في كتابه “اليوتوبيا و الأيديولوجيا” عدّ كارل منهايم أن التاريخ واليوتوبيا أمران لا ينفصلان، فالبحث عن اليوتوبيا بحثٌ عن التاريخ، وتحقيق اليوتوبيا هو تحقيقٌ للتاريخ، وهذا بالضبط ما أعتقدتْ به تنظيماتٌ راديكالية عديدة، منها ما هو علماني ومنها ما هو ديني.

أما مقالتنا هذه فتُعنى بالصنف الثاني، وبالذات التنظيمات الإسلاموية المتطرفة، التي لا يزال يتربع على قمتها تنظيم “داعش” الإرهابي. لقد كشفت لي فترة عملي على رسالتي الماجستير والدكتوراه أن أعضاء تنظيم “داعش” يعتقدون اعتقاداً راسخاً بخلاصية أخروية، كانت هذه إجاباتهم عن أسئلة (الاستبيان) الذي اعددتُه لهذا الغرض، بعدها قررتُ متابعة هذا الموضوع للتّعرف على جذوره وحجم تأثيره من خلال ما كان التنظيم ينشره عبر وسائله وأجهزته الإعلامية ويقدّمه كجزء مهمّ من دعايته، وبعد أن ترسخت هذه السردية أصبحت جزءاً من عقيدته القتالية.

ويجب أن لا ننسى أن هذه العقدة مكوّن أصيل من مكونات الديانة الإسلامية، لم ينقطع تأثيره سواء على المستوى السّني أو الشيعي، منذ الأيام الأولى لدعوة النبي محمد حتى عصرنا الحالي.

أيديولوجيا تنظيم “داعش”

لقد كان بادياً للعيان من خلال الشعارات التي تبنّاها التنظيم، والمجلات والصحف والأفلام التي أصدرها، أنهم يقاتلون وهم على يقين أن “داعش” هي الجماعة الموعودة التي سيكون على يدها هزم الكافرين كلّهم من “جيش الصليب” و”الروم” قرب دمشق في “دابق” و”الأعماق”. وبعد تحقيق قيام “الخلافة الراشدة” سيتم تسليم الراية لـ”المهدي المنتظر”. ولهذا كان “داعش” يحاول الاقتراب من هذه الصورة السردية الخيالية كما رسمتها الأحاديث والروايات الخاصة بعلم الأخرويات الإسلامي، وكان من أبرز افكارها وشعاراتها أي الخلافة كما بدأت أول مرة، ناصعة، بيضاء، راشدة، “على منهاج النبوة”.

ومن جانب آخر، كانت أيديولوجيا تنظيم “داعش” هي نفسها أيديولوجيا السلفية الجهادية، فتنظيم “داعش” في هذا الجانب استند على التاريخ الفكري والنضالي لتيار السلفية الجهادية. لكن هذه الأيديولوجيا تعرّضت لإعادة صهر تحت نيران “يوتوبيا” الخلافة رغم ضخامة حجم تلك الأيديولوجيا ورسوخها واسبقيتها التاريخية، إلا أن القوى المخيالية لفكرة الخلافة – الرمز التاريخي للإسلام الإمبراطوري أو العالمي- استطاعت التغلّب على القوى الأيديولوجية.

تأتي حاجة تلك الحركات لهذا الخطاب من مجموعة من الأسباب، فعدا كونها عقيدة مفروضة دينياً، فهي تمتلك خطاباً سحري التأثير تزداد الحاجة له وقت الأزمات والحروب.

فنحن نعلم أن أيديولوجيا الجهادية العالمية بكل ثقلها التاريخي الممتد من معسكرات أفغانستان وبيشاور والشيشان والبوسنة، و”مكتب خدمات المجاهدين” فترة عبد الله عزام 1941- 1989م، و”الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين 1998م”، خضعت بعد 2003 لإعادة صهر كاملة في الجغرافيا الممتدة بين العراق وسوريا.

وفي هذا المختبر التاريخي العريق، وتحت النيران المستعرة للحالة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 تم تخصيب هذا التنظيم العدمي؛ “داعش”، مذ كان جنيناً قاعدياً (نسبة إلى القاعدة) حتى أصبح وحشاً عالمياً، تحسب له الدول الكبرى ألف حساب. وبالعودة إلى كارل منهايم فهو يقول، إن اليوتوبيا يمكن أن تكون قوة تفجيرية داخل رحم النظام القائم الذي نشأت فيه، فتعمل على تحويله، وتهديم حدوده، ليتحرر نحو المستقبل.

لم يكن “داعش” وحده هو التنظيم الذي تحوّل على يديه “اليوتوبيا” إلى “ديستوبيا”، فتاريخ السلفية الجهادية يحفل بعددٍ من الحركات التي اتّخذت من هذه العقيدة الدينية قوام أيديولوجيا وتنظيمياً ووصلت إلى نفس المصير، يمكن هنا تذكّر جماعة مصطفى شكري 1942- 1978م (التكفير والهجرة) في مصر، وجماعة عبد اللطيف موسى 1959- 2009م (جند انصار الله) في فلسطين. ولا يكاد يخلو خطاب لحركة من الحركات المحسوبة على تيار السلفية الجهادية من لون من ألوان الطيف الأخروي الإسلامي.

“عقيدة مفروضة دينياً”

تأتي حاجة تلك الحركات لهذا الخطاب من مجموعة من الأسباب، فعدا كونها عقيدة مفروضة دينياً، فهي تمتلك خطاباً سحري التأثير تزداد الحاجة له وقت الأزمات والحروب. الخطاب الأخروي الإسلامي يمزج بين جانب “يوتيوبي” يتمثل في عودة “الخلافة على منهاج النبوة” وحلم الدولة الأمبراطورية الكبرى، وبين جانب قتالي “جهادي” يفيد تلك الحركات في شدّ أواصرها التنظيمية وشحذ همم مقاتليها، حيث تعتقد الجماعات التي تؤمن بهذه السردية أنها “الطائفة المنصورة” التي تقاتل “الكفار” في آخر الزمان وسيفتح الله على يدها بيت المقدس.

لهذا فهي تخوض القتال بشكل قدري مكتوب قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، و كعلامةٍ من علامات تحقّق السردية، دامجة بين الماضي والمستقبل، فالقتال قدرها الذي لم تنتهِ منه بعد، وهو الذي يمنح قيمة رمزية لمقاتليها.

بهذه العقيدة القتالية تنخرط الحركات الأخروية في المعارك وتخوض حروبها الدموية تحت دافع من متخيل “الملحمة الكبرى” التي ستختتم بها مسيرتها “الجهادية” وتعبر من خلالها بوابة هذا العالم إلى الجنة الموعودة.

وكما رأينا خلال السنوات التي تلت عام 2014 فإن متخيل الحرب الأخروية هو الذي شكّل الجزء الأبرز من العمارة الأيديولوجية الداعشية، كما شكل عقيدتها القتالية. لن تخلو هذه الحرب الأخروية من أبعاد طهرانية أو تطهرية، يقول الدكتور محمد علي الكبيسي في كتابه “اليوتوبيا والتراث” “ينفتح الخطاب اليوتوبي على البُعد الطهوري، وهذه خاصية ذات أهمية في المشروع اليوتوبي بصفة عامة… لقد رحل الفارابي من المدن الجاهلية والفاسقة والمبدلة والضالة إلى المدينة الفاضلة. فالرحيل هنا دحض وتميز في نفس الوقت. دحض للشرور والآفات، وتمييز للطيب من الخبيث”.

لهذا فإن قراءة تاريخ تنظيم “داعش” تكشف لنا أن عقيدة الخلافة الأخروية بوجهها العدمي هذا وجذرها المفاهيمي المبني على مفهوم “الفتن والملاحم” والقتل والحروب تمثل جانباً مهماً من أسباب صعوده السريع، وتقف أيضاً وراء بلوغ التنظيم أعلى درجات التوحّش بين التنظيمات الإرهابية المسلحة، هذا ناهيك – كما أسلفنا- عن كونها ركيزة لدعايته، وبالتالي انجذاب الشباب إليه من كل أنحاء العالم.

إذن، من أجل فهم تنظيم “داعش” يجب فهم علاقات التداخل والتشابك – ومن ثم الصراع- بين اليوتوبيا والأيديولوجيا، وأقصد يوتوبيا الخلافة ودولتها “الفاضلة” كما تصوّرها النصوص ضمن السردية الأخروية الإسلامية، حيث خصصت كبقية الأديان الأخرى مجموعة من الأحاديث والروايات والقصص لطرح تصوّرها المستقبلي للعالم ورؤيتها الكونية لذاتها والعالم.

قسّم التراث الإسلامي السّني هذه الأحاديث والمرويات بحسب الأحداث إلى قسمين رئيسين، الأول تحت مسمى “أحداث تقع قبل خروج المهدي”، والقسم الثاني خاص بالأحداث التي تخص المهدي أو تعقب خروجه.

ويمكن أن نعرج على واحدة من آليات عمل هذه السردية، حيث يستحيل أي حدث مهما كان بشري أو عالماني “من العالم” داخل السردية الأخروية إلى علامة ذات محتوى ميتافيزيقي. لقد جمع التراث الإسلامي هذه العلامات وقسمها إلى علامات الساعة الصغرى، وعلامات الساعة الكبرى، وهذه الأخيرة هي موضوع اهتمام الأخروية الإسلامية، باعتبارها محددة، واضحة، ولم تبدأ بعد، وهي لا تسبق نهاية العالم بمدة طويلة كالعلامات الصغرى التي ابتدأ عدها التنازلي مع النبي محمد نفسه، و أوشكت على النفاد.

إن نفاد العلامات الصغرى – كما يعتقد بذلك الفكر الأخروي- هو المحرك والدافع لقيام تلك الحركات واجتماعها السياسي والعسكري، ليس الآن، بل منذ قرون، فالتاريخ لم ينفك يخبرنا عن عدم خلو حقبة أو مرحلة من مراحله إلا وظهرت مثل هذه الحركات.

السردية الأخروية الإسلامية

قسّم التراث الإسلامي السّني هذه الأحاديث والمرويات بحسب الأحداث إلى قسمين رئيسين، الأول تحت مسمى “أحداث تقع قبل خروج المهدي”، والقسم الثاني خاص بالأحداث التي تخص المهدي أو تعقب خروجه. جمعت هذه التصورات والرؤى (الأبوكاليبس Apocalypse وتعني الكشف عن نهاية العالم والكون) في التراث الإسلامي تحت مسمى “الفتن والملاحم”، أو “باب أحداث آخر الزمان”، أو “أشراط الساعة”.

وبالإضافة إلى سردية الخلاص كذلك تضم السردية الأخروية الإسلامية سردية كبيرة أيضاً هي السردية المهدوية أو كما يطلق عليها التراث الإسلامي “ذكر المهدي وخروجه آخر الزمان”. وفي هذا الصدد يحصي الشوكاني 1759- 1834م الأحاديث “المتواترة” حول المهدي “خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة. ويمكن عد نعيم بن حماد المتوفى في 844 م، أول من تنبّه لهذا النوع من الأدب الديني، فأفرد له بابا وسماه (كتاب الفتن)، وعلى نهجه سار العديد من اللاهوتيين المسلمين، وما زالوا، حتى يومنا هذا.

فكرة الخلافة والحرب الأخيرة “الملحمة الكبرى” كانت ماثلة في التفكير والوجدان الجهادي منذ “حزب التحرير” لتقي الدين النبهاني 1909- 1977م، و”جماعة التكفير والهجرة” لشكري مصطفى 1942- 1978م، وعبد اللطيف موسى 1959- 2009م، ولكن بعد كتاب “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية” لأبي مصعب السوري 1958م “مصطفى ست مريم” واقتراناً مع البعد العالمي لتنظيم “القاعدة” اخذت الفكرة الأخروية طابعاً  أكثر تنظيماً وبالتالي أكثر دموية، طابعاً قاعدياً. فعبر هذا الكتاب الضخم حاول السوري تحديث فكرة عودة الخلافة وإعادة قراءتها طبقاً للمعطيات السياسية والعسكرية التي استجدت على الساحة العالمية.

وبهذا فقد أعاد السوري رسم المخطط الأخروي استراتيجياً، وتجهيزها ليتم العمل بها مباشرة من قبل التنظيمات الجهادية، أي قام بإعدادها بالكامل ولا ينقصها سوى التطبيق. لذا فلم يكن مستبعد أبداً احتمال أن المجاميع المقاتلة في العراق بدءا من جماعة الزرقاوي “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” أنها استندت إلى أفكار منظّر الإرهاب هذا، وأنها ضمنت فكرته عن عودة الخلافة بشكل أخروي في استراتيجيتها، وهذا ما ظهر عبر تصريحاتها وخُطبها ومنشوراتها وكُتبها وشعاراتها وأفلامها وقصائدها. إن الحرب الأخيرة والمؤلفة من سلسلة طويلة من المعارك، التي ربما لن يدركها أعضاء التنظيم ولكن هم موقنون أنها آتية لا محالة. يقول العدناني “سوف نغزو روما.. وإذا لم نصل إليها الآن، فسوف يصل أبناؤنا وأحفادنا”.

ختاماً، يمكن القول إن قراءة متأنية لتاريخ الحركات الإسلاموية الأخروية أو المهدوية أو الخلاصية يكشف أنها ربطت كل شيء بإقامة الخلافة الحربية “على منهاج النبوة” وجعلته الهدف الاستراتيجي الأهم، حيث اعتبروا إقامتها ليس فقط السبيل الوحيدة لاستعادة الدولة الإسلامية، بل هو مقدّر إلاهياً وحتمي تاريخياً. لابدّ للشباب “المؤمن” وريث الإسلام الحركي والصحوي أن ينضم إلى “الطائفة المنصورة” التي “تعض على الإيمان بنواجذها وتمسك دينها كمن يمسك الجمر، وأن يهاجروا أو يرابطوا ويقاتلوا ضمن تنظيم هدفه إقامة خلافة آخر الزمان حتى يستشهدوا بين يدي هذا الخليفة العادل”. وأبو بكر البغدادي في خطبته: “وبشر المؤمنين” يستشهد بحديث الطائفة المنصورة “ولا تزال عصابة من أمتي يقاتلون… حتى يأتيهم أمر الله”.

وأثناء إعلانه عن توحيد تنظيمه مع “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام حالياً) التي يقول إنه من أنشأها وبعث أحد جنوده وهو أبو محمد الجولاني ودعمه بالرجال والمال “وبهذا الإعلان يتوارى اسم الدولة الإسلامية واسم جبهة النصرة، ويكونان جزء من تاريخنا المبارك”. وهذا ما قاله البغدادي يوما ما، وهذه المقالة تقول لماذا هو قاله.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات