر الصيام.

الضعف.. نسبة الزيادة خلال رمضان

في ملحمة الأسواق الرمضانية، أعلن رئيس جمعية حماية المستهلك، عبد العزيز المعقالي، كما يصفه الشارع السوري بتهكم “حامي حمى المستهلكين”، عن تراجع ملحوظ في موجات الشراء الاستهلاكية، وذلك بفعل الأسعار التي تسلّقت قمم الجبال، مُخلّفةً وراءها صدى الصمت في أروقة الأسواق.

سوريون ينظرون إلى واجهة محل حلويات في دمشق مزينة خصيصاً بمناسبة حلول شهر رمضان الذي يصوم فيه الناس من الفجر حتى الغروب. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

وفي تحوّل دراماتيكي للعادات الشرائية، أشار المعقالي إلى أن رمضان هذا العام شهد تغييراً جذرياً في سلوكيات المستهلكين، حيث تخلت السفرة الرمضانية عن أصناف كانت يوماً ما تُعتبر من الركائز الأساسية للمائدة الرمضانية.

وسلّط المعقالي الضوء على الرقابة التموينية التي وصفها بالضعيفة في وجه عاصفة التسعير العشوائي، داعياً إلى ضرورة تشديد القبضة الرقابية على الأسواق وتوقيع العقوبات الرادعة على كلّ مَن يجرؤ على المساس بالأسعار.

وألقى رئيس جمعية المستهلك الضوء على مسرحية التسعير حيث يتهرّب الكثير من التجار من وضع الأسعار على المواد المعروضة، في محاولةٍ للإفلات من قبضة العدالة، مُفضّلين مواجهة غرامة مالية بدلاً من السجن التي تُهدد من يتجرأ على البيع بأسعار مُبالغ فيها.

الكيلو الواحد بـ 20 ألف

في الأسبوع الثاني من شهر رمضان، شهدت الأسواق السورية موجة من الارتفاعات السعرية التي تخطت حدود التوقعات، حيث صعدت أسعار الخضار والفواكه بوتيرة متسارعة، مُعلنةً عن موسم جديد من التحديات الاقتصادية للمستهلكين.

الحكومة السورية شريكة برفع الأسعار في رمضان هل ستحاسب على تقصيرها؟
منظر لسوق في دمشق خلال شهر رمضان. (تصوير عمار غالي/غيتي)

تتربع البندورة على عرش الأسعار بـ 9 آلاف ليرة سورية للكيلو، بينما يتأرجح الخيار في فلك 15 إلى 20 ألف ليرة، ويُسجل الباذنجان والكوسا رقماً قياسياً بـ 15 و20 ألف ليرة على التوالي، وتغزو الزهرة السوق بـ 8 آلاف ليرة للكيلو. 

في عالم الفواكه، يُحلّق الموز عند 20 ألف ليرة، والفريز بـ 18 ألف ليرة، ويتفاوت التفاح بين 13 ألف ليرة حسب الصنف.

في هذا الصدد، لفت أحمد الهلال، رئيس مكتب التسويق في اتحاد الفلاحين، في حديثه لصحيفة “البعث” المحلية، إلى أن التصدير يقف خلف هذا الصعود السعري اللافت، مُؤكّداً أن استمرار تصدير الخضار والفواكه دون توقف خلال شهر رمضان قد أثّر سلباً على الأسعار المحلية. 

في رمضان، تتجلى معضلة الخضار والفواكه في الأسواق السورية، حيث تشهد ندرة ملحوظة تُسهم في صعود أسعارها. ويعزي أحمد الهلال، هذا الارتفاع إلى الاعتماد الكبير على البيوت البلاستيكية، والتوجّه المتزايد نحو زراعة الموز، مما يُقلّل من توافر باقي الخضروات.

مع ذلك، بيّن الهلال بأن بعض المحاصيل كالبازلاء والفول بدأت تغزو الأسواق، مما قد يُساهم في تخفيف الضغط على الأسعار. وفي خطوة استباقية، أعلن عن استيراد 30 ألف طن من البطاطا لسد الفجوة حتى موسم العروة الربيعية، الذي من المتوقع أن يبدأ في 30 نيسان/أبريل القادم.

أسعار الوجبات تجاوزت مليوني ليرة

وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، سلّط عبد الرزاق حبزة، أمين سر جمعية حماية المستهلك، الضوء على التأثير العميق للوضع المعيشي على شهر رمضان وتقاليده العريقة التي يحتفي بها السوريون سنوياً.

الحكومة السورية شريكة برفع الأسعار في رمضان هل ستحاسب على تقصيرها؟ (1)
ميقظو الفجر التقليديون المعروفون باسم “المسحراتي” يقرعون الطبول ويرددون الأناشيد الدينية لإيقاظ المسلمين قبل شروق الشمس لتناول وجبة السحور قبل صيام النهار خلال شهر رمضان في دمشق. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

وأشار حبزة إلى أن تكلفة الوجبة الرمضانية لأسرة مكونة من خمسة أفراد قد تصل إلى مليوني ليرة سورية في حال اختاروا تناولها في أحد مطاعم دمشق الشهيرة، مما يعكس الارتفاع الكبير في أسعار المطاعم والمقاهي، والذي يتجاوز بكثير القدرات المالية للعديد من العائلات.

أسعار وجبات الإفطار في دمشق خلال شهر رمضان تتنوع لتناسب مختلف الأذواق والإمكانيات. ففي مطاعم الدرجة المتوسطة، تتراوح تكلفة الوجبة للشخص الواحد بين 200 و 300 ألف ليرة سورية، بينما ترتفع الأسعار في مطاعم أبو رمانة والمالكي لتتراوح بين 400 و 750 ألف ليرة، وذلك تبعاً لنوع الطعام المُقدّم.

أما فنادق “الشيراتون” و”الداما روز”، فتوفّر تجربة إفطار فاخرة مع فقرات غنائية طربية قبل السحور، وتتراوح أسعارها بين 750 و900 ألف ليرة سورية. وتشكل مطاعم دمشق القديمة خياراً مناسباً للباحثين عن نكهات تقليدية بأسعار معقولة، حيث تتراوح تكلفة الوجبة بين 150 و 250 ألف ليرة.

أكبر كارثة لليرة السورية

عطفا على ما سبق، حذّر الخبير الاقتصادي، جورج خزام، من مخاطر منصة تمويل المستوردات، التي يصفها بأنها “أكبر كارثة اقتصادية أصابت الليرة السورية”. ولفت خزام في منشور على صفحته بموقع “فيسبوك”، إلى أنّ المنصة أدّت إلى تراجع الصادرات بشكل كبير، مما أدى بدوره إلى مزيد من تراجع قيمة الليرة.

سوريون يسيرون خارج المسجد الأموي في وسط دمشق خلال صلاة الجمعة الأسبوعية. (تصوير جوزيف عيد/ AFP)

وفقا للخبير الاقتصادي، يُعاني المستوردون من بطء شديد في عمل المنصة، حيث تستغرق عملية تمويل المستوردات شهورًا. كما تُضاف رسوم إضافية على المستورد بسبب الانتظار، مما يُزيد من تكلفة بعض المستوردات بنحو 35 بالمئة.

طبقا لرؤية خزام، فإن قلة البضائع المعروضة للبيع في السوق، نتيجة بطء المنصة، تؤدي إلى زيادة أسعار جميع البضائع والمواد الأولية اللازمة للتصنيع. ويُفاقم هذه المشكلة عدم وجود منتجات وطنية بديلة كافية للمواد الأولية، مما يُهدد بتراجع قدرة الصادرات السورية بشكل أكبر.

في ظل الأحداث الاقتصادية الجارية، تعاني العملة السورية من انخفاض ملحوظ يفوق الـ 99 بالمئة من قيمتها، مقارنةً بالفترة التي كانت فيها تُقدر بـ 47 ليرة للدولار الواحد. هذا التراجع الكبير، إلى جانب التضخم، أدى إلى ارتفاعات حادة في الأسعار، حيث بلغت الليرة في السوق الموازية نحو 14.500 ليرة مقابل الدولار، بينما حُدد السعر الرسمي بـ 12.500 ليرة.

من جانبه، يُنبئ البنك الدولي بأن النمو الاقتصادي في سوريا قد يشهد مزيدًا من الانكماش إذا ما تباطأت وتيرة أعمال إعادة الإعمار.

وفي تحليله للوضع، وصف الكاتب والمحلل السوري، محمود مرعي، في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”، الحالة الاقتصادية في سوريا بأنها “سيئة”، لا سيما في ضوء التراجع الذي شهدته العديد من المؤشرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، مع استمرار تدهور قيمة الليرة السورية، وتصاعد معدلات البطالة، وتفاقم التضخم.

هذا التدهور في المؤشرات الاقتصادية أدى إلى زيادة كبيرة في مستويات الأسعار، مما أسفر عن تراجع القوة الشرائية بشكل ملحوظ، وهو ما انعكس بدوره على الوضع الاقتصادي للدولة بصورة تحمل مزيدًا من السلبية.

حاليا في سوريا، نشهد انهيار العملة السورية بشكل قوي، حيث كانت الرواتب والأجور بالكاد تكفي معيشة المواطنين، بينما حاليًا لا تكفي أكثر من أسبوع، وهو ما يدفع الكثير إلى البحث عن وسائل معيشية أخرى، وبات ارتفاع الأسعار وخصوصا في رمضان أيضًا من مظاهر انهيار الوضع الاقتصادي، لاسيما في ما يتعلق بأسعار مواد البناء وسعر طن الحديد وأجور الأيدي العاملة بالإضافة إلى أسعار المواد الغذائية، فهل ستحاسب الحكومة السورية على تقصيرها؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات