دأب النظام في إيران منذ تأسيسه 1979 على دعم الحركات الفلسطينية ضد إسرائيل، وهذا الموقف “الشكلي” متجذّر في توجهه الأيديولوجي المتأصل في القراءة الإيرانية للإسلام السياسي، المستوحى من المذهب الشيعي، والذي يدعو إلى محاربة الظلم والدفاع عن المظلومينَ في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

بالنسبة لطهران، فإن دعم فلسطين ومعارضة إسرائيل باتت مسألة سياسة، وليست جزءاً من هوية الجمهورية الإسلامية، ويبدو أن المواقف الإيراني قد شابه التحوّل حتى في جذور المذاهب الدينية، فتحول دعم القضية الفلسطينية من دفع الظلم إلى محاولات استغلال الظلم الراهن في غزة لتحقيق مزيدٍ من القمع والقهر الداخلي تحت ستار أن العالم مشغولٌ بما يحدث في غزة.

السياسيين وإفساد المزاج العام

تعاني السياسة الداخلية الإيرانية من حالةٍ من التباين الفج أو الانقسام بين المسؤولين الإيرانيين فيما بينهم وبين الشعب الإيراني تجاه ما يحدث في غزة. 

طالبة تتظاهر ضد الرقابة في جامعة طهران، بعد إغلاق الصحف الإصلاحية. وهي تحمل نسخة من صحيفة “كيهان” المعروفة بأفكارها المتطرفة المؤيدة للنظام، مقلوبة رأساً على عقب. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

رسمياً، يحافظ النظام الإيراني على سردية ثابتة في تصويره لغزو غزة من خلال وسائل الإعلام الرسمية والبيانات الحكومية، وتحديداً سردية الدعم الثابت للقضية الفلسطينية. ويحافظ المتشددون على الموقف الأكثر تطرّفاً في دعم “حماس”، بينما تحثّ الشخصيات الإصلاحية والمعتدلة على توخّي المزيد من الحذر. 

والفصائل الإصلاحية والمعتدلة عادةً ما تكون أكثر واقعية في نهجها تجاه السياسة الخارجية، وتؤمن بتقييد دور إيران في الدعم السياسي وتجنب التورّط العسكري، حتى أن السياسي الإصلاحي محسن هاشمي حذر من استفزاز إسرائيل خوفاً من تورّط إيران في غزوها لغزة وتحويل السرد إلى حرب إقليمية أوسع ضد إيران في محاولة لحشد دعم دولي أوسع. 

هذه هي المواقف الرسمية، أما الشعب الإيراني فعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أعرب الإيرانيون عن آراءٍ تنتقد “حماس” وتتعاطف مع إسرائيل، في رغبة منه للخروج عن خطاب الحكومة. كما أصبحت التّجمعات العامة، مثل مباريات كرة القدم، أماكن غير متوقعة للتعبير عن المعارضة السياسية. 

وتشير الأحداث التي وقعت في ملعب “آزادي” بطهران، حيث أطلق المشجعون صيحات الاستهجان أثناء الوقوف دقيقة حداد على غزة واحتجوا على الأعلام الفلسطينية، إلى هذا التغير في المزاج العام. وكان هذا الشعور واضحاً بالفعل في الهتافات العامة خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة على مدى السنوات الماضية، والتي أعرب خلالها  المتظاهرون عن إحباطهم من قيام الحكومة بتخصيص الموارد للسياسة الخارجية بدلاً من المشاكل الداخلية. 

وإذا كانت الركيزة الدستورية “نصرة المظلومين” مطبّقة بحزم على فلسطين، إلا أنها لا تنطبق على صراعات أخرى مثل الغزو الروسي لأوكرانيا على سبيل المثال. 

إن عدم تضامن الجمهور الإيراني مع فلسطين هو نتيجةٌ لهذه الاختلافات في التنفيذ، وتشمل دوافع هذا التغيير في الرأي العام بشأن فلسطين التحديات الاقتصادية المحلية المتصاعدة في إيران والتي لا تتم معالجتها، والرغبة في مزيدٍ من التركيز على التنمية الوطنية والشكوك المتزايدة في السياسة الخارجية للحكومة. 

كما أنه وليد الاستياء من السياسة الحكومية وليس يعكس تأييداً حقيقياً للمواقف والإجراءات الإسرائيلية، وربما أن الجمهور الإيراني ينظر إلى أحداث  السابع من تشرين الأول/أكتوبر وحرب غزة كامتدادٍ للصراع بالوكالة بين إيران وإسرائيل. 

وهناك مثلٌ عربي يقول “أهل مكة أدرى بشعابها”، فالشعب الإيراني يعلم سياسة المسؤولين في إيران والتي ستسعى جاهدة إلى استغلال الحرب أسوأ استغلال بما ينعكس سلباً على الشعب الإيراني بمزيد من القيود الاجتماعية والأعباء الاقتصادية.

إيران وفلسطين: دعم أم استغلال

مع استمرار الحرب في غزة، يعمل المسؤولون الإيرانيون بتصفية حساباتهم مع المعارضة في الداخل بجرأة أكبر على ما يبدو، فالنساء اللاتي يرفضن الحجاب يتعرضن لعقوبات أشد، فيما يتعرض الناشطون للاضطهاد، ويتم إعدام المزيد من السجناء.

النساء في إيران الإيرانيات سجن نرجس محمدي النظام الإيراني المرأة الإيرانية
متظاهر يحمل صورة ماهسا أميني خلال مظاهرة لدعم أميني، وهي امرأة إيرانية شابة توفيت بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق في طهران في طهران. (تصوير أوزان كوسي / وكالة الصحافة الفرنسية)

ويقول حقوقيون، إن النظام الإيراني زاد من وتيرة عمليات إعدام مَن أُلقي القبض عليهم في المظاهرات التي اندلعت عقِب وفاة الشابة مهسا أميني. ومنذ بداية عام 2023 وحتى كانون الأول/ديسمبر منه، أعدمت السلطات  الإيرانية أكثر من 690 سجيناً، وفقاً لمنظّمتي حقوق الإنسان “مركز حقوق الإنسان في إيران” و”منظمة هنغاو لحقوق الإنسان” ومقرّها أوسلو، واللتين استندت بياناتهما على إحصاءات إيرانية رسمية.

رغم هذا العدد الكبير، تعتقد المنظمات الحقوقية أن هناك حالات أكثر من عمليات الإعدام غير المبلّغ عنها والتي يتم تنفيذها بشكل خفي بعيداً عن أعين الجمهور وغالباً ما لا تظهر إلا بعد سنوات، عندما يكون لدى الأقارب الثكلى الشجاعة للتحدّث عن الأمر علانية. 

في هذا السياق، قال الناشط الإيراني في مجال حقوق الإنسان، سعيد دهقان، إن “العالم مشتت بسبب حرب غزة”، وأن “جمهورية إيران الإسلامية تستفيد إلى أقصى حدّ من هذا الوضع لقمع منتقديها، خاصة مع عمليات الإعدام التي يمكن أن أصفها بأنها قتلٌ من جانب الدولة بدافع الانتقام وتخويف المجتمع من خلال العنف”. 

عطفا على ذلك، تمّ الحُكم بالإعدام على ما لا يقلّ عن ثمانية أشخاص قُبض عليهم خلال مظاهرات داعية لحقوق المرأة في جميع أنحاء إيران والتي كان شعارُها “المرأة، الحياة، الحرية” وذلك بعد محاكمات صورية، ومنهم من أُعدم في الأشهر الأخيرة. 

ومن بين الذين تم إعدامهم ميلاد زوهريفند، البالغ من العمر 21 عاماً، ففي 30 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، أُعدم زوهريفند دون سابق إنذار، ودون أن تُتاح له فرصة توديع عائلته، ووفقاً لنشطاء حقوق الإنسان، لم يُسمح له حتى بالاتصال بمحامٍ أو بزيارات عائلية أثناء سجنه.

استخدام الظلم

يقول جاويد رحمن، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في إيران، إن الحرب بين إسرائيل وغزة تعزز “القمع” داخل إيران من خلال صرف الانتباه عن الانتقادات الداخلية للنظام. 

الارتباك والغموض يكتنفان المشهد السياسي في إيران في ظل التوتر الدولي – غيتي

وتأتي هذه التعليقات في الوقت الذي تستعد فيه إيران لرئاسة المنتدى الاجتماعي لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والذي سيدخل حيّز التنفيذ، وهي خطوة أثارت غضباً عالمياً. 

خلال مائدة مستديرة استضافها الاتحاد الوطني للديمقراطية في إيران (NUFDI) في واشنطن، يوم الثلاثاء الماضي، أشار رحمن، والذي لم يسمح له النظام مطلقاً بزيارة البلاد منذ تعيينه في تموز/يوليو 2018، إلى أن قادة النظام الإيراني كانوا يخططون بالفعل لتكثيف القمع في البلاد قبل الحرب. 

ولفت رحمن أيضاً إلى إن النظام “فقد مصداقيته” منذ الاحتجاجات التي اندلعت بسبب وفاة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عاماً في الحجز في أيلول/سبتمبر 2022 والتي أثارت احتجاجات في جميع أنحاء البلاد لعدة أشهر في أسوأ انتفاضة منذ ثورة 1979. وقُتل مئات المدنيين على أيدي أمن الدولة، واعتُقل عشرات الآلاف بشكل تعسفي، وأُعدم العشرات غيرهم.

المشاكل المتعلقة بالأحكام الدستورية والقانونية الحالية هي أنها تخضع لمعايير مصمّمة سياسيا أو لتطبيق أيديولوجية الدولة، مما يؤدي أيضا إلى الفشل في الانخراط في حوار ديمقراطي وعدم القدرة على إدخال إصلاحات تدريجية.

أستاذة الاجتماع السياسي، الدكتورة مديحة عبد الرحمن، في حديثها مع “الحل نت”، ذكرت أن هناك علاقة جدلية متصاعدة بين السلطة والأفراد، فكلما مارست السلطة العنف كلما أصبح الأفراد أكثر جموحاً وأكثر رغبة في التخلّص من العنف الممنهج ضدهم، وهنا يظهر دور المؤسسات الدولية التي عليها أن تدعم أفراد المجتمع في التخلّص من المؤسسات السلطوية القهرية.

رسائل سجناء الرأي في إيران

لا تزال إيران إحدى الدول الرائدة في العالم في تنفيذ عقوبة الإعدام، ويشمل ذلك تنفيذ عقوبة الإعدام على المُدانينَ بجرائم ارتُكبت عندما كانوا أطفالا، وكذلك بموجب تُهمٍ تتعلق بالأمن القومي محددة بشكل غامض، وفي بعض الأحيان جرائم غير عنيفة. 

المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، يحضر عرضا عسكريا برفقة قادة “الحرس الثوري” – (فرانس برس)

ولهذا يبدو أن هناك أتفاقاً عام لدى الشعب الإيراني حول استغلال الحكومة الإيرانية الحرب في غزة، حيث أدان تسعة سجناء سياسيين إيرانيين تصرفات “حماس” وإسرائيل في غزة، محذّرينَ من أن التدخل الإيراني المحتمل سيفيد النظام الإيراني. 

في سياق حديث “الحل نت” مع مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، قال: دعت المقاومة الإيرانية الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التحرك الفوري لوقف آلة القتل التي يمارسها الملالي وإنقاذ حياة آلاف السجناء قيد الإعدام، خاصة السجناء السياسيين وسجناء الانتفاضة، وتم إعدام أكثر من 360 سجيناً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر وبدء الحرب التي يعد النظام هو المتّهم الرئيسي فيه.

وفي بيانٍ صُدر من سجن “إيفين”، هاجم السجناء السياسيون “سياسات طهران الوكيلة والمدمرة” في المنطقة، مؤكدينَ أن الحرب هي “نعمة” للحكّام الرجعيينَ. 

وأضاف البيان، أن “الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات ساعدت في استقرار النظام وقتل آلاف السجناء السياسيين” في ذلك الوقت، وحذّروا من أنه في حالة اتساع نطاق الصراع الدائر في الشرق الأوسط، فإن النظام الإيراني سيكثّف حملته ضد الناشطينَ المدنيينَ والسياسيينَ، والحركات النسائية والطلابية، والأقليات الدينية مثل الطائفة البهائية.

السجناء السياسيون شكّكوا في صدق ادعاءات طهران بشأن دعمها للقضية الفلسطينية، وجاء في البيان أن “الحكومة المسؤولة عن مقتل آلاف الأطفال والمراهقينَ في العام الماضي وما بعده، تحاول الآن إخفاء طبيعتها الرجعية تحت ستار الدفاع عن الشعب الفلسطيني”.

وأخيراً، تتجلى الأهداف الحقيقية للحرب في غزة في ساحات القتال الإقليمية الآخذة في الاتساع والتي تغطي نطاقاً جيوسياسياً كبيراً يمتد بين الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية (اليمن وباب المندب) والشرق الأدنى. 

تتداخل الدوائر المتوسعة لهذه الكارثة الاستراتيجية الهائلة مع الأزمة الداخلية المتفاقمة في إيران، وتظهر أيضاً في المناطق المشتعلة في داخل الحدود العربية، وهذا يؤكد مدى ضعف النظام الإيراني، وهشاشة خطابه، وعدم استقراره البنيوي. في المقابل، لدى هذا النظام هدفٌ أساسي، وهو البقاء على مفترق الطرق بين القمع الداخلي وزعزعة الاستقرار الإقليمي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات