تحظر إيران استهلاك الكحول بشكل صارم، مع عواقب وخيمة تتراوح بين الجلد- 80 جلدة – والغرامات إلى السجن المحتمل؛ لكن هذا لم يمنع الناس من الشرب وإنما أدى الحظر إلى إنشاء شبكات سرّية لتحضير المشروبات الكحولية ونشوء مافيا يعتقد بعض الخبراء أن لها علاقات عميقة مع الحكومة نفسها. 

هذه العلاقة الخفية بين الكبار في الدولة وبين تجار الكحوليات أدت إلى وجود سوقٍ غير مشروعة مزدهرة وخطيرة. في الأشهر الثلاثة الماضية، انتشرت موجة من حالات التسمم بالكحول في جميع أنحاء البلدات الإيرانية الكبيرة والصغيرة، بمتوسط ​​حوالي 10 حالات دخول إلى المستشفى ووفيات يومياً، وفقاً للإحصائيات الرسمية في التقارير الإخبارية المحلية.

التسمم بالكحوليات المغشوشة

المدعي العام في شيراز، جنوبي إيران، أعلن عن اعتقال 3 أشخاص على خلفية وفاة طبيبة وتسمم عدد آخر بسبب تناول “مشروبات كحولية مغشوشة”. وقال أفشين محمدي، الاثنين 29 نيسان/أبريل الفائت، لوكالة أنباء “ميزان” التابعة للقضاء: “إجمالي من أصيبوا بالتسمم في هذه الحادثة 6 أشخاص، وتوفي أحدهم، وخرج الآخرون من المستشفى بعد إجراءات طبية في الساعات الأولى من صباح يوم الحادثة”.

رجل إيراني يشرب البيرة الغازية بينما يستلقي في جاكوزي على سطح فندق شمال غرب طهران. (تصوير مرتضى نيكوبازل/غيتي)

من ناحية أخرى، قال مصدر مطّلع لراديو “فردا” إن عدد الأشخاص الذين تعرّضوا للتسمم في هذا الحفل بمدينة شيراز يتراوح بين 10 و12 شخصا. وبحسب هذا المصدر المطلع، فإن المشروبات الكحولية التي تم تناولها في هذا الحفل كانت عبارة عن “ويسكي مختوم وكانت زجاجة واحدة فقط مغشوشة”. 

وفي وقت سابق، أعلنت عدة وكالات أنباء داخل إيران، بينها وكالة أنباء “فارس”، أن عدد الأشخاص الذين أصيبوا بالتسمم بسبب تناول مشروبات كحولية مسمومة بلغ 29 شخصا. بل إن عدداً من الأطباء أصيبوا بالفشل الكلوي، وتوفيت طبيبة حتى الآن، ودخلت طبيبة أخرى في غيبوبة، وورد اسم الطبيبة المتوفاة على مواقع التواصل الاجتماعي، فرزانة أكبري، طبيبة الأمراض الجلدية. 

بسبب الحظر المفروض على إنتاج وبيع المشروبات الكحولية في إيران ونقص المنتجات القياسية في السوق في العقود الماضية، تحول العديد من المواطنين إلى استهلاك أنواع غير قياسية ومصنوعة يدوياً من هذه المشروبات.

ولم يتم الإعلان عن الإحصائيات الدقيقة لعدد الأشخاص الذين ماتوا بسبب التسمم الكحولي في إيران؛ ومع ذلك، في إحدى الحالات، قال عباس مسجدي أراني، رئيس منظمة الطب الشرعي في البلاد، في أواخر حزيران/يونيو من العام الماضي، إنه في عام 2022، توفي إجمالي 644 شخصاً بسبب استهلاك الكحول المغشوشة.

في هذا الصدد، تعلّق عالمة الاجتماع، الدكتورة مديحة عبدالله فوزي، لـ”الحل نت”، أن اضطرابات تعاطي المخدرات تعد ثالث أهم مخاوف الصحة العامة في إيران، ويرجع ما يقرب من 2 بالمئة من جميع الأمراض في إيران إلى المخدرات، بما في ذلك الكحول، وبالتحديد الكحول غير المشروع من الدولة. 

وعلى الرغم من الحصار الذي تمارسه الدولة في الظاهر لمنع الكحوليات إلا أن سياسة الحصار والقمع دون احترام لحرية الأفراد جعلت في كل بيت من البيوت الإيرانية مكانٌ خاص لتقطير الكحوليات التي تفتقر إلى أدنى معايير الأمن الإنتاجي، وتتراوح أعمار المدمنين على الكحوليات من 18 – 50 عاما. 

وتتباين تصنيف المقاطعات الأكثر إدماناً للكحوليات، فقد تم تصنيف المقاطعات الغربية والجنوبية الغربية ضمن المنطقة شديدة الخطورة، وتضفي فوزي بأن معدل انتشار تعاطي الكحول بين الرجال أعلى منه بين النساء. 

على سبيل المثال، كان تعاطي الكحول أعلى بخمس مرات بين الرجال مقارنة بالنساء. ويمكن أن تُعزى هذه الاختلافات إلى حقيقة أن مستوى الوصمة المرتبطة بتعاطي الكحول، من الناحية الثقافية، أعلى بكثير بالنسبة للنساء الإيرانيات.

“الميثانول”.. الجاني الحقيقي؟

على الرغم من الحظر من قبل الدولة، لكن الكثير من الناس يشربون بانتظام “الفودكا” وغيرها من المشروبات الروحية إما التي يتم تهريبها إلى البلاد أو يتم تقطيرها في المنزل بواسطة روّاد الأعمال الصغار.

مافيا المشروبات الكحولية في إيران بين الغش والتحالف مع السياسيين! (4)
عاملة مقهى إيرانية تعمل في مقهى في مصنع أرغو في الحي التجاري في طهران، كان أيضًا أحد أهم مصانع تصنيع المشروبات في إيران خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. (تصوير مرتضى نيكوبازل/غيتي)

تحمل المشروبات الروحية المقطرة في المنزل خطر ارتفاع نسبة “الميثانول” التي يمكن أن تجعل الناس مرضى للغاية أو حتى تؤدي إلى الوفاة بالتسمم. يتم التحكم في المشروبات الروحية المنتجة تجارياً، ويتم إخراج “الميثانول” الزائد قبل تعبئته. 

ونظراً لعدم وجود مصانع تقطير تجارية في إيران، فإن المشروبات الروحية محلية الصنع تقتل الناس أحيانًا. وفي إيران، تفرض الحكومة على مصنّعي “الميثانول” السام إضافة لون صناعي إلى منتجاتهم حتى يتمكن الجمهور من تمييزه عن “الإيثانول”، وهو نوع الكحول الذي يمكن استخدامه في تنظيف الجروح.

و”الإيثانول” هو أيضًا نوع الكحول الموجود في المشروبات الكحولية، على الرغم من أن إنتاجه غير قانوني في إيران؛ إلا أن بعض المهرّبينَ في إيران يستخدمون “الميثانول”، ويضيفون القليل من مادة التبييض لإخفاء اللون المضاف قبل بيعه على أنه صالح للشرب، وفي بعض الأحيان يتم مزجه مع الكحول الاستهلاكي لزيادة العرض

يؤكد الطبيب عبدالله رشاد، في حديثه لـ”الحل نت”، أن الإقبال على صناعة الكحول في البيت، لأنه عادة ما يكون أرخص في ثمنه ومنخفض في تكلفته مقارنة مع الكحول الجاهز، وهذه العملية حيث تشكل مادة “الإيثانول” المكوّن الأول للكحول، وفي عملية صناعته تتكون كميات كبيرة من مادة أخرى وهي “الميثانول”، وعادة ما يتم تصفيتها وفصلها في مصانع الكحوليات. 

أما عندما تُصنع الكحول في البيت فهي تبقي موجودة، وتشمل أعراض التسمم بـ”الميثانول” العمي، أو الرؤية غير الواضحة، مع صعوبة في التنفس، وانخفاض في ضغط الدم، غيبوبة، صداع، ازرقاق الشفاه والأطراف ويسبب تأخير تلف الأعضاء والدماغ – إذ لا يمكن شم أو تذوق “الميثانول” في المشروبات.

ويقول الخبراء إنه يكاد يكون من المستحيل بالنسبة للمستهلك العادي اكتشاف “الميثانول” القاتل، الذي لا تختلف رائحته أو طعمه عن “الإيثانول”، في الشراب. ويقولون إن التقطير المنزلي يزيد من خطر التسمم بـ”الميثانول” إذا لم يتم تنفيذ العملية بعناية وبشكل صحيح. 

صانع النبيذ من أصل إيراني مسرور مكارمي يقف في مصنع للنبيذ على هامش موسم الحصاد في أرضه التي تعد جزءًا من مزرعة عنب دوبارد، حيث يعيد إنتاج نبيذ سيراه الفارسي القديم. (تصوير كريستوف أرشامبولت/وكالة الصحافة الفرنسية)

مسؤول بمستشفى في العاصمة الإيرانية طهران، ذكر أن المزيد من مرضى التسمم يأتون في الأيام الأخيرة لطلب المساعدة، حيث يشربون الكحول على أمل الوقاية من الأمراض أخرى. كما أدى التسمم بالكحول الغني بـ”الميثانول” في بعض الحالات إلى وفاة المرضى. 

وبالمثل، ذكرت وسائل إعلام إيرانية فيما مضى أن ما يقرب من 300 شخص لقوا حتفهم وأصيب أكثر من 1000 آخرين حتى الآن بسبب تناول “الميثانول” في جميع أنحاء البلاد، حيث يعتمد من يشربونه على المهربين.

وقال طبيب إيراني يساعد وزارة الصحة في البلاد لوكالة “أسوشيتد برس”، إن المشكلة أكبر، حيث بلغ عدد القتلى حوالي 480 شخصاً ومرض 2850 شخصاً. وتأتي حالات التسمم مع انتشار العلاجات المزيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في إيران، حيث لا يزال الناس يشككون بشدة في الحكومة بعد أن قللت من أهمية الأزمة لعدة أيام قبل أن تطغى على البلاد.

هروب الإيرانيين إلى الكحوليات

في تعليق عن الزيادة في عدد الوفيات يوميا في طهران قال أحد منتجي وبائعي الكحول في طهران، المعروف باسم سهيل، مدافعاً عن تجارته على الرغم من التلوث الأخير: “لا أعتقد أن بعض التجار قرروا فجأة قتل زبائنهم في نفس الوقت”. 

مافيا المشروبات الكحولية في إيران بين الغش والتحالف مع السياسيين! (1)
شبان إيرانيون يجلسون في مقهى في مصنع آرغو فاكتوري في الحي التجاري في طهران،أحد أهم مصانع تصنيع المشروبات في إيران خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. (تصوير مرتضى نيكوبازل/غيتي)

وذكر أن الاتجار وصنع الكحول محلي الصنع أمرٌ محفوف بالمخاطر بالفعل في إيران، وإذا تم القبض على التجار، فقد يواجهون السجن، مع مصادرة مخزونهم أو إتلافه. في حين أرجعت السلطات الزيادة في حالات التسمم إلى أسباب مثل استخدام الكحول على المستوى الصناعي في المشروبات، والإنتاج غير المتقن، وجشع المنتجين وتجاهل السلامة بحثاً عن ربح سريع. 

والحقيقة التي يغضّ الحكم الديني في إيران نظره عنها هي أن الإيرانيين يحبوا شرب الكحول، ولم يثنهم شيء عن تقليد متجذر بعمق في الثقافة الفارسية القديمة. 

تتدفق المشروبات الكحولية محلية الصنع وزجاجات المشروبات الكحولية المستوردة بحرية في العديد من الحفلات وحفلات الزفاف والتجمعات الاجتماعية. تقدم بعض المطاعم الراقية “الفودكا” لعملائها سرّاً في أواني الشاي. 

كما تحول بعض الإيرانيين إلى صنع المشروبات الكحولية الخاصة بهم. وقال مصطفى (34 عاما) إنه علّم نفسه كيفية تقطير الكحول من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو على الإنترنت لأنه كان خائفا من شراء هذا النوع غير القانوني. اشترى آلاتٍ لتقطير ماء الورد، واستولى على مطبخ أحد الأصدقاء الفارغ وبدأ في صنع “العَرَق”.

الشرطة الإيرانية عثرت على مصانع تقطير تحت الأرض في عيادة بيطرية وأكواخ على جوانب الطرقات ومصنع مزيل العرق ومستودعات مهجورة. يمكن أن تشتمل تجارة المشروبات الكحولية المعبّأة على عمليات سرّية تدفع للزّبالين لجمع زجاجات “الفودكا” و”الويسكي” من سلل المهملات لملئها بالكحول غير المشروع وبيعها كعلامات تجارية مستوردة، وفقًا للمقابلات والتقارير الإعلامية.

الأكاديمية نبيلة المحمدي في تحليها لـ” الحل نت”، ترى أن الإقبال على شرب الكحوليات لدى الإيرانيين يرجع إلى الدولة، لأنها هي المسؤولة عن هذا من خلال ضغطها المستمر على الشعب الإيرانيين مما يولّد رغبة قوية لدى الإيرانيين للهروب عن هذا الوضع المتطرف في كل شيء، فيرمي الأشخاص بأنفسهم في دائرة إدمان الكحوليات التي تعتبر أقل خطورة من إدمان المخدرات، فهناك علاقة قوية بين استهلاك الكحول وبين عوامل عدم الشعور بالرضا السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة