يبدو أن جهود أميركا في احتواء الصين تسير في طريقها لتحقيق هدفها في خفض التوتر بين الدولتين، فبعد زيارات متبادلة لكبار الدبلوماسيين الأميركيين إلى الصين خلال الأيام القليلة الماضي؛ أجرى كبير الدبلوماسيين الأميركيين لمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادي، محادثات صريحة وصِفت بالـ “مثمرة” مع نظيره الصيني في واشنطن أمس الاثنين.

المحادثات قادها مساعد وزير الخارجية الأميركي دانيال كريتنبرينك، وساره بيران مديرة شؤون الصين وتايوان في “مجلس الأمن القومي” الأميركي، اللذان استقبلا ويانغ تيو، المدير العام لدائرة شؤون أميركا الشمالية وأوقيانيا في وزارة الخارجية الصينية، بمقر وزارة الخارجية الأميركية.

ذلك جاء بعد أن كان المسؤولان الأميركيان الكبيران، قد التقيا يانغ في الصين مطلع حزيران/يونيو الماضي، أي قبل أسابيع من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، لبكين في الشهر ذاته.

فالجانبان كانا قد أجريا محادثات “صريحة وبنّاءة” حول سبل تحسين العلاقات الثنائية، بحسب ما ذكرته وزارة الخارجية الصينية حينها، ليتبعها بعد ذلك زيارة لوزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين والموفد الأميركي الخاص لشؤون المناخ جون كيري، إلى الصين في الفترة الأخيرة، وذلك لمناقشة القضايا العالقة بين الطرفين، حيث رأت يلين أن انفصال الاقتصاد الأميركي عن اقتصاد الصين مستحيل عمليا.

محادثات على وقع التهدئة

تلك الزيارات على ما يبدو، قد مهّدت لزيارة أمس الاثنين، حيث أشارت الخارجية الأميركية، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية “فرانس برس”، إلى أن الطرفين أجريا محادثات صريحة وجوهرية ومثمرة في إطار الجهود المبذولة لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة وإدارة العلاقة الثنائية بشكل مسؤول.

صورة أرشيفية من المحادثات الأميركية الصينية/ إنترنت + وكالات

“فرانس برس” قالت، إن الطرفين تبادلا كذلك وجهات النظر حول مجموعة من المسائل الثنائية الإقليمية والعالمية بما يشمل حرب روسيا على أوكرانيا ومسائل تتعلق بـ “مضيق تايوان”، في حين كانت ممثلة التجارة الأميركية جينا رايموندو، قد أكدت في نهاية تموز/يوليو، أنها تنوي زيارة الصين بحلول نهاية الصيف.

بيد أن هذا الاجتماع قد جاء بعد أيام قليلة على إعلان واشنطن تخصيص مساعدة عسكرية بقيمة 345 مليون دولار لتايوان، التي تعدها الصين جزءا من أراضيها وتتعهّد باستعادتها ولو بالقوة إن اقتضت الضرورة، وبعد أقل من أسبوع على إقالة وزير خارجية الصين تشين غانغ من منصبه.

يشار إلى أن هذه المحادثات والزيارات المتبادلة تأتي على وقع ما شهدته العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، من توترات شديدة خلال الأعوام الأخيرة الماضية، حيث تتكرر الصدامات بين الطرفين في منطقة المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، من خلال تحريك قطع عسكرية في المنطقة.

فبينما تؤكد واشنطن أن تحركاتها العسكرية في المنطقة تأتي في سياق عمليات بحرية روتينية لضمان وتأكيد حرية الملاحة، تصرّ بكين على أن هذه التحركات الأميركية تهدد أمنها، وأنها لن تتوانى في الدفاع عن سيادتها وحدودها الإقليمية.

بجانب ذلك، يشهد “مضيق تايوان” منذ الصيف الماضي اضطرابات غير مسبوقة على مستوى المناورات العسكرية، حيث طوّق “جيش التحرير الشعبي” الصيني جزيرة تايوان أكثر من مرة خلال العام الحالي، وأجرى في المضيق مناورات ضخمة، لاسيما أثناء زيارة رئيسة “مجلس النواب” الأميركي السابقة نانسي بيلوسي، إلى تايوان في آب/أغسطس الماضي.

علما أن التوتر الصيني الأميركي، يحمل أوجها عدة أخرى، منها ما يرتبط بالمنافسة التجارية الحامية، وبالحرب الروسية على أوكرانيا والمطالب والدعوات الغربية للصين لعدم انحيازها في دعم روسيا، وما فاقم من حدة التوتر إطلاق بكين لـ “منطاد” أكدت واشنطن أنه يُستخدم لأغراض الـ “تجسس”، وأسقطه الجيش الأميركي في شباط/فبراير الماضي، عند عبوره فوق الولايات المتحدة، الأمر الذي عطّل زيارة لوزير الخارجية الأميركي إلى الصين، قبل يوم واحد من إجرائها.

استيعاب أميركا للصين

تعليقا على ذلك وما يمكن أن تعكسه المحادثات الأميركية الصينية، يقول الخبير في العلاقات الدولية عقيل عباس، إن الولايات المتحدة الأميركية طالما كانت تؤكد تاريخيا في خطاباتها بأنها مع استيعاب الصين، وأنها مع فكرة منح الفرص دوليا للصين لتكبر وتنمو كقوة اقتصادية شرط الالتزام بالمعايير الدولية في التنافس.

واشنطن وبكين يجريان محادثات بوزارة الخارجية الأميركية/ إنترنت + وكالات

تأكيدا على ذلك، فإن دخول الصين إلى “منظمة التجارة العالمية” كان بقرار ودعم أميركي في تسعينيات القرن الماضي، والفكرة من ذلك كانت أنه استيعابا للصين، بالتالي أن دخول الصين للمنظمة بدعم أميركي كان السبب الرئيسي في نهضة الصين وتناميها، بالتالي أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال ملتزمة بهذه الفكرة والخطاب، بأن الصين يمكن استيعابها عبر التجارة والتفاوض.

لكن ما رفضت الصين الانصياع له، هو معارضة “اللبرلة الاقتصادية” التي تقود إلى “لبرلة سياسية” تخلق حيز للحريات وحكم القانون، ذلك لأن “الحزب الشيوعي” الصيني الحاكم، بقي يدعم شركات مملوكة للدولة وتعمل على التنافس بما يخالف المعايير الدولية، وفق عباس.

لذا على هذا النحو، أشار عباس في حديث مع موقع “الحل نت”، إلى أن الإدارة الأميركية الحالية كذلك لا تريد أن تفتح نزاعا مع الصين في منطقة البحر الهادئ، لكن مع التزامها بالدفاع عن تايوان، في حين أن الصين طالما كانت تحاول استغلال انشغال الولايات المتحدة الأميركية في الأحداث الكبرى، لتعيد إحياء قضية تايون وضمها لأراضيها، وهذا ما حصل عندما انشغلت أميركا بحرب العراق، وتجدد انشغالها مع الحرب الأوكرانية.

الخبير في العلاقات الدولية، لفت إلى أن الدول القريبة من بحر الصين الجنوبي قلقة من الصين، لذلك تريد وجودا أميركيا عسكريا هناك لمنع التغول الصيني، المتمثل بحركة السفن والتجسس والصيد غير القانوني، ورغم ذلك فإن الرغبة لدى واشنطن لا تزال قائمة بأنه لا يزال بالإمكان استيعاب الصين عبر الدبلوماسية والاقتصاد لكن مع ضرورة عدم الظهور بمظهر التراجع أمام محاولات التّغول التي تسعى له الصين هنا وهناك.

عباس أردف، أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد استعداء الصين، لكنها أيضا لا تريد أن تمنحها يدا مطلقة، لاسيما في سياق خلق المقاطعة الاقتصادية الغربية لروسيا، على اعتبار أن كثيرا من البضائع الممنوع وصولها لروسيا وتنتجها شركات غربية تصل لروسيا عبر الصين.

من جهته، قال السياسي الأميركي من أصل مصري مهدي عفيفي، إن المحادثات الصينية الأميركية أمر طبيعي ولا تعني أن الصين قوة صاعدة كقطب عالمي منافس لأميركا، مبيّنا أنه في الأساس تُعد أميركا أحد الأسباب الرئيسية لنضوج الصين، وذلك من خلال استثمارات الشركات الأميركية في الصين.

فوارق كبيرة مع سياقات الأزمة

عفيفي لفت في حدث مع موقع “الحل نت”، إلى أن الصين لا تزال غير مؤهلة لتكون قطب عالمي منافس للولايات المتحدة الأميركية، لاسيما وأنها لا تزال قائمة على الاستهلاك الأميركي، مشيرا إلى أن الفرق بين واشنطن وبكين، أن الأولى تعمل ولا تتكلم، والأخيرة تريد أن يكون لها تواجد عالمي، لكن واقعا لا يمكن أن يكون ذلك في الوقت الحالي، وأن المحادثات الحالية تدخل في سياق جهود الإدارة الأميركية الحالية في خفض التوترات في جميع أنحاء العالم.

واشنطن والصين يخفضان حدة التوتر في منطقة المحيط الهادئ/ إنترنت + وكالات

كل ذلك يأتي بعد أن توقع مراقبون، أن تتحسن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين خلال العام الحالي، وذلك بعدما اجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن، بنظيره الصيني شي جين بينغ، في بالي الإندونيسية، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على هامش قمة الـ 20.

الطرفان كانا قد اتفقا على تعزيز الاتصالات وتذليل العقبات، حيث أكد بايدن من بالي حينها، أنه لن تكون هناك “حرب باردة جديدة”، ثم عاد ليؤكد في 17 أيار/مايو الماضي، أنه سيتحدث مجددا مع شي، من دون تحديد موعد لذلك، قائلا أمام الصحافيين في واشنطن قبيل مغادرته لحضور “قمة السبع” في اليابان؛ سواء أكان ذلك قريبا أم لا، سنلتقي، في إشارة إلى شي.

لكن على الرغم من لقاء شي وبايدن في بالي، خريف العام الماضي، واتفاقهما على مواصلة الحوارات الثنائية بين البلدين، إلا أن واشنطن واصلت سياستها المبنية على تعزيز الردع في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، ودعم تايوان، ما أثار حفيظة الصين.

الجدير ذكره، أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تُبدي منذ أكثر من عقدين، قلقها من سياسات الصين التجارية، والوتيرة المتسارعة التي تتبناها بكين لتحديث جيشها، ومقاربتها المتشددة وغير الليبرالية بمسألة حقوق الإنسان. 

كل ذلك، إلى جانب تزايد ما تسميه واشنطن وحلفاؤها استفزازات الصين في بحر الصين الجنوبي وعسكرتها لمياهه وكذلك تحركاتها في “مضيق تايوان”؛ فضلا عن التهديدات باستعادة تايوان ولو بالقوة، التي دفعت إلى ارتفاع وتيرة الدعم الأميركي للجزيرة، التي تمثل نحو 92 بالمئة من الإنتاج العالمي لصناعة أشباه الموصلات؛ قد ساعد في ارتفاع حدة التوترات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات