عمّدت تركيا إلى شن سلسلة من الهجمات على المناطق الكردية في كل من شمالي العراق ومناطق عدة بشمال وشرق سوريا، مبررة ذلك بالرد على مقتل 12 من جنودها في شمال العراق، إثر تنفيذ “حزب العمال الكردستاني” (بي كي كي)، عدة هجمات ضد الجنود الأتراك.

وهذا الهجوم ليس الأول من نوعه، إذ نفذت تركيا هجوماً مشابهاً وأكثر عنفاً في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أودى بحياة ما يقرب من 44 ضحية وإصابة 55 آخرين. وركّزت هذه الهجمات بشكل خاص على محطات النفط والغاز الرئيسية داخل الحقول المترامية بالقرب من الحدود السورية – التركية، مما تسبّب بأضرار مادية جسيمة تصل قيمتها إلى أكثر من مليار دولار أميركي في منطقة تعد فيها البنية التحتية هشّة أساساً. وبعد الهجمات الأخيرة، سوف تتزايد هذه الخسائر بشكل أكبر.

هذا الصراع الممتد بين الطرفين، والذي يعود إلى (4) عقود، ليس بجديد، لكن أنقرة يبدو أنها غيرت أو بالأحرى تواصل تمرير حجج وذرائع جديدة، بغية استهداف أي مشروع كردي مدني، بعيداً عن مزاعمها التلفيقية من أنها تحارب “الإرهاب”، فاستمرار الجانب التركي بالقصف على المناطق الكردية بشمالي سوريا والعراق في كل مرة يتم فيها اشتباك ما بين عناصر “بي كي كي” أو الجنود الأتراك -الحوادث الاعتيادية منذ أربعة عقود- يؤشر إلى أن تركيا طورت من أساليب حربها ضد الأكراد.

كما ويدلل إلى مدى تخوفها من تراجع نفوذها في سوريا مقابل تصاعد حظوظ الأكراد أو بالأحرى “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، خاصة بعد أن قامت الإدارة التي تمثل كافة مكونات المنطقة من العرب والكرد والسريان والآشور وغيرهم لجملة من التغييرات في بنيتها الإدارية والسياسية لصالح كافة أطياف وقوميات سكانها، وسط ما يحدث من تصدعات بين فصائل ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، المدعومين من أنقرة بشكل أو بآخر.

تخوفات تركيا من تعاظم نفوذ الأكراد

نحو ذلك، أعلنت أنقرة تنفيذ عمليات جوية، طالت 71 هدفاً في مناطق شمالي العراق وسوريا، وبموجبه تم “تحييد 59 شخصاً في هذه الضربات وفي اشتباكات وبوسائل أخرى، رداً على مقتل 12 من جنودها في شمال العراق”.

قصف جوي تركي على مناطق شمال شرقي سوريا- “أ ب”

وقال وزير الدفاع التركي، يشار غولر، إنه “رداً على الهجمات التي استهدفت جنودنا يومي الجمعة والسبت الماضيين (22-23 ديسمبر الجاري)، تم تنفيذ عمليات جوية ضد 71 هدفاً في شمالي العراق وسوريا انتقاماً لشهدائنا، وتم تحييد 59 شخصاً”.

وأكد غولر، خلال مؤتمر عبر الفيديو مع قادة الوحدات العسكرية التركية داخل البلاد وعبر الحدود في العراق وسوريا، بمشاركة رئيس الأركان العامة، متين جوراك، وقادة القوات المسلحة، على “استمرار العمليات العسكرية الانتقامية في شمالي العراق وسوريا”.

في السياق، أعلنت المخابرات التركية، أنها “دمرت 50 منشأة تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية، أكبر مكونات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في عين العرب/ كوباني والقامشلي/ قامشلو وعامودا في شمال وشمال شرقي سوريا”.

لكن وبحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، استهدفت الطائرات الحربية والمسيّرات التركية في تصعيدها الأخير الذي استمر 3 أيام، البنى التحتية في مناطق شمال شرقي سوريا بشكل مباشر، من منشآت خدمية واقتصادية ونفطية ومحطات كهرباء ومخازن تجارية تعود ملكيتها للمدنيين بالإضافة إلى مصنع صناعة الأكسجين الطبي الوحيد في شمال وشرق سوريا والمشفى الوحيد لغسيل الكلى، في انتهاك علني وواضح لحقوق الإنسان.

وطبقاً للمرصد السوري، فقد استمرت سلسلة الغارات الجوية التركية في الفترة ما بين 23 – 26 من الشهر الجاري، وكان لها تأثير كبير على سكان المنطقة من النواحي الطبية والاقتصادية، حيث تضررت شبكة الكهرباء وانقطعت عن المنطقة بشكل كامل بالإضافة لفقدان الغاز المنزلي، ونقص حاد في الوقود نظراً لاستهداف محطات الوقود في القامشلي/ قامشلو ومنشآت نفطية في رميلان والقحطانية/ تربسبيه بريف الحسكة الشمالي.

هذا فضلاً عن استهداف الطائرات التركية بشكل مباشر للأفران والمطاحن ومستودعات العدس والزيتون وصوامع القمح. كما وتوقفت العملية التعليمية وأغلقت المدارس إلى إشعار آخر، خوفاً من استهدافها وسقوط ضحايا.

ووفق تقارير صحفية محلية، فقد أسفر عن الاعتداءات التركية على المناطق السكنية في شمال وشرق سوريا إلى سقوط 10 ضحايا، من بينهم 4 ضحايا قضوا في استهداف “مطبعة سيماف” على الطريق الحزام الغربي في القامشلي/ قامشلو، ومدني في استهداف محيط مطحنة في صوامع الحبوب، والآخر في استهداف مركز لتوزيع المحروقات.

وعلى الرغم من نفي “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، وتأكيد قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي، لوسائل الإعلام أن لا علاقة لهم بـ”حزب العمال الكردستاني”، والصراع الدائر بين الأخيرة وأنقرة، إلا أن تركيا لا توفر على نفسها أي فرصة لمهاجمة مناطق شمال شرقي سوريا، وتحديداً البنى التحتية والمرافق الحيوية، في استهداف واضح لمشروع الإدارة الذي يبدو أن تركيا لديها مخاوف جدّية بشأن تطويره.

وفي هذا السياق، قال مصدر سياسي كردي خاص لـ”الحل نت”، إن الهجمات التركية الأخيرة، رسالة ضغط لمحاولات تقويض نفوذ تركيا بالشمال السوري من قبل بعض الأطراف الداخلية مثل حكومة دمشق والخارجية مثل روسيا أو حتى إيران الذين يبدو أنهم اخترقوا قيادات مؤثرة وفي الصفوف الأولى لفصائل “المعارضة السورية” المدعومة من أنقرة، مقابل شعور أنقرة بقلق كبير أكثر من أي وقت مضى من استقرار الوضع بمناطق “الإدارة الذاتية”، تحديداً بعد أن فشلت محاولات بعض الأطراف لإثارة وضرب أمن المنطقة قبل عدة أشهر، عبر تحريض العشائر والقبائل ضد “الإدارة الذاتية” في شرق دير الزور، وأخيراً قيام الإدارة بإعلام “عقد اجتماعي” جديد في المنطقة، الأمر الذي تضع الإدارة أمام فرصة لتحقيق خطوات عملية للتمكين السياسي والاجتماعي والقانوني الدستوري بما يؤدي موقعهم السياسي والاعتراف بهم لاحقاً كحكومة فيدرالية، خاصة وأن “قسد” هي جزء من التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، وهو ما يجعلها قوة منضبطة ومعترف بدورها عالمياً في مكافحة الإرهاب.

محاولة ضبط الفصائل

في المقابل، ووسط ما يجري من انشقاقات وتصدعات كبرى في صفوف “هيئة تحرير الشام” الحاكمة في إدلب، وما يحدث من اقتتالات بين فصائل “الجيش الوطني السوري”، فإن تركيا باتت تشعر بخطر تهديد نفوذها في سوريا، فلولا الحماية الأمنية التي توفرها القوات التركية وهو عبء باتت أنقرة لا تتحمله وليس من الممكن أن يستمر بقاؤها طويلاً، وفق المصدر السياسي الخاص الذي فضل عدم الكشف عن هويته.

تخوفات أردوغان في الوقت الراهن، تتمثل في محاولته إنجاح عملية السيطرة مما يجري من انشقاقات ومحاولات تصفية بين فصائل المعارضة السورية، وذلك تحسباً لاستغلال أي طرف ذلك بضم المناطق لحساباته، مثل الحكومة السورية أو روسيا،

وبخلاف مناطق “الإدارة الذاتية” المستقرة، فإن هذه الفصائل الموجودة في المناطق المدعومة من أنقرة لا تتمتع بأي حماية اجتماعية بسبب وجود جهات وأطراف من غير أهالي المناطق الأصلية، بل تقوم هذه القوى بطرد المواطنين الأصليين وتنهب مواردهم وثرواتهم وممتلكاتهم، ومؤخراً أدت الخلافات بين الفصائل إلى تفاقم هذا الوضع الصعب والمعقد.

بالتالي، فإن تخوفات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في الوقت الراهن، تتمثل في محاولته إنجاح عملية السيطرة مما يجري من انشقاقات ومحاولات تصفية بين فصائل المعارضة السورية، وذلك تحسباً لاستغلال أي طرف ذلك بضم المناطق لحساباته، مثل الحكومة السورية أو روسيا، خاصة وأن ثمّة حالات اعتقال كبيرة تجري في صفوف “هيئة تحرير الشام” بقيادة ابو محمد الجولاني، المعروف بولائه وتبعيته لأنقرة، ولهذا ساعدت الأخيرة الجولاني باختفاء الرجل الثاني في التنظيم (أبو ماريا القحطاني) وضم الرجل الثالث بالهيئة (أبو أحمد زكور) لقبضتها، خوفاً من قيام هؤلاء بعملية انقلابية ضد الجولاني، الأمر الذي يهدد مصالح تركيا أولاً وأخيراً، كون الجولاني رجل يؤدي وظيفية مؤقتة لصالحها.

وما قامت به أنقرة من احتجاز الرجلين (القحطاني وزكور) وعدم تركهم في قبضة الجولاني، وفق المصدر الخاص، فإنه يشي بخطوة تركية تكتيكية بغية عدم تأجيج العشائر في سوريا والعراق ضد الجولاني، نظراً لأن (القحطاني وزكور) ينتمون لعشائر كبرى مثل “الجبور والبكارة” في العراق وسوريا، وبالتالي ستنفلت الأمور بشكل كبير بما يؤدي إلى تصدعه وتآكله وسقوط مناطق نفوذ أنقرة بيدي أطراف أخرى، وهو ما يحاول أردوغان لملمته واحتوائه حالياً في شمال سوريا، طبقاً للمصدر الخاص.

دخان كثيف يتصاعد من حريق مشتعل في صهريج بحقل العودة النفطي قرب القحطانية شمال شرقي سوريا الأحد- “أ.ف.ب”

وما يدعم هذه الفرضية، هو حديث مظلوم عبدي، قائد “قسد”، حيث قال لموقع “المونيتور” الأميركي، إنه إلى جانب الهجمات التركية هناك حكومة دمشق وإيران، “يسعيان إلى تجييش القبائل العربية المتحالفة معنا، كما شهدنا خلال الاضطرابات الأخيرة في دير الزور”.

وأعاد لتأكيد تحذيراته السابقة، حول استغلال تركيا انشغال العالم بالصراع بين حركة “حماس” وإسرائيل لتنفيذ هجمات ضد مناطق الإدارة الذاتية، مشيراً إلى أن هدف تركيا هو منع هذه المنطقة من تحقيق أي شكل من أشكال الأمن والحكم المستقر، وقال إن رسالة تركيا هي: “أعدوا البناء بقدر ما تريدون، وسوف نضرب مرة أخرى. سنجعل الحياة جحيما بالنسبة لكم”.

ووفق تقارير صحفية محلية، قصفت تركيا منذ بداية العام وحتى الآن، نحو 930 موقعاً في الشمال السوري، معظمها مناطق سكنية وبنى تحتية من منشآت ومرافق حيوية، التي تؤدي في النهاية إلى حرمان الملايين من سكان المنطقة من الخدمات التي تنتج من هذه المرافق والمنشآت.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات