إثر انهيار تنظيم “داعش” الإرهابي، باتت بقايا هذا التنظيم تمثّل عبئاً على كل دولة، وتسعى للتخلص منه. وواجهتْ عقبة تتمثل في أن معظمهم من النساء والأطفال، وهم غير مثبت عليهم تُهم عنف وإرهاب، وربما لم يرتكبوا مثل هذه الجرائم؛ لذا سعت كل دولة إلى ترحيل مَن بها إلى الدول التي يحملون جنسيتها، ووقعت أوروبا في مأزق ليس هيّناً على كل حال، حيث يكفل القانون الأوروبي لهم العودة، ويكفل لهم العيش في هذه البلدان طالما يحملون هذه الجنسية. 

وبحسب الأرقام التي جمعها توماس رينارد، الباحث في معهد “إيغمونت”، للعلاقات الدولية ومقرّه بروكسل، فإن أكثر من 200 امرأة من 11 دولة أوروبية و650 طفلاً يعيشون في مخيّمي “الهول وروج” لعوائل تنظيم “داعش” في شمال وشرق سوريا.

هذا وتواجه الدول الأوروبية ضغوطاً كبيرة لإعادة مواطنيها لعدم انتهاك التزامات حقوق الإنسان، إضافة إلى أن أوروبا تواجه مخاوف أمنية مشروعة، فضلاً عن الديناميكيات السياسية في البلدان التي تخشى وقوع هجمات إرهابية، خاصة أن بعض أجهزة المخابرات والأمن الأوروبية قالت وفي وقتٍ سابق، بحسب تقارير صحفية، إن ترك مواطنين أوروبيين في سوريا قد يشكّل “مخاطر كبرى”، بما في ذلك الانضمام إلى الجماعات الإرهابية التي قد تستهدف أنحاء أوروبا.

أوروبا دولة القانون 

تعتمد الدولة الحديثة على القانون كقوة منظّمة تضمن بقاءها وسيادتها، وهذا ما أكده القس البروتستانتي والباحث في الفلسفة السياسية وعلوم اللاهوت بجامعة أمستردام عماد عبد المسيح لموقع “الحل نت” قائلاً: إن أوروبا قبل أن تكون دول حريات هي دول قانون، وتعتمد دول أوروبا على القانون بوصفه أساس الدولة وأمنها، وترى في هذا سيادتها وميزتها الكبرى؛ فحرية الآراء مكفولة بموجب القانون، ولكنه يشترط عدم التعدي على حرية الأخرين.

بحسب الأرقام التي جمعها توماس رينارد، الباحث في معهد “إيغمونت”، للعلاقات الدولية ومقرّه بروكسل، فإن أكثر من 200 امرأة من 11 دولة أوروبية و650 طفلاً يعيشون في مخيّمي “الهول وروج”- “وكالات”

والواقع أن أوروبا حين تضع نفسها في مقارنة مع بلدان المشرق، فإن أو ما تتحدث به هو القانون، وتسعى إلى سيادته دائماً، وهو بلا شك قوام الدولة الحديثة، ويمكّن الدولة من إدارة التنوع الذي هو سمة أساسية في الدولة الحديثة ولا سيما المجتمع الأوروبي، ويُعد القانون هو ضامن الحريات في المجتمع الأوروبي، حيث يُلزم كل طرف تجاه الطرف الآخر بحقوقه وواجباته.

وكثيراً ما استغل الإسلام السياسي القانون الأوروبي واهتمامه بالحفاظ على الحرية للترويج لأفكاره، ويكفل له القانون الأوروبي هذا الترويج، والإسلام السياسي بدوره يعمل على أجندته تحت مظلة هذا القانون وحدوده. وتبدأ المشكلة الأوروبية مع الفعل الإجرامي الذي يعاقب عليه القانون، والانتماء إلى “داعش” هو حمل للسلاح وقتل المدنيين، هي جريمة يعاقب عليها القانون الأوروبي.

وفي الوقت الذي يعاقب فيه القانون الأوروبي على الفعل الإجرامي لا يعطي للدولة حقّ سحب الجنسية من المواطن الذي يحمل جنسيتها، حتى وإن كان مزدوج الجنسية، لأنه بحمله هذه الجنسية يُعد مواطناً في هذه الدولة وله حقوق فيها وعليه واجبات كذلك. ودفعت أزمة عودة بقايا تنظيم “داعش” وعائلات مقاتليها إلى دراسة سحب الجنسية من الذين انتموا إلى هذا التنظيم.

وحسب ما أفاد به الباحث بمركز اللاهوت الإسلامي في توبنغن عبد الغفار سالم لـ”الحل نت” تم مناقشة قانون سحب الجنسية الألمانية من الألمان الذين انتموا لـ”داعش” من البرلمان الألماني، ووافق عليه البرلمان وتم إصداره في عام 2019، وذلك في حالة حملهم جنسيات أخرى، وبالرغم من إصدار هذه القانون بالفعل، ولكنه لا يطبق على هؤلاء الأشخاص لأنهم سافروا قبل إصدار هذا القانون، والقانون لا يطبق بأثر رجعي. 

أوروبا وعودة عوائل “داعش”

في ظل سيادة القانون وعودة الأفراد المنتمين سابقاً إلى “داعش” يصبح الأمر معقّداً جداً، وأمام الدول الأوروبية بالخصوص؛ وذلك لرفعها لواء القانون عادة، حيث إنها ترى في تجاوزها للقانون انتمائهم للجماعات الوحشية غير المنظمة. ويلزمها القانون بعدم سحب الجنسية من هؤلاء العائدين، أو رفض عودتهم، وفي الحين نفسه يعطيها الحق في معاقبتهم بموجب القانون الأوروبي على جرائمهم. 

وإذا كانت بعض الدول مثل ألمانيا أصدرت قانوناً يعطي للدولة حق سحب الجنسية من الذين انتموا إلى “داعش” من الحاملين لجنسية أخرى، فماذا تفعل حيال مَن لا يحملون جنسية أخرى وهم موجودون؟ فرض هذا على الدول الأوروبية القبول بعودة النازحين من المخيمات الباقية من تنظيم “داعش”، وعملت على محاسبتهم بموجب القانون الأوروبي الذي يقعون تحت طائلته لحملهم جنسية البلدان الأوروبية.

ويلتزم النظام القضائي الأوروبي بالأدلة الكافية لإثبات ارتكاب الجريمة كي يعاقب عليها، وقد يصعب وجود مثل هذه الأدلة في مثل هذه الحالة، فضلاً عن أن القانون الأوروبي لا يعاقب على الأفكار والمعتقدات، ولكنه يعاقب على الفعل، ولا يمكنه أن يعاقب الأطفال الذين تربوا بوصفهم “أشبال الخلافة” في المستقبل، وأيضاً لا يمكن أن ينتظر ما سيفعلونه كي يعاقبهم عليه. 

في حقيقة الأمر لتخوف أوروبا ما يبرّره من خلال التاريخ المعهود لهذه الجماعات الإرهابية، التي تبرع في اللعب على القانون وتظهر في الوقت الذي تتوانى فيه الدولة لأسباب داخلية كانت أو خارجية.

وأخذت الدول الأوروبية محاذيرها وتدابيرها لدمج العائدين من مخيمات عوائل “داعش”، متنبهة إلى أنه من الخطأ اعتبار كل العائدين من هذه المخيمات مسالمين وقابلين للعيش في المجتمعات الأوروبية، كما لا يمكن الجزم بعدم ارتكابهم أي جرائم عنف أو إرهاب، وهذا ما دفع الدول الأوروبية لدراسة كيفية العودة وتدابير التحقيق مع العائدين من هذه المخيمات، والسعي نحو دمج الأطفال وإعادة تأهيلهم، وكذلك النساء والشباب. 

عودة عوائل “داعش” في هولندا

قبلت هولندا باستقبال العديد من العائدين من “داعش”، بل ربما سعت إلى استعادة الحاملين للجنسية الهولندية من سوريا، وجاء هذا بموجب القانون الهولندي الذي يلزم الدولة تجاههم، وكان أغلب العائدين أو من قبلتهم من النساء والأطفال، وأوضحت الحكومة للبرلمان أنه يتم توقيف النساء العائدين إلى هولندا ومحاكمتهم، لأنه في الوقت الذي ينصّ عليه القانون بحقهم في العودة، ينصّ على حق الدولة في عقابهم. 

وظهرت موجات من الجدل والدراسة حول عودة عائلات “داعش” إلى هولندا وقبولهم أو عدم قبولهم، وكان من بين هذه الموجات حسب ما يضيف القس عبد المسيح لـ “الحل نت”: وضح هذا في مناقشةٍ أجريت ذات مرة وحضرتُها هنا في هولندا عن 25 فرد سوري رفضت السلطات عودتهم لهولندا، وكانوا لاجئين، ووفق القانون نالوا الجنسية الهولندية ومجانية التعليم، والرعاية الصحية الشاملة، وسكن يليق بإنسانيتهم، حتى غير العاملين منهم أخذ الإعانة لعدم العمل، لربما نالوا حقوقاً لم تكن لهم في بلدانهم. وسافر هؤلاء الأشخاص الـ 25 لسوريا وانضموا لكلّ من “داعش” و”جبهة النصرة”، والسؤال كان عن عدم عودتهم أم لا، وكان النقاش في ذلك. 

وفي الوقت الذي يرى فيه البعض سحب الجنسية منهم لعدم وجود السبب الذي أخذوا من أجله هذه الجنسية، لأنها أُعطيت لهم بوصفهم لاجئين وفي حاجة للأمان على أرواحهم وأموالهم وذويهم، ولكنهم عادوا إلى سوريا وشاركوا في هذه الحرب التي صنعت اللجوء في بلدانهم، ومن ثم يقتضي المنطق سحب الجنسية منهم. كان البعض الآخر يرى أن مثل هذه المسألة غير واردة في القانون الهولندي، ويتخوف من اختراق القانون، حتى لا تكون هولندا غير مختلفة عنهم في عدم النظام واختراق القانون، وتتنازل عن ميزة تقدمها وسيادتها. 

وتقدّر السلطات الهولندية بنحو 75 عدد الأطفال الموجودين في المخيمات شمال وشرق سوريا- “أ ف ب”

وأردف عبد المسيح أنهم بموجب القانون الهولندي يعدون مواطنين هولنديين، وهذا ما جعل تجرّدهم من الجنسية تخلّياً عن قيم الحداثة والمواطنة التي هي قوام الدولة الحديثة، وهو بموجب القانون مواطن، وعليه أن يُعاقب بموجب القانون الهولندي. في حين أن ثمة من يرى أن علّة ظهور المواطنة وهي اللجوء أصبحت غير موجودة. 

ولكن لا ينفي تعامل أوروبا بالعموم وهولندا بالخصوص معهم كمواطنين تخوّفهم من الأفكار التي يحملونها، ووضح هذا وفق ما أضافه القس عبد المسيح لـ “الحل نت”، بأن معظم المجموعة كان لهم ظروف اقتصادية واجتماعية ممتازة، وهذا ما جعل السؤال عن سبب الانتماء واضحاً، فهو أمرٌ مجاوز الظروف الاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن يكون اعتقاد، أزمة انتماء، أي شيء غير أن يكون أزمة اقتصادية واجتماعية. وهذا يجعل المجتمع الهولندي متخوّف منهم، ووضح هذا في طرد إثنين من الأئمة في لاهاي، هاجموا الغرب والحضارة الغربية، ودعيا إلى الجهاد في سوريا، وتم طردهم من هولندا، بموجب قرار من وزيرة الأمن وأعلنت تحمّلها المسؤولية كاملة، ورفضت الخطاب تحت أي ظرف. 

هذا وتقدّر السلطات الهولندية بنحو 75 عدد الأطفال الموجودين في المخيمات شمال وشرق سوريا، بجانب 30 إمرأة و15 رجلاً.

في حقيقة الأمر لتخوف أوروبا ما يبرّره من خلال التاريخ المعهود لهذه الجماعات، التي تبرع في اللعب على القانون وتظهر في الوقت الذي تتوانى فيه الدولة لأسباب داخلية كانت أو خارجية، فضلاً عن معاناة هذه الدول من ويلات الإرهاب الذي يظهر فجأة، مما يجعلها عادة متخوفة من الإسلام السياسي ومتأهبة لما يمكن أن يقدم عليه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات