منذ فترة لم تتوقف تركيا عن استغلال أي حجة أو ذريعة متوهمة، لمهاجمة مناطق شمال شرقي سوريا وتدمير “البنية التحتية” فيها، بما في ذلك المنشآت المدنية والمرافق الحيوية والخدمية. بالتالي تحويلها إلى مناطق “هشّة” غير مستقرة أو قابلة للحياة، وكأنها تتبع “استراتيجية ممنهجة” جديدة تهدف إلى عرقلة أي مشروع سياسي حقيقي قد يتحقق في المنطقة.

 وعلى ما يبدو أن أنقرة والرئيس رجب طيب أردوغان يسعى بشكل براغماتي وتلفيقي إلى مواصلة الانتقام من المناطق الكردية، وتحديدا من المدنيين الذين هم برأيه “إرهابيين” وجميعهم امتداد لـ”حزب العمال الكردستاني” (PKK). ثنائية “الكُردي/ الإرهابي” كتصنيف له حمولته السياسية الحزبية لدى أردوغان، هدفه تعميم العنف والكراهية ضد الأكراد، وشرعنة استهدافهم وقتلهم وتدمير مناطقهم، بحيث لا يبقى لهم سوى الخضوع والإذعان لأحلام الخليفة العثماني. خطاب الكراهية الأردوغاني موجه بالأساس للأطراف المحلية القومية المتشددة ليعمق عنصريتهم فضلاً عن تصدير أزماته الاقتصادية وانسداد سياساته من خلال الانتصار في حربه الهمجية والعدوانية على المدنيين الأكراد وأخيراً التشويش على المعارضة.

في تصعيد تركي جديد ضد مناطق شمال شرقي سوريا ومناطق كُردية أخرى في إقليم كردستان، ركّزت الهجمات التركية من جديد على البنية التحتية في شمالي سوريا بشكل خاص، وتحديداً محطات الكهرباء والغاز، ما أدى إلى تدمير سبع محطات كهربائية وخروجها عن الخدمة. وبالتالي انقطاع الكهرباء تباعاً عن الآلاف من سكان المنطقة، وتوقّف آبار المياه التي كانت تتغذى على تلك المحطات التي استهدفتها المسيّرات التركية، وفق التقارير المحلية.

وتأتي هذه الهجمات، كما تدّعي أنقرة، ردّاً على مقتل جنودها التسعة إثر اشتباكات مع “حزب العمال الكردستاني” شمال العراق، قبل نحو 4 أيام.

ولذلك يمكن القول إن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، لا توفّر على نفسها أي ذريعة للهجوم على مناطق شمال شرقي سوريا وزعزعة أمن تلك المنطقة، بعد فشل خطتها لشنّ حملة عسكرية جديدة بغية تحطيم أي مشروع مدني هناك. بعيداً عن مزاعمها التلفيقية من أنها تحارب “الإرهاب”، فاستمرار الجانب التركي بالقصف على المناطق الكُردية بشمالي سوريا في كل مرة يتم فيها اشتباك ما بين عناصر “بي كي كي” أو الجنود الأتراك -الحوادث الممتدة منذ أربعة عقود- يؤشر إلى أن الأساليب الحربية الجديدة ضد الأكراد ينمّ عن تخوفات جديدة من إقامة مشروع كردي حقيقي في شمال شرقي سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، ولاسيما بعد أن أجرت “الإدارة الذاتية” التي تمثّل كافة مكونات المنطقة من العرب والكُرد والسريان والآشوريين وغيرهم جملةً من التغييرات في بنيتها الإدارية والسياسية لصالح كافة أطياف وقوميات سكانها، وإطلاق “عقد اجتماعي” جديد للمنطقة، ومؤخراً التغييرات التي حصلت في “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) الجناح السياسي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردي- العربية، والمدعومة من الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش”. وعليه، فإن “الإدارة الذاتية” بصدد تحقيق خطوات حقيقية وهامة نحو بناء مشروع سياسي حقيقي يعبّر عن رغبات وحقوق أبناء المنطقة، وهو ما يؤمّن استقرار المنطقة واستدامتها.

استهداف تركي على شمالي سوريا

في السياق، استهدفت المسيرات التركية مجدداً، مصادر الطاقة والبنية التحتية، في مدن وبلدات شمال شرقي سوريا، وتسببت بقطع الكهرباء والماء عن مئات القرى والبلدات في المنطقة.

وفي استهدافٍ ممنهج، قصفت مسيّرة تركية، صباح اليوم الاثنين، محطة كهرباء مدينة القامشلي/ قامشلو، ويعتبر هذا الاستهداف الثاني خلال يومين.

قصف تركي على مناطق شمال شرقي سوريا- “وكالة هاوار”

كما وخرجت المحوّلة الأولى والثانية عن الخدمة في محطة كهرباء مدينة الدرباسية جرّاء القصف التركي صباح اليوم، مما أدى لإصابة أحد العمال، بحسب العديد من الناشطين والمصادر المحلية.

واستهدفت المسيّرات التركية صباح اليوم أيضاً، حقل رميلان النفطي شرق القامشلي/ قامشلو، بالإضافة إلى مواقع مدنية أخرى في مناطق شمال شرقي سوريا.

هذا وقصفت المسيّرات التركية، خلال الأيام الماضية، عدّة محطات لتوليد الكهرباء في المنطقة، بالإضافة إلى العديد من المرافق الحيوية والخدمية، ما أدى إلى خروج غالبية الآبار التي تغذّي مدينة عامودا وريفها بالمياه عن الخدمة أيضاً.

وبحسب بيانات دائرة الإعلام في “الإدارة الذاتية”، فإن القصف التركي المتواصل على مناطق شمال شرقي سوريا أسفر عن خروج سبع محطات كهربائية عن الخدمة.

واستهدف قصف تركي محطة مدينة عين العرب/ كوباني لمرّتين، ما أدى لانقطاع التيار الكهربائي عنها وعن 400 قرية تتبع لها.

كما وقصفت مسيرة تركية محطة نقل الكهرباء في عين عيسى بريف الرقة، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عنها و150 قرية تابعة لها. أما في القامشلي/ قامشلو، فقد أدى القصف التركي على محطة الكهرباء إلى خروجها عن الخدمة، وتضرّر أكثر من 60 بالمئة من المدينة والريف الشرقي.

كذلك، تم استهداف محطة الكهرباء في عامودا، ما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي عن المدينة و90 قرية، وبالتالي خرجت أغلبية الآبار التي تزود مدينة عامودا وريفها، بالمياه عن الخدمة جرّاء القصف التركي لمحطة تحويل الكهرباء بالمدينة.

وفي مدينة القحطانية/ تربه سبيه، أسفر استهداف محطة الكهرباء، عن انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة و190 قرية، فيما استهدف مساء أمس الأحد، محطة السويدية للغاز بريف المالكية/ ديرك، وأخرجتها عن الخدمة.

واستهدفت طائرات تركية حقل عودة النفطي، ومحطة أخرى في الجهة الجنوبية بالقرب من القحطانية/ تربه سبيه، ما تسبب بخسائر مادية كبيرة. كما أن الاستهدافات التركية طالت أماكن مدنية، من مطاحن الحبوب إلى ورش تصليح السيارات.

وإزاء ذلك، قالت “الإدارة الذاتية”، اليوم الاثنين، في بيان، إن تركيا شنّت أكثر من 70 ضربة خلال هجماتها الأخيرة على شمالي سوريا، معتبرة خلال مؤتمر صحفي، أن تركيا تنتهج “سلوكاً عدونياً” تجاه شعبها، متجاوزةً كافة القوانين والأعراف الدولية. وفي الوقت ذاته حذّرت هيئة الإدارة المحلية “بالإدارة”، من انقطاع طويل للمياه بسبب القصف التركي المستمر على مناطقها.

عرقلة استقرار المنطقة

وفي سياق الهجمات التركية المتكررة على المنطقة تحت عدة ذرائع، تشير التحليلات إلى أن المدنيين وحدهم هم الذين يدفعون ثمن هذه الهجمات، فيما تدّعي تركيا أنها تلاحق “المقاتلين الأكراد”، كما أعلنت وزارة الدفاع التركية، السبت الماضي، عن “تحييد 57 مسلحاً في شمال العراق وسوريا”. لكن الوقائع تقول عكس ذلك، إذ دُمّرت أجزاء ومواقع كثيرة من البنية التحتية في مناطق شمال شرقي سوريا.

وبتفسير تلك الاستهدافات، يبدو جلياً أن تركيا تخبئ في جعبتها مخاوف جدّية من إقامة مشروع سياسي حقيقي في شمال شرقي سوريا، وبالتالي تتحجج في كل مرة خلال اعتداءاتها على تلك المناطق بـ”حماية الأمن القومي” وملاحقة “الإرهابيين”، على الرغم من أن هذه الذرائع باتت مراوغة متكررة وتقليدية، للتعمية على هجماتها ضد الكُرد.

أردوغان يمارس منذ سنوات عدة أساليب في المناطق الكُردية من أجل تهجيرهم وإحداث تغيير ديموغرافي بمناطقهم.

ولذلك تواصل تركيا استهداف المنشآت الحيوية والبنية التحتية من أجل تجويع سكان المنطقة وتدمير المرافق والبنية التحتية عموماً وشلّ مقدرات “الإدارة الذاتية” من مواصلة الحكم ومن ثم تأليب سكان المنطقة على “الإدارة” وتالياً دفع أو “إجبار” سكان المنطقة نحو التهجير، وهذا ليس بالأمر الجديد، حيث ذكرت تقارير حقوقية دولية عدة أن أردوغان يمارس منذ سنوات عدة أساليب في المناطق الكُردية من أجل تهجيرهم وإحداث تغيير ديموغرافي بمناطقهم، وما يطمئن مخاوفه اليوم ويحقق طموحه في طمس وإطفاء أي طموح كُردي في إقامة الحكم الذاتي، هو استهداف كلم ظاهر الحياة والاستقرار بمناطق شمال شرقي سوريا، بحسب ما يقول المحللون السياسيون.

فقد قال كومي نايدو، الأمين العام لـ”منظمة العفو الدولية”: “أدى الهجوم العسكري التركي على شمال وشرق سوريا إلى تدمير حياة المدنيين السوريين الذين أجبروا، مرة أخرى، على الفرار من ديارهم، والعيش في خوف دائم من القصف العشوائي وعمليات الاختطاف، وأعمال القتل الميداني”، مشيراً إلى أن “القوات العسكرية التركية وحلفاءها أبدوا ازدراءً صارخاً لأرواح المدنيين، وشنّوا هجمات مميتة غير مشروعة في المناطق السكنية قتلت وجرحت مدنيين”، وفق تصريح سابق لنايدو.

الضغط على حكومة دمشق

في المقابل، يقول مصدر سياسي (فضل عدم الكشف عن هويته) إن أنقرة أيضاً أصبحت متخوفة من تقليص نفوذها في مناطق شمال غربي سوريا، خاصة مع توقّف عجلة “التطبيع” مع حكومة دمشق، وعدم التّوصل إلى أي اتفاق معها بشأن عودة العلاقات بينهما، وهو الأمر الذي يسعى إليه أردوغان منذ فترة بسياسة “براغماتية”، من أجل كسب أصوات الشارع التركي، خاصة مع اقتراب الانتخابات البلدية في تركيا.

وتأتي تخوفات تركيا من تقليص نفوذها في شمال غربي سوريا على إثر تزايد معدلات استهداف قوات حكومة دمشق بدعم روسي مناطق نفوذها، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار والاقتتالات المستمرة بين فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعوم من أنقرة، و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، بالتالي أنقرة تضغط على حكومة دمشق بغية الدخول معها في مفاوضات وتحقيق ما ترنو إليه، على الرغم من استحالة تنازل دمشق عن شرطها وهو (لا عودة للعلاقات مع أنقرة قبل خروج كافة القوات التركية من الأراضي السورية)، يضيف المصدر السياسي لـ”الحل نت”.

وفي بحث سابق لـ”الحل نت”، يقول إن أردوغان يسعى عبر سياسته الممنهجة ضد المناطق الكُردية في سوريا، إلى “أمننة” الملف الكُردي، وتصدير رؤية عن الملف بأنه في “وضع أزمة وصراع عسكري ليبرر جرائم قواته والفصائل التابعة له. ناهيك عن منحى آخر في تفكيره يرتبط بإنهاك الأطراف السياسية الكردية التي تبحث عن تسوية سياسية وحل سلمي في سوريا، بينما يتوخى هو (أي رجب طيب أردوغان) تعطيل مشاريعهم السياسية. وأخيراً، تظل الورقة الكردية بالنسبة لأردوغان وعسكرتها ضرورة سياسية لتصدير أزماته المحلية المتفاقمة طوال الوقت”.

في العموم، وكما يقول الكاتب السعودي المعني بالإسلام السياسي، عبد الله بن بجاد العتيبي:  إن “ما تخشاه تركيا حقيقة ليس الأكراد في العراق وسوريا، بل الأكراد داخل تركيا، إذ تعد أي صعود لقوة الأكراد في البلدين تهديداً داخلياً لها، لأنه قد يوقظ الطموح الكُردي داخل تركيا للمطالبة بحقوق مواطنة كاملة، وهي تعتقد أن هذا يشكل تهديداً للهوية القومية التركية. وفي امتدادٍ للإمبراطورية العثمانية، لا يبدو أن الدولة التركية تمتلك قدرة على التعامل مع الاختلاف إلا بالعنف، والاستعداد الدائم لارتكاب المجازر والمذابح، فمن يستحضر تعامل العثمانيين ومذابحهم للأرمن ومذابحهم لليونانيين وغيرهم، ويقارن ذلك بتعامل الدولة التركية الحديثة مع أقلياتها، لا يكاد يجد فوارق تذكر”.

استهداف تركي لمنشأة حيوية في شمال شرقي سوريا- “الشرق الأوسط”

ولذلك، فإن التغيير التركي في أساليب هجماتها على مناطق شمال شرقي سوريا يشير إلى أنها باتت بالفعل تخشى وتشعر بقلق كبير من تأسيس مشروع سياسي حقيقي هناك، حتى وإن كان مشروع “الإدارة الذاتية” لا يُعتبر كردياً بحتاً، بل يعبّر عن كافة أبناء المنطقة من قومياتها وطوائفها، مقابل تراجع نفوذ تركيا في شمال غربي سوريا، وبالتالي فإن هجمات أردوغان على الأكراد لن تتوقف ما لم يكن هناك حلّ سياسي شامل في سوريا، أي أن الحكومة السورية تتحمل كافة تبعات الهجمات التركية أولاً، ومن ثم بقية الأطراف المنخرطة في الملف السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات