في خطوة غير مسبوقة منذ عام 1963، أعلن الرئيس السوري بشار الأسد، عن قرار فصل حزب “البعث” السوري عن السلطة، الحزب الذي هيمن على الحياة السياسية في سوريا لعقود طويلة. هذا القرار أثار تساؤلات عديدة حول دوافعه وتوقيته، خاصة في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالبلاد.

هل يمثّل هذا القرار انقلاباً حقيقياً على الماضي وبداية عهد جديد في سوريا، أم هو مجرد تمويه لصرف الأنظار عن المشاكل الداخلية المستعصية؟ وهل يأتي هذا القرار من منطلق الإصلاح والتغيير الصادق، أم هو مناورة سياسية لاستعطاف المجتمع الدولي والدول العربية قبيل انعقاد القمة العربية المرتقبة؟

في هذا المقال، سنسلّط الضوء على خلفيات هذا القرار المفصلي وتداعياته على المشهد السياسي السوري، ونستكشف الآراء المختلفة حول دوافعه الحقيقية وتأثيره على مستقبل سوريا في ظل التحديات الراهنة. فهل سيشكّل هذا القرار نقطة تحول في مسار الأزمة السورية، أم سيبقى مجرد حبر على ورق في ظل استمرار المعاناة والانقسامات؟ 

استعطاف سياسي

قبيل القمة العربية المقرر عقدها في منتصف أيار/مايو الجاري في البحرين، والتي سيحضرها بشار الأسد بدعوة من ملك البحرين، والتي تزامنت مع توقّف مهمة “لجنة الاتصال الوزارية العربية” الخماسية + سوريا التي شكّلتها القمة العربية الاستثنائية الثانية والثلاثين التي عُقدت في الرياض في 19 مايو/أيار العام الماضي 2023، اتخذ الأسد عدة قرارات.

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث” – إنترنت

الجهود التي بذلت في الفترة الأخيرة لإحياء اللجنة بائت بالفشل، وانتهت الاتصالات التي أُجريت بين أعضائها إلى إلغاء الاجتماع الذي كان مقررا عقده في الثامن من مايو/أيار الجاري في العاصمة العراقية بغداد.

مع اقتراب الاجتماع الدوري لـ”حزب البعث” الحاكم في سوريا، لاختيار أمينه العام – والذي عادة ما يكون رئيس سوريا نفسه – نشرت المستشارة في رئاسة الجمهورية السورية، لونا الشبل – التي استبعدت مؤخرا من القيادة المركزية الجديدة للحزب – إصدار الأسد توجيهاته لبدء العمل على فصل حزب “البعث” الحاكم عن السلطة في سوريا.

ووفقاً لما نشرته الشبل، سيتم أيضاً إخراج حزب “البعث” من مؤسسات الدولة في سوريا ضمن قانون الأحزاب الذي أقرّه مجلس الوزراء السوري عام 2011، بعد أن هيمن خلالها على السلطة حزب “البعث”، وجبهته الوطنية التقدمية، وحرم سوريا على مدى نحو ستة عقود من الحياة السياسية الطبيعية.

منذ نشأته، شهد الحزب نحو عشرين اجتماعا رسميّاً وغير رسمي، حيث أُقيم الأخير منها في عام 2005. واتّخذ طابعاً يُشبه التنظيم الشيوعي في بنائه، مما جعله يتحول بشكلٍ أكبر إلى هيكلية أمنية بدلاً من كونه تنظيم سياسي، وذلك خاصة بعد عام 1980 حيث أصبح يسيطر على جميع أركان السلطة والدولة. 

لقد ظلت محاولات التطوير التي انبثقت من داخل الحزب والدعوات لإعادة تقييم علاقته بالسلطة تصطدم بجدار الفشل. لكن قرار الأسد الأخير يفسّره أكثر الاجتماع الذي حضره لانتخابات اللجنة المركزية، والتي استبعد فيها عتاولة نظامه الداخلي الذين ساندوه منذ انطلاق الاحتجاجات عام 2011.

 هكذا يتحكم الأسد بـ “البعث”

رغم إقرار قانون الأحزاب في نحو ثمان وثلاثين مادة، ينص في مادته الثانية على حق مواطني سوريا بتأليف الأحزاب السياسية، والانتساب إليها. وحدد في مادته الثالثة الهدف، بأنه تنظيم وتمثيل السوريين سياسيا، وتنمية الوعي السياسي، وتكوين قيادات قادرة على تحمّل المسؤولية العامة؛ إلا أن حزب “البعث” ظل الوحيد والحاكم في سوريا رغم مرور فترتين انتخابيتين للرئاسة والبرلمان.

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث” – إنترنت

خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث”، يوم السبت الفائت، والتي وفق الإعلان الرسمي، تمنع الأخيرة التدخل والتعيينات والواسطة، تم تعيين ثلث أعضاء اللجنة المركزية 45 عضوا، من الأمين العام للحزب الذي هو نفسه بشار الأسد، وكان من بينهم أخوه قائد الفرقة الرابعة، ماهر الأسد. 

أقصت القيادة الجديدة للحزب، أسماءً  مثل عمار ساعاتي، والذي كان رئيساً لاتحاد الطلبة ثم عضواً في اللجنة المركزية منذ العام 2005، إضافة إلى مهدي دخل الله، السفير السوري السابق في السعودية وعضو القيادة المركزية منذ 2017، و محسن بلال، وزير الإعلام السابق، ورئيس اتحاد نقابات العمال السابق محمد شعبان عزوز، ومحافظ إدلب السابق ياسر سلمان الشوفي، والسفيرة السابقة هدى الحمصي وعضو القيادة المركزية منذ 2017 عمار السباعي.

كما شملت التغييرات، تغيير منصب الأمين القطري المساعد، الذي كان يشغله محمد سعيد بخيتان وهلال هلال، ليصبح الأمين العام المساعد، وشملت التغييرات أيضا استبعاد اللواء علي مملوك ولونا الشبل وبثينة شعبان، الذين استبعدوا العام الفائت من دوائر الأسد القريبة، ونُقلوا إلى ملاك الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، التي يقودها منصور عزام.

المحلل السياسي والاقتصادي، أيمن عبد النور، والذي كان قياديا سابقا في حزب “البعث” الحاكم في سوريا، لفت إلى عدة أمور حدثت خلال هذه الانتخابات، أولها عدم انتخاب أي عضو مسيحي في جميع المحافظات لذلك تم تعيين اثنين داخل اللجنة.

أيضا يلحظ وجود أسماء ذات صوت انتقاد أعلى من المعدل وخاصة في القطاع الاقتصادي، مثل عابد فضيلة ومحمد الجلالي. وبالمثل يلحظ وجود حملة عدة شهادات دكتوراه من فرنسا، ووجود عدة سفراء ومعاوني وزراء ومحافظين سابقين، وتم اعتبار أن هناك انتخابات جرت في محافظات (الحسكة – الرقة – دير الزور – السويداء – إدلب) رغم أنها خارجة عن سلطة الأسد وحكومته.

زيارة الصين السّر؟

يُعتبر نظام “حزب” البعث السوري ونظام “الحزب” الشيوعي الصيني، متشابهين في بعض الجوانب، وذلك لأسباب عدة. من الناحية التاريخية، كلا النظامين قد تأسّسا على أساس أيديولوجيات قومية واشتراكية، ولم يسعيا إلى تحقيق الوحدة والتنمية داخل حدودهما الوطنية.

اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث” – إنترنت

ويبدو أن التحرك الجديد للأسد نحو حزبه الحاكم، جاء بتوصية من بكين بعد زيارتها، حيث يسعى التنين الأسيوي جاهدا لإنهاء الحرب داخل سوريا من أجل غرس مخالبه في مشروع التعافي المبكر وإعادة الإعمار، لاستكمال حلم “طريق الحرير”.

حاليا، بات “البعث” يشبه “الشيوعي” الصيني، فالتنظيم في كلا الحزبين بات يستخدم نمطاً هرمياً صارماً للقيادة، حيث تتمركز السلطة في قمة الهرم وتنفذ الأوامر للأسفل.

الجانب الثاني من التشابه يكمن في الديدن الأيديولوجي، حيث يعتبر كلٍّ منهما نظرياته ومبادئه، هي الحل الوحي للقضايا الوطنية ولا مجال للتنازل عنها أو تغييرها، وهذا لوحظ في خطاب الأسد بعد حفل إعادة تنصيبه واختيار اللجنة المركزية للحزب، حيث داوم على ذكر، النهج الاشتراكي لحزب “البعث” بين الأيديولوجيا من جهة وبين القواعد الاقتصادية من جهة أخرى.

من الناحية السياسية، يشترك النظامان في تركيز السلطة داخل الحزب الحاكم، مع وجود قيادة مركزية قوية تسيطر على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية. كما يتميز كلا النظامين بوجود نظام حزبي واحد يهيمن على الساحة السياسية، مما يقلل من فرص المعارضة السياسية.

ليس ذلك فحسب، بل تتطابق التكتيكات التي يستخدمها كلا الحزبين في التعامل مع المعارضة، بدءاً من التجاهل وصولاً إلى قمع المعارضة بشكل عنيف.

وفيما يتعلق بالسياسات الداخلية، يُظهر كلا النظامين توجهات نحو السيطرة على وسائل الإعلام والتعبير، وتقييد الحريات الفردية في سبيل الحفاظ على الاستقرار والأمن الوطني. وقد استلهم الأسد بعض جوانب سياسته من تجربة الحزب “الشيوعي” الصيني مؤخّرا، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الحزبية وبعض القوانين.

انقلابٌ أم تمويه؟

جمع الأسد في قراره الأخير بفصل حزب “البعث” السلطة، أمرين: الانقلاب والتمويه السياسي. الأسد باستبعاده الحرس السياسي والعسكري القديم في الحزب ودفعهم نحو منظومة تحت سيطرة منصور عزام وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وبيت سره وعرّاب بروتوكولاته الدولية الجديدة، يصنّف على أنه انقلاب ناعم بحرفية.

أيضا توقيت القرار قبل القمة العربية، يدل على أن القرار لم ينبع من رغبة صادقة في الإصلاح والتغيير، وأنه خطوة إيجابية نحو تحقيق الاستقرار والتنمية. ولكنه، يُفسر كمحاولة لكسب الرضا الدولي وتحسين العلاقات الخارجية، خصوصاً مع اقتراب القمة العربية، ولتعزيز موقف سوريا في المحافل الدولية، بعد فشل اللجنة الوزارية العربية في تحقيق تقدّم ملموس مع دمشق في ملفات اللاجئين والمخدرات والإصلاح السياسي.

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث” – إنترنت

هذا القرار يمكن النظر إليه قطعاً على أنه محاولة لإعادة تشكيل النظام السياسي في سوريا، أو كبادرة نحو تحوّل ديمقراطي محتمل، لأن الأسد لا يزال يستثني أي قوى سياسية ومحلية للشراكة في الحكم، ودلالة على ذلك، هو حديثه في ذات الجلسة عن المعارضة ووصفهم بـ”الثيران” وعدم اعترافه بالمعارضة من شرق سوريا لغربها. وبالمثل، في حين أن السويداء التي تطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية منذ أشهر، أرفد إليها مؤخرا جيشاً مدجّجاً بالأسلحة قوامه 600 عنصر من الحرس الجمهوري. 

لذا يرى البعض أن قرار الأسد بفصل حزب “البعث” عن السلطة، مجرد تكتيك لصرف الانتباه عن الأزمات الداخلية والتحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد، ولتهدئة الاضطرابات الشعبية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات