بعد مضي أكثر من 5 أشهر على اندلاع الحرب في غزة، تبنى مجلس الأمن الدولي، مؤخرا، قراره الأول بشأن “وقف فوري لإطلاق النار” في القطاع. ويطالب مجلس الأمن “بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان” الذي بدأ قبل 3 أسابيع، على أن “يؤدي الى وقف دائم لإطلاق النار”، و”يطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن”.

وقبل قرار مجلس الأمن، تسبب الفيتو الروسي والصيني ضد الاقتراح الأميركي في فشل الوصول لقرار مماثل. إذ أن موسكو تعتبر الفيتو اليوم بشأن حرب غزة بمثابة فرصة لتعزيز دورها الإقليمي والدولي، وبالشكل الذي يعزز مكانتها كلاعب رئيسي في المنطقة. أما بالنسبة لاستثمار بوتين في الحرب في غزة، فيمكن رؤيته كـ “جزء من استراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ الروسي” في المنطقة وزيادة التوازن مع الولايات المتحدة. من خلال دعم “حماس” وتحالفها مع إيران، كما يمكن لروسيا تعزيز موقفها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط والعمل على تعزيز مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، حسبما يوضح الدكتور سامح مهدي الباحث المختص في القضايا الدولية.

كما أن العلاقات البراغماتية بين موسكو و”حماس” وإيران تعكس الأبعاد الاستراتيجية والسياسية لتحالفات روسيا في المنطقة، بحسب مهدي، موضحا لـ “الحل نت”: “يرى الروس أن الدعم للفلسطينيين وإيران يمكن أن يساعد في زيادة التوازن في النفوذ والتأثير في المنطقة، وبالتالي يتخذون مواقف تتماشى مع هذه العلاقات الاستراتيجية”.

إذاً، لم يكن استخدام روسيا حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع القرار الأميركي الذي يتبنى خطوات عملية بشأن وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة بين إسرائيل و”حماس”، أمراً مباغتاً. بل إن الموقف الروسي تحديداً يبدو متماهياً مع سياسة فلاديمير بوتين منذ اندلاع الصراع، والذي يحقق له جملة أهداف استراتيجية، منها محاولة الظهور بدور الوسيط على ضوء علاقته البراغماتية مع إيران، والتي تخوض ميليشياتها الولائية في “محور المقاومة” هذه الحرب على مبدأ “وحدة الساحات”. كما أن إطالة أمد الحرب يشتت انتباه القوى الإقليمية والدولية عن الغزو الروسي لأوكرانيا. 

بوتين وسياسة البحث عن الامتيازات

يباشر الرئيس الروسي بناء علاقات متنامية مع “حركة حماس” وبنفس الدرجة مع الفصائل والتنظيمات الولائية، منها قادة “الحشد الشعبي” في العراق. وهذه العلاقات تبدو استراتيجية في إطار تحركات موسكو بالمنطقة، والتي تتوسع في تموضعاتها السياسية والميدانية، كما هو الحال في سوريا وليبيا. فيما يسعى بوتين من خلال موقعه في الصراع بغزة أن يصعد على متن الأحداث كوسيط ومفاوض بين الأطراف المنخرطة في الحرب، بما يضمن له امتيازات الشراكة الجيوسياسية بدلاً من العزلة الدولية، واستبعاده من المحاصصة السياسية والإقليمية والأمنية في مرحلة ما بعد الحرب، وبناء التسوية. 

وقد سبق لموسكو أن قدمت مشروعاً لمجلس الأمن يقتضي وقف إطلاق النار. غير أن المشروع لم يتضمن أو بالأحرى تجاهل إدانة “حماس”. كما تصدت موسكو بفيتو مماثل لما أصدرته، مؤخراً، وذلك في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، ضد مشروع قرار أميركي لإدانة ممارسات “حماس” بحق المدنيين. 

اللافت في التقارب بين موسكو وهذا المحور، وبالأخص “حماس”، كان إعلان علي بركة، القيادي بالحركة الفلسطينية المصنفة على قوائم الإرهاب، بأنه قد تم إطلاع موسكو بـ “أهداف العملية وأسبابها” بعد فترة وجيزة من بدء الهجمات المباغتة ضد إسرائيل، وذلك في الوقت الذي تواترت فيه معلومات عن غياب أو بالأحرى تغييب معلومات مماثلة عن الجناح السياسي، فضلاً عن انحصار المعلومات في دائرة الجناح العسكري وقادته فقط. 

بالتالي، هذا الموقف الروسي الذي يبدو مسيساً وله حمولات أخرى تتعلق بالحاجة إلى صراع ممتد يؤدي فيه بوتين أدواره المطلوبة، سواء ما يتصل بجهود الوساطة، أو الاستثمار في الحرب للحد الأقصى الذي يجعله يراكم مساحة نفوذ يرى أنه كلما تقدم فيها خطوة فهي تعني تآكل وتقويض دور واشنطن في مناطق نفوذها التقليدية بالمنطقة. فيما طالب مشروع القرار، إلى “وقف فوري ومستدام لإطلاق النار” وذلك لمدة 6 أسابيع تقريباً، بما يؤدي لحماية المدنيين، وتوفير فرصة آمنة لوصول المساعدات الإنسانية. إلا أن سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، وصف مشروع القرار بـ “المُسيَّس بشكل مبالغ فيه ويتضمن فعليا منح الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية في رفح”.

وفي حديثه لـ”الحل نت”، يقول الباحث المختص في العلوم السياسية، الدكتور عبد السلام القصاص، إن إشارة السفير الروسي بأن مشروع القرار “مسيّس” واعتباره “ضوء أخضر لتنفيذ عملية عسكرية” يبدو “محض تلفيق” على حد تعبيره، موضحاً أن الموقف الأميركي بخصوص العملية العسكرية ليس خافياً على أحد، بل هو موقف صريح وواضح ومعلن باتجاه الرفض. كما أن كافة التحركات الأميركية التي يقودها وزير الخارجية أنتوني بلينكن تحمل هدفاً واحداً يخص “التهدئة ومنع حدوث العملية العسكرية برفح التي تهدد بها إسرائيل ولها عواقب خطيرة على الأمن الإقليمي، الأمر الذي حذرت منه مصر بشدة. وكان لقاء بلينكن الأخير في القاهرة ثم بعد ذلك مر على إسرائيل والتقى بنيامين نتنياهو لمدة 6 ساعات، للضغط من أجل الوصول لتسوية وظهر حتى طلب بلينكن من الحكومة القطرية بمواصلة التهديد بطرد قادة حماس في حال عدم القبول بتهدئة وهدنة إنسانية”.

جولة بلينكن والتهدئة الأميركية المطلوبة 

في جولته السادسة بالمنطقة منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، التقى وزير الخارجية الأميركي بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وكذا وزراء خارجية مصر وقطر والسعودية والأردن والإمارات. فيما أصدر الوزراء الخمسة، ومعهم ممثل للسلطة الفلسطينية، قبل اللقاء، بيانا مشتركا شددوا فيه على “أولوية تحقيق وقف شامل وفوري لإطلاق النار وزيادة نفاذ المساعدات الإنسانية، وفتح جميع المعابر بين إسرائيل وغزة”.

وأكد بلينكن في أعقاب اللقاء بينه ووزراء الدول الخمسة، أن “من الخطأ” تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية كبيرة في رفح، وتابع: “هناك طريقة أفضل للتعامل مع التهديد المستمر الذي تمثله حماس”.

ومن أبرز بنود مشروع القرار وفق النسخة التي انفرد بها موقع “الحرة” الأميركي، “إقرار ضرورة الوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار لحماية المدنيين من جميع الأطراف، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية الأساسية، وتخفيف المعاناة الإنسانية، ودعم الجهود الدبلوماسية لتأمين وقف إطلاق النار والإفراج عن جميع الرهائن. استغلال وقف إطلاق النار لتكثيف الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال العدائية وتحقيق السلام الدائم بما يتناسب مع القرار 2720. مطالبة جميع الأطراف بالامتثال للالتزامات بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي، فيما يتعلق بحماية المدنيين والأعيان المدنية، وإيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المنظمات الإغاثية والخدمات الطبية والبنية التحتية. التأكيد على الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة بأكمله، ورفع جميع الحواجز التي تحول دون تقديم المساعدة الإنسانية على نطاق واسع. رفض أي تهجير قسري للسكان المدنيين في غزة وانتهاك القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. تكرار مطالبة حماس والجماعات المسلحة الأخرى على إيصال المساعدات لجميع الرهائن المتبقين”.

وتتضمن البنود كذلك، “مطالبة جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتهم الدولية فيما يتعلق بجميع الأشخاص الذين تحتجزهم.. واحترام كرامة وحقوق الإنسان لجميع الأفراد المحتجزين. حث جميع الدول الأعضاء على تكثيف جهودهم لوقف تمويل الإرهاب، وتقييد تمويل حماس وفقا للقانون الدولي. يطلب من الأمين العام تكليف منسق للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، والمنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط ومسؤولين آخرين وتوفير الموارد والدعم اللازم للإسراع بإنشاء آلية تابعة للأمم المتحدة لتسريع وتبسيط تقديم المساعدات وضمان وصولها للجهات المدنية. مطالبة أطراف النزاع بالتعاون مع جهود الأمم المتحدة على الأرض لتوسيع نطاق تقديم المساعدات وضمان التدفق المستدام دون عوائق عبر جميع الطرق المتاحة، ومن خلال نقاط العبور مثل: معبر كرم أبو سالم الحدودي، والتعاون لفتح معابر إضافية وممر بحري. إجراء تقييم سريع للأضرار والاحتياجات في شمال غزة، من أجل تنسيق جهود إعادة الإعمار من خلال مكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي.

وأخيراً “تجديد الالتزام الثابت برؤية حل الدولتين، حيث تعيش دولتان ديمقراطيتان، وتعيش إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، بما يتفق مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والتأكيد على توحيد قطاع غزة مع الضفة الغربية في ظل السلطة الفلسطينية”.

الأبعاد الجيوسياسية للموقف الروسي

الاستثمار الروسي له أبعاد جيوسياسية تتعلق بعملية توسيع نفوذ موسكو في الشرق الأوسط من خلال التناقضات الحاصلة في عدة دول، ومنها سوريا، فضلاً عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وليبيا والعراق وحتى اليمن. ولعل المجموعات المسلحة، التي يتم توظيفها وإدارتها من قبل إيران، تدخل في خدمة الإستراتيجيات الروسية من بوابة الحضور الروسي وتأثيرها؛ لأن هناك قواسم مشتركة بين مشروع كل طرف، وفق الباحث والكاتب السياسي إبراهيم كابان. 

ويوضح كابان لـ”الحل نت”، أن المسارات التي تتخذها روسيا في تضمين حضورها باستمرار، تكمن في البوابة الإيرانية والمجموعات التي تتبع لها في المواقع الساخنة. وقد يشكل الضغط الروسي على المشروع الأميركي الإسرائيلي مكاسب في مناطق أخرى، وإن كانت روسيا حريصة على إسرائيل وصيرورتها. إلا أن المناقصات التي تتم حول الأزمة في غزة تتيح لروسيا الاستفادة منها على المدى الموضوعي.

لذا، فإن أي مشاريع مقترحة لوقف إطلاق النار في غزة إذا ما دخلت في مسار المصلحة الروسية – الصينية فلن تجد طريقها للقبول والتمرير، وإن كان ذلك على حساب مزيد من ضحايا الفلسطينيين.

وبالرغم من الضرر الذي تسبب فيه الموقف الروسي في استخدام الفيتو ضد المشروع الأميركي لوقف الحرب -قبل أن يتم إقرار القرار-، والحديث للباحث والكاتب السياسي إبراهيم كابان، إلا أن موسكو لم تتدخل عسكرياً لإنقاذ أهالي غزة وحتى “حركة حماس”. وإن التحرك الروسي الإيراني يفسح المجال أمام الجيش الإسرائيلي في المضي قدماً في التوسع داخل رفح والمناطق المتبقية في غزة. بمعنى الدعم الذي يعتقد أن روسيا والصين تقدمانه لصالح “حماس”، هو نفسه يتسبب باستمرار المعاناة في غزة، وكل زيادة في الصراع والمواجهات يدفع بالفلسطينيين نحو مزيد من الضحايا والمعاناة. وبذلك تستخدم روسيا الأساليب الإيرانية في التعامل مع التطورات في غزة، من خلال استخدام حق الفيتو وكذلك الشعارات، ومزيد من الخطابات التي لم تفد الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرين في غزة.

في المحصلة، يتماشى الموقف الروسي المعادي للخطوات الأميركية بخصوص إنهاء الأزمة مع السياسة البوتينية التي لا تكف عن إفشال دور واشنطن، بل وتحميل الأخيرة عواقب الأزمات والصراعات بالمنطقة، كما جرى في أعقاب اندلاع “طوفان الأقصى”، وقد صرح الرئيس الروسي أن ما حدث هو نتيجة “فشل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”. 

وسبق لمعهد “دراسات الأمن القومي” في تل أبيب، أن ألمح لعمق ومتانة العلاقات بين موسكو و”حماس” التي ترتقي لحدود عسكرية ولوجيستية، إذ “لا يقتصر الدعم الروسى لحركة حماس على الساحة الدبلوماسية الدولية”. ويضيف: “هناك شهادات تشير إلى وجود وسائل قتالية روسية فى أيدى حركة حماس، وضمنها صواريخ مضادة للدروع، وصواريخ أرض ــ جو، وغيرها على ما يبدو، نقلتها إيران، فى ظل تجاهل روسى للأمر”. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات