إن مكانة المرأة عبر التاريخ هي مكانة دونية مقارنة بمكانة الرجل، خاصة في المجتمعات البطريركية (التي تستند على النظام الأبوي) إلا في بعض الاستثناءات، فالتنشئة الاجتماعية هي المسؤولة عن تحديد أدوار كلا الجنسين وفق إيديولوجيا ثقافية تفرّق بينهما ليس على أساس بيولوجي فقط، بل أيضا على أساس المعايير التي حدّدتها الموروثات الاجتماعية المترسّخة في المنظومة الثقافية للمجتمعات الأبوية، وهو ما يشير إلى أن التمييز الثقافي للذكر على الأنثى، “هو المعنى الحضاري الذي تضفيه الثقافات على الجنس”، وهذا ما أكداه (CANDACE WEST وDON H ZIMMERMAN) في مقالهما “فعل النوع الاجتماعي” المنشور سنة 1987 والذي خلُصا فيه “إلى أن النوع الاجتماعي ليس صفة شخصية أو سمة يحملها الإنسان بل هو فعل يقوم به الإنسان عن وعي تام وعن إدراك مسبق لما يُعد سلوكا أنثويا أو ذكوريا مقبولا، إلا أن ما يُعد سلوكا أنثويا أو ذكوريا مقبولا يختلف من مجتمع الى آخر”.

“وهذا ما يعني بالضرورة أن الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالأنوثة والذكورة هي من إفراز المجتمع والثقافة ولذلك هي ليست أبدية”، لكن هذا التمييز في المجتمعات الإسلامية يُعد “متجذرا” ومدعوماً من قبل المنظومة الدينية، رغم أن النساء كان لهنّ دور هام في الكفاح والنضال ضد المنظومة الاستعمارية في بلدانهن، وهو ما حذا ببعض المفكّرين في العالم العربي إلى اعتبار قضية المرأة ومكانتها صلب مجتمعها أولى قضايا التغيير الاجتماعي نظرا إلى فاعلية دورهن في المجال الثقافي والاقتصادي والسياسي والعلمي وما إلى ذلك، خاصة مع بداية بروز الحركات النسوية وقبلها النهضة النسوية التي أسّستها بعض رائدات الفكر، كهدى الشعراوي في مصر، وثريا الطرزي في أفغانستان، وهنا للقارئ أن يتساءل هل عايشت فعلا أفغانستان نهضة نسوية؟

أفغانستان والحداثة

يذهب العديد من الأفراد إلى اعتبار أن دولة أفغانستان من أكثر الدول رجعية وتخلّفا خاصة في ظل حكم حركة “طالبان” الإسلامية، لكنهم لا يعلمون أنها كانت من الدول القلائل التي شهدت تطوّرا فكريا خلال عشرينيات القرن الماضي خاصة فيما يتعلق بقضية المرأة ومكانتها وتمكينها صلب مجتمعها، ولدراسة ما آل إليه وضع المرأة الأفغانية اليوم يجب أن نعود بالذاكرة إلى زمن الحداثة الذي ولّى واندثر، لأنه لا يمكن دراسة أي ظاهرة اجتماعية إلا إذا وضعناها في سياقها التاريخي.

أفغنيات يتمشين في 1972 بأحد شوارع كابول- “العربية”

لقد شهدت أفغانستان في منتصف القرن التاسع عشر حِراكا سياسيا كان نتاجاً للتدخلات الأجنبية التي جعلت من هذه الأرض مركزا لصراعاتها وهنا نقصد الصراع البريطاني الروسي آنذاك، طبعا إلى جانب حرب التحرير والاستقلال ضد بريطانيا والتي قادها الملك “أمان الله خان” الذي دامت فترة حكمه من (1919-1929)، وقد كان الملك “أمان الله” متجاوزا لثقافة مجتمعه إذ حاول منذ تولّيه العرش تحقيقَ هدفين:

أولهما، هو الحصول على استقلال أفغانستان من “الاحتلال البريطاني” وقد تم ذلك سنة 1919، وثانيهما هو اعتماد برنامج إصلاحي شامل يخوّل لأفغانستان أن تكون مستقلة داخليا وخارجيا، ناهيك أيضا أن تكون دولة قانون إلى جانب اعتماد الشورى بين المسلمين، والأهم أن الهدف من هذه الإصلاحات هو جعل أفغانستان تتبوأ مكانة هامة بين الأمم وقد لاقت هذه الأفكار قبولا وتأييدا من قِبل العديد من الأفغان.

ثريا الطرزي صانعة الحداثة النسوية والتي بسبب توجّهاتها الإصلاحية تم إجبار زوجها على التّخلي عن الحكم.

وقد كانت زوجة الملك “أمان الله خان” أكبر داعم له خاصة فيما يتعلق بالإصلاحات التي طالت المرأة الأفغانية، فكيف ساهمت الملكة الأفغانية في تأسيس النهضة النسوية في أفغانستان؟

من هي مؤسسة النهضة النسوية الأفغانية؟

بداية يتساءل القارئ من هي ثريا الطرزي صانعة الحداثة النسوية والتي بسبب توجّهاتها الإصلاحية تم إجبار زوجها على التّخلي عن الحكم لصالح أخيه إثر أعمال شغب وبتحريضٍ من بريطانيا وقتذاك.

ولدت ثريا الطرزي في دمشق 24 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1899، لأب أفغاني، وهو المفكر والسياسي محمود الطرزي، وأم حلبيّة، وهي أسماء رسمية ابنة الشيخ محمد صالح الفتال، مؤذن الجامع الأموي، وتعود أصوله إلى قبيلة “البشتون” المتحدرة من سلالة باركزاي، وفقا لما ذكره الأكاديمي والمؤرخ السوري جوزيف زيتون.

نشأت الملكة ثريا على الأفكار التقدمية والثورية التي تشرّبتها من والدها محمود الطرزي الذي نُفي إلى سوريا بسبب خلافه السياسي مع الأمير عبد الرحمن خان (أمير أفغانستان بين عامي 1880 و1901)، وفي سنة 1913 عادت ثريا وعائلتها إلى أفغانستان بعد قرار العفو عن المثقفين المنفيين الذي أصدره أمير البلاد حبيب الله خان، على إثر تولّيه الحكم. وهناك التقت نجل الأمير وولي عهده أمان الله خان، وارتبطا بعلاقة كُلّلت بالزواج عام 1913.

بعد هذا الزواج قام محمود الطرزي بإصدار جريدة أسماها “سراج الأخبار”، وقد خصص فيها قسما أسماه “عالم نسوان” أي “عالم النساء”، وفيه يتناول القضايا الخاصة بالنساء خاصة فيما يتعلق بحريتها وفاعلية دورها داخل مجتمعها، مستشهدا في أحد المقالات بالدور البارز للمرأة في عهد الخلافة العباسية وقد قال فيه: “عندما كان جميع الرجال والنساء الأوروبيين جهلة غير متعلمين، كانت المرأة المسلمة تشغُل مناصب مهمة كشاعرة وفنانة بل وعملت في مناصب إدارية”.

اعتبرت ثريا أول سيدة وملكة ووزيرة للتعليم في أفغانستان تُعنى بحقوق المرأة وتعليمها وقد أرسلت العديد من الفتيات للتعليم في تركيا.

كما دافع الطرزي عن حرية المرأة وناداها للمطالبة بحقوقها، معتبرا أن النساء المتعلمات هنّ فقط يمكنهنّ أن يكن زوجات وأمهات صالحات، وهنّ الوحيدات القادرات على تربية أبناء مستنيرين وصالحين لهم رؤى استشرافية لبناء مستقبل دولهم، وبهذا التّوجه فقد أعلن محمود الطرزي معارضته لقرار الأمير “حبيب الله خان” والد زوج ابنته ثريا، الذي أصدر قرارا ينص بمنع المرأة الأفغانية من الخروج إلى الشارع أو لزيارة الأضرحة أو السوق ومن تخالف هذا الأمر بدون موجب أو مبرر فسيتم معاقبتها.

لكن بعد تولي الأمير “أمان الله خان” للحكم، إثر اغتيال أبيه ظهر مدى تأثّره بالمساق الحداثي لوالد زوجته وقد قام بعدة إصلاحات اجتماعية بدعم وتأييد من زوجته ثريا الطرزي، والتي من أهمها منع ارتداء الحجاب وتعدد الزوجات رغم الرفض المجتمعي الذي لقوه آنذاك. وهنا اعتبرت ثريا أول سيدة وملكة ووزيرة للتعليم في أفغانستان تُعنى بحقوق المرأة وتعليمها وقد أرسلت العديد من الفتيات للتعليم في تركيا، كما عملت على توعية النساء وتثقيفهنّ حول حقوقهنّ وسبل تعزيز مكانتهنّ في المجتمع والحياة السياسية ورفع سن زواجهن وذلك من خلال مجلتها النسائية التي حملت اسم “Ershad-I-Niswan” (إرشاد للنساء) وذلك عام 1927.

ثريا الطرزي وزوجها أمان الله خان- “الصورة من الإنترنت”

 وقد وصفت الملكة ثريا بأنها امرأة استثنائية وقوية باعتبارها تحدّت ثقافة مجتمعها الذكورية و الاقصائية خاصة عندما ألقت خطبتها الشهيرة في يوم الاستقلال والتي قالت فيها: “الاستقلال ملك لنا جميعا… هل تعتقدون أن أمتنا منذ البداية لا تحتاج إلا إلى الرجال لخدمتها؟ يجب على النساء أيضا أن يأخذن دورهن كما فعلت النساء في السنوات الأولى لأمتنا والإسلام… يجب علينا جميعا أن نحاول التسلّح بأكبر قدر ممكن من المعرفة”، كما تجلّت قوة شخصيتها من خلال مرافقتها الدائمة لزوجها الملك في كل رحلاته إلى خارج البلاد وهذا ما لم يألفه مجتمعها.

هذا فضلا عن ظهورها الدائم بإطلالات غربية حداثية مخالفة بذلك ثقافة اللباس النسوي الأفغاني، بل إنها عممت اللباس الغربي على الفتيات الأفغانيات وقامت بتسفيرهنّ إلى تركيا للتعلّم كما ذكرنا آنفا، وهو ما ألّب الأفغانيون عليها وعلى زوجها الملك باعتبارهما أتيا شيئا منكرا خارجا عن الدين وثقافة المجتمع مما أجبر الشاه “أمان الله خان” على التنازل عن العرش لصالح أخيه ومن ثم الذهاب إلى المنفى رفقة زوجته في سويسرا إلى أن توفّيا.

حكم “طالبان” مقبرة النساء

رغم تقويض جلّ الإصلاحات التي قامت بها الملكة ثريا غير أن كل الحكومات المتعاقبة على أفغانستان خاصة بعد إلغاء النظام الملكي وتجذير النظام الشيوعي لم تحرم النساء في أفغانستان من التعليم، فقد كان الأمر اختيارا حرّا من قِبل أهالي الفتيات ناهيك عن ولوج الكثيرات منهنّ سوق العمل.

لكن مع صعود حركة “طالبان” للحكم سنة 1994 وهيمنتها على النسيج الاجتماعي والسياسي لأفغانستان تم حرمان الفتيات من التعليم أو المشاركة في أي مجال بحجة أن خروج المرأة للفضاء العام ومشاركته مع الرجال يُعد من المحظورات الدينية، بالإضافة إلى تشجيع الرجال على التعدد وتزويج بناتهن القاصرات باعتبار أن الزواج يحميهنّ من الفِتن وأن مكان المرأة الوحيد هو منزل زوجها.

وأن دورها الأساسي يقتصر على الاعتناء بالمنزل وتربية أبنائها وهنا العودة إلى التقسيم التقليدي للفضاء بمعنى أن الفضاء العام هو حكرٌ على الرجال باعتباره فضاء مفتوح، أما فضاء المرأة فهو المنزل باعتباره فضاء خاصاً ومنغلقاً مثل آفاقها داخل هذه المنظومة الاجتماعية.

هذا وقد تنامت ظاهرة العنف ضد المرأة الأفغانية، وهذا العنف يُعد آلية من آليات الهيمنة والسيطرة التي أقرّتها المنظومات الثقافية ضمن نسيج المجتمعات الذكورية، وبالتالي فكل أساليب الأذى والتعذيب مباحة ومبررة شرعيا ضمن سياق البناء الاجتماعي.

لكن مع تراجع نفوذ الحركة المتشددة بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، وجدت النساء متنفسا ضمن سياسة الحكومة الأفغانية إلى غاية سنة 2021 والذي كان تاريخ عودة هيمنة “طالبان” على أفغانستان من جديد، فقد تم آنذاك حرمان ما يقارب 1.1 مليون فتاة وشابة من الانتفاع بالتعليم النظامي.

المرأة الأفغانية في عهد حكم حركة “طالبان” الإسلامية- “رويترز”

أما في الوقت الحالي فنجد أن 80 بالمئة من الفتيات والشابات الأفغانيات ممن هنَّ في عمر الذهاب إلى المدرسة خارج المدرسة، أي ما يعادل 2.5 مليون نسمة، و30 بالمئة تقريبا من الفتيات الأفغانيات لم تطأ قدمهنَّ المدرسة الابتدائية على الإطلاق وهذا حسب تقارير خاصة لمنظمة “اليونسكو”، ناهيك عن حرمان أكثر من 100.000 طالبة من استكمال مسار تعليمهن الجامعي.

بالتالي، مازالت المرأة اليوم تتخبط في أفغانستان لاسترداد حقوقها المسلوبة منها باسم العُرف والدين ضمن منظومة سياسية راديكالية لا تعطي قيمة للإنسان ككيان حرّ ومستقل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة