علاقة تلازم وتكامل هي علاقة الاقتصاد بالسياسة، وحتى نهاية القرن الماضي كان يُطلَق على علم الاقتصاد اسم “الاقتصاد السياسي” ولعل هذا المسمى يوضح إلى أي مدى هناك امتزاج وتماهي بين الاقتصاد والأحداث السياسية. 

الحدث السياسي هو الفاعل الأول والمتحكم في ديناميكا الاقتصاد و سيرورته؛ لأن الاقتصاد يعني التكيف مع المعطيات، والمعطيات تصنعها الأحداث السياسية. فمثلا بالنظر إلى أي دولة لديها حروب وعدم استقرار في القرار السياسي سيصاحب هذا انهيار اقتصادي. وتمثل إيران مثالا معبّراً عن التداخل المتبادل بين الاقتصاد والسياسة.

انخفاض كارثي للريال الإيراني

انخفض الريال الإيراني بشكل حاد يومي الاثنين والثلاثاء الفائتين، نتيجة لغارة جوية إسرائيلية مشتبه بها في سوريا أدت إلى مقتل جنرالات كبار في “الحرس الثوري”. فقد انخفض الريال إلى ما يقرب من 630 ألف ريال مقابل الدولار الأميركي. 

ملصقات تصور ضحايا الغارة الجوية على الملحق القنصلي لمقر السفارة الإيرانية في دمشق خلال حفل تأبين لهم في مقر السفارة في العاصمة السورية في 3 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

هذا هو أدنى مستوى تاريخي بحلول منتصف نهار الثلاثاء، بعد أقل من 24 ساعة من ورود أنباء عن غارة جوية على القنصلية الإيرانية في دمشق، يوم الاثنين. فقبل الهجوم، كان سعر الريال يتداول عند 612 ألف ريال مقابل الدولار. 

اليورو وصل بدوره إلى 674 ألف جنيه استرليني والجنيه الاسترليني 788 ألف ريال يوم الثلاثاء، مما أدى إلى توقعات كئيبة للتضخم في إيران في الأشهر المقبلة. 

هجوم دمشق، الذي لم تعترف به إسرائيل، كان أخطر ضربة لطموحات إيران الإقليمية منذ مقتل قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني، في غارة أميركية بطائرة بدون طيار في بغداد في كانون الثاني/يناير 2020. 

بحسب الباحث المتخصص في الاقتصاد الإيراني، أحمد شمس الدين ليلة، في حديثه مع “الحل نت”، فإن تقلبات العملة في أي بلد مرتبطة بعدة عوامل اقتصادية وغير اقتصادية منها التطورات والأحداث السياسية، ويزداد الأمر حساسية في حالة إيران لأنها واقعة تحت تأثير العقوبات الأميركية منذ عام 2018. 

هذه العقوبات أدت بدورها إلى سلسلة من تراجعات في قيمة العملة المحلية “التومان” وارتفع في أسعار العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الأكثر تدوالا (قفز سعر صرف الحر للدولار الواحد من أقل من 4 ألف تومان للدولار في 2016 إلى أقل من 60 ألف في 2024، ثم قفز إلى قرابة 64 ألف بعد ضرب القنصلية  الإيرانية في دمشق ومتّجه نحو الزيادة).

ولذا كانت ترتفع قيمة العملات الأجنبية دوما في إيران مع كل حدث كبير في الداخل أو الخارج بعدما يزداد الطلب عليها محليا تحوّطا من اتجاه الأوضاع نحو مزيد من التأزم بداية من الاضطرابات والاحتجاجات المحلية، والحرب الروسية الأوكرانية، وحتى حرب غزة، وهجمات “الحوثيين” على البحر الأحمر، وأخيرا وليس أخرا ضرب القنصلية  الإيرانية في دمشق.

اقتصاد متعلق بقشة

كان جميع الجنرالات الذين قُتلوا في هجوم القنصلية الإيرانية بدمشق متورطين في قيادة وكيل طهران في لبنان وسوريا، وينسّقون الهجمات ضد إسرائيل والقواعد العسكرية الأميركية في المنطقة. وعلى الفور اتهمت إيران إسرائيل وتعهدت بالانتقام، مما يزيد من فرص تصعيد القتال وتفاقم التوترات في المنطقة، في أعقاب هجوم “حماس” على مواقع إسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت. 

القنصلية الإيرانية دمشق سوريا إسرائيل الحرس الثوري الإيراني فيلق القدس محمد رضا زاهدي السفارة الإيرانية
أفراد الطوارئ والأمن يعملون في موقع الضربات التي أصابت مبنى مجاور للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، في 1 أبريل/نيسان 2024. (تصوير لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

وانخفض الريال الإيراني أكثر من 20 بالمئة منذ كانون الثاني/يناير الفائت، وهو ما يتجاوز انخفاض قيمته 15 ضعفا منذ عام 2018 عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع خطة العمل الشاملة المشتركة وفرضت عقوبات على صادرات النفط والعقوبات المصرفية على إيران. 

وقد أدى ذلك إلى خمس سنوات متتالية من التضخم المرتفع، الذي يتراوح بين 40 و50 بالمئة سنوياً، مما أدى إلى إفقار عشرات الملايين من الإيرانيين. ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة ثلاثة أرقام وأصبح السكن لا يمكن تحمله بالنسبة للعديد من أفراد الطبقة العاملة.

الباحث المختص في الاقتصاد الإيراني، أحمد كامل،  في تعليقه لـ”الحل نت”، قال: إن وجود العقوبات الاقتصادية على إيران مع تكرّر الاحتجاجات السياسية دفعت إلى تدني البيئة الاقتصادية الإيرانية، وعملت على انهيار الاقتصاد وهو ما كان له آثار سلبية في الميزان التجاري الإيراني والذي يظهر في شكل أزمة العملة. 

وهذا خلق الموقف الضعيف للريال الإيراني الذي يتأثر مباشرةً بأي حدث عسكري، مما يكون له تداعيات يشعر بها المواطن العادي في الشارع متمثلة في الارتفاع الصارخ في الأسعار مع فقدان القوة الشرائية، وانهيار العملة الرسمية مقابل العملات الأجنبية.

العراق كان هو الباب الرئيسي الوحيد المفتوح أمام إيران للوصول إلى الدولار الأميركي، لكن واشنطن فرضت في عام 2023 عقوبات صارمة على العديد من البنوك العراقية المتورطة في تهريب الدولار الأميركي إلى إيران. 

العقوبات الأميركية على البنوك العراقية وضعت إيران في وضع معقّد للغاية، لأن لديها فائضاً تجارياً سلعياً يبلغ نحو 9 مليارات دولار مع العراق الذي يصدّر الغاز والكهرباء، في حين أن الدينار العراقي عملة عديمة الفائدة لتغطية الميزان السلبي للتجارة الخارجية الإيرانية.

النفط لا ينقذ انهيار الريال

على الرغم  من انخفاض الريال الإيراني إلا أن هناك زيادة حجم صادرات البلاد من النفط بشكل ملحوظ. لكن بنظرة فاحصة على الإحصاءات الرسمية تكشف انخفاض نمو الإيرادات. وهذا يمكن أن يفسر سبب محدودية وسائل الحكومة للتأثير على سوق العملة في طهران. 

روائح كريهة ومزعجة بعد ضربة إسرائيلية لأطراف دمشق ما القصة؟ (4)
صور لرجال قتلوا في خلال الهجمات الإسرائيلية في ملعب آزادي (الحرية) خلال تجمع ديني لإحياء ذكرى شهر رمضان في طهران، إيران، في 26 مارس/آذار 2024. (تصوير مرتضى نيكوبازل/ غيتي)

وبحسب إحصائيات شركة التحليلات التجارية “كبلر”، صدّرت إيران حوالي 1.3 مليون برميل من النفط الخام ومكثفات الغاز في عام 2023، مما يشير إلى نمو بنسبة 48 بالمئة على أساس سنوي. كما صدرت البلاد 1.39 مليون برميل يوميًا و1.44 مليون برميل يوميًا في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2024.

تظهر أحدث إحصائيات الجمارك الإيرانية، أن عائدات تصدير النفط في البلاد زادت بنسبة 7.8 بالمئة فقط على أساس سنوي إلى 32.59 دولارًا، خلال 11 شهرًا من السنة المالية الماضية، من 21 آذار/مارس 2023 إلى 20 شباط/فبراير 2024. 

ولا يزال سبب الفجوة الكبيرة بين حجم وقيمة صادرات النفط الإيرانية غير واضح، في حين انخفضت أسعار النفط في الأسواق الدولية بنسبة 17 بالمئة فقط على أساس سنوي في عام 2023 وبقيت دون تغيير في الربع الأول من عام 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. 

هذا مع ارتفاع أسعار النفط يوم الثلاثاء الماضي وسط تزايد الطلب من الصين والولايات المتحدة، أكبر مستهلكَين للنفط في العالم، فضلا عن تزايد المخاوف من أن تصاعد الصراع في الشرق الأوسط قد يؤثر على إمدادات النفط الإقليمية.

ومن المقرر أن يُعقد الأربعاء القادم اجتماعا عبر الإنترنت للجنة المراقبة لوزراء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفائها المعروفة باسم “أوبك بلس” لمراجعة عملية تنفيذ السوق وخفض الإنتاج من قبل الأعضاء. ومن المتوقع أن يواصل الأعضاء سياسة العرض الحالية المتمثلة في خفض الإنتاج طوعا حتى نهاية الربع الثاني من هذا العام.

التضخم يهدد النظام

يرجّع المحللون هذا الاضطراب الاقتصادي في إيران إلى السياسات الخارجية العدوانية التي ينتهجها النظام الإيراني ومشاريعه العسكرية، والتي لم تؤدي إلى تفاقم التوترات الإقليمية فحسب، بل كان لها أيضًا تأثير عميق على استقراره الاقتصادي. 

محمد رضا زاهدي الذي قتل بالقنصلية الإيرانية في دمشق يُشرف على مناورات لـ”الحرس الثوري” في طهران – (وكالة فارس الإيرانية)

إن التورّط في مناطق الصراع وإدامة موقف الترويج للحرب قد أدى إلى عزل إيران بشكل متزايد عن المجتمع الدولي، مما زاد من إجهاد قدراتها الاقتصادية. وفي ظل هذه الأجواء الخانقة سياسيا واقتصاديا ، ردد ياسر جبريلي، رئيس مركز التقييم والرصد الاستراتيجي في مجمع تشخيص مصلحة النظام، وجهة نظر قاتمة في 31 آذار/مارس الفائت. 

وسلط جبريلي الضوء على إحجام الحكومة عن التحول عن مسارها الحالي، وناقش علناً إمكانية الدولار يصل إلى 100 ألف ريال. ولا تكشف مثل هذه التصريحات عن اعتراف بالمستنقع الاقتصادي فحسب، بل تشير أيضًا إلى الاستسلام الكئيب لحتمية المزيد من التدهور. 

ويبدو أن إدارة رئيسي، العالقة في شبكة من الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تعمل على إعداد الشعب لعصر جديد من التضخم المفرط، وهي خطوة يمكن أن تشعل المزيد من الاضطرابات المدنية والاستياء من النظام. 

وفي عالم المعادن الثمينة، أشارت قناة “اطلاعات أون لاين” على “التلغرام”، في 2 نيسان/أبريل الجاري، إلى ارتفاع أسعار الذهب، حيث ارتفعت أوقية الذهب بمقدار 6.08 دولار ليستقر عند 2239 دولارا. 

ويمثل هذا التغيير زيادة بنسبة 0.3 بالمئة، مما يلخص الاتجاه الأوسع الذي لوحظ خلال الأسبوع والشهر الماضيين، حيث شهدت أسعار الذهب زيادة بنسبة 66 بالمئة و153 دولارًا على التوالي. ولا تعكس هذه الاتجاهات استجابة السوق العالمية لحالة عدم اليقين فحسب، بل تسلط الضوء أيضًا على عدم ميل الشعب الإيراني نحو سبل الاستثمار المستقرة وسط انخفاض قيمة الريال. 

انهيار وشيك؟

في حديثٍ لـ”الحل نت”، مع مصدر خاص في الحكومة الإيرانية، قال إن طهران الآن تعيش حالات متتالية من الضعف الاقتصادي والسياسي والعسكري، وأن الأحداث الأخيرة في دمشق تركت علامة استفهام كبيرة عن وضع  القوات الإيرانية في سوريا التي باتت تشبه الفئران في المصيدة. 

القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي (الثاني من اليسار) وقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني (الثاني من اليمين) يحضران اجتماعًا مراسم إحياء ذكرى وفاة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في طهران – إنترنت

فقبل الهجوم على القنصلية  الإيرانية –هذا على حسب مصدرنا- ترك السفير الإيراني القنصلية  ورحل، فهل معنى ذلك أن إيران بدأت تسلّم مؤسساتها في سوريا دون حماية! أما إنه انهيار في صفوف “الحرس الثوري” وبدأوا بتسليم الكثير من قياداتهم. 

وأشار المصدر إلى أن الارتباك العسكري يعقبه كنتيجة فورية انهيار اقتصادي الذي يلازمه الفساد. فالاقتصاد الإيراني يعاني من سنوات من حالات تضخم متصلة نتيجة السياسات الإيرانية العدائية في المنطقية، مما يضع النظام في مأزق ربما يقضي عليه. 

وخصوصية ما حدث في دمشق تأتي من أن هذه هي المرة الأولى التي تهاجم فيها إسرائيل مقرّاً دبلوماسياً لإيران، مما يعني أن إسرائيل تسعى إلى تدمر قدرات إيران العملياتية وشلّ حركتها عبر وكلائها ونسف قوتها العسكرية والمخابراتية عبر اغتيال أبرز القادة الذي يصعب استبدالهم على الأقل في الوقت الحالي. 

وأكد مصدرنا على أن ردة الفعل المحتمل من “الحرس الثوري” الإيراني على هذه الهجمات ستدعم مزيداً من الانهيار في العملة الإيراني، وتؤدي إلى فجوات عالية في صرف العملات الأجنبية ، فمن الوارد أن يتجاوز الدولار 80 ألف تومان خلال الأيام القادمة.

ويذهب شمس الدين ليلة، إلى أنه وبلا شك يكون ارتفاع معدلات التضخم هو أسرع رد فعل للسوق على تقلبات أسواق الصرف، ولذا عانت إيران -ولا تزال- من معدلات تضخم مرتفعة للغاية فاقت 50 بالمئة في بعض السنوات وحاليا في حدود 40 بالمئة، مع تضخم في أسعار الغذاء والشراب فاق 70 بالمئة في كثير من الأحيان وهو المكوّن الأكثر إنفاقا في ميزانية الأسر البسيطة، وأثر بلا شك في ارتفاع معدلات الفقر في المجتمع، علاوة على أثاره السلبية على الاستقرار السياسي والاقتصادي وتعطل الإنتاج وتنفير الاستثمار.

إن التشابك بين التدخلات الإقليمية  والسياسة الاقتصادية وردود فعل السوق العالمية يرسم مجموعة معقدة من التحديات التي يواجهها النظام الإيراني. إن العلاقة السببية بين المواقف الخارجية العدوانية وعدم الاستقرار الاقتصادي الداخلي معقدة، مما يوضح التوازن غير المستقر بين الطموحات السياسية والقدرة الاقتصادية.

ومع انخفاض قيمة الريال الإيراني وارتفاع الذهب، تقف الحكومة الإيرانية على مأزق، حيث تخلف قراراتها السياسية عواقب بعيدة المدى ليس فقط على اقتصادها، بل على استقرار المنطقة ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات