محاولات إصلاح الخلاف بين سوريا والدول العربية قابلتها مواقف متشددة من جانب دمشق، التي رفضت التنازل عن شروطها أو التجاوب مع مطالب المجتمع الدولي، فقد أظهرت سوريا استمراريتها في تصدير المخدرات، وخاصة “الكبتاغون”، إلى دول الجوار، مما أثار غضب بعض الدول المستهدفة وخاصة الأردن والسعودية ولبنان.

كما أظهرت سوريا عدم اهتمامها بالحل السياسي للأزمة، ورفضت التعاون مع المبعوث الأممي غير بيدرسن، أو المشاركة في اللجنة الدستورية، أو تنفيذ قرار مجلس الأمن “2254”، وهذا ما أدى إلى تجميد اجتماعات اللجنة الوزارية العربية التي تشكّلت بعد عودة سوريا إلى “الجامعة” العربية، والتي كانت تهدف إلى رسم خريطة طريق لإعادة “تطبيع” العلاقات العربية مع سوريا.

حاليا وعلى خشبة المسرح الدبلوماسي، تجري أحداث مثيرة ومشوقة، حيث تكشف مصادر دبلوماسية عربية عن نهاية مفاجئة لسلسلة من الأحداث المحيّرة تتعلق بمستقبل العلاقات بين سوريا والدول العربية، كبداية قصة درامية تنقلنا إلى أحداث مثيرة في عالم السياسة والعلاقات الدولية.

هذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم هو أكثر من مجرد قضية دبلوماسية عابرة، هو موضوع يتعلق بأمن واستقرار المنطقة، و تأثيراته الواضحة على المستقبل السياسي والاقتصادي لسوريا والدول المجاورة، يتعلق به سؤال وحيد؛ هو لماذا اتخذ قرار تجميد الاجتماعات بين اللجنة الوزارية العربية وحكومة سوريا.

الاتصالات بدمشق لرفع العتب!

أمس الاثنين، شدد المتحدث باللغة العربية باسم الخارجية الأميركية، سام واربغ، على أن إنهاء الحرب السورية ضرورة، معتبرا أنه لا يمكن لا للولايات المتحدة، ولا للأمم المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي إجبار اللاجئين السوريين العودة إلى سوريا من دون تأمين الظروف المناسبة.

هذا الحديث خرج إلى العَلن، بعد أن لفتت مصادر وزارية لبنانية إلى أنه لا مشكلة في التواصل بين بيروت ودمشق تحضيرا للزيارة التي يُفترض أن يقوم بها الوزير بوحبيب إلى دمشق على رأس وفد أمني يقتصر على المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء إلياس البيسري، وأمين عام المجلس الأعلى للدفاع اللواء محمد مصطفى، بعدما تقرّر تقنين الوفد.

الزيارة في حال حدوثها بحسب المصادر التي نقلت عنها صحيفة “الشرق الأوسط”، تأتي في سياق رفع العتب، لأنه ليس لدى دمشق الجهوزية المطلوبة، ليس لاستقبال الموجة الأولى من النازحين إلى لبنان، وإنما لوقف تدفق الموجة الثانية منهم إلى الأراضي اللبنانية عبر اجتياز الآلاف منهم المعابر غير الشرعية، وتحديدا من المناطق الحدودية المتداخلة بين البلدين، خصوصا أن الإجراءات التي يتولاها الجيش اللبناني لضبط الحدود ووقف حالات التسلُّل من الداخل السوري إلى لبنان لا تكفي ما لم تلقَ التجاوب المطلوب من الجيش السوري المرابط على طول الحدود بين البلدين.

بموجب معلومات دقيقة من مصادر دبلوماسية موثوقة، تبين أن دمشق قد تقاعست عن تقديم التسهيلات الأمنية والسياسية المطلوبة لوقف تصدير المخدرات، بما في ذلك المخدر الخطير “الكبتاغون”، إلى دول الجوار، وهذا الأمر ينذر بتصاعد التوترات ويجعل الدول المجاورة تشعر بقلق بالغ من تداول هذه المواد الخطرة.

من ناحية أخرى، رفضت الحكومة السورية التجاوب مع المتطلبات التي تمهّد الطريق نحو الحل السياسي الطويل الأمد لإنهاء الحرب في سوريا، وهذا التحول السياسي الرهيب يجعل مصير الحرب ومستقبل سوريا محط شك وتساؤلات كبيرة.

وفي إضافة جديدة لهذه الأحداث، كشفت المصادر أن اللجنة الوزارية العربية، التي شُكّلت بعد عودة سوريا إلى “الجامعة” العربية، قررت تجميد اجتماعاتها مع الحكومة السورية، وهذا القرار، رغم أنه ليس جديدا إلا أنه بقي مكتوما لفترة طويلة، وهو يعكس استنكار العرب للتصعيد السوري وعدم تلبيته لمطالب العالم العربي.

أيضا في سياق متصل، نجد أن قضية عودة اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية تثير تساؤلات كبيرة، إذ تسعى سوريا باستمرار إلى تحميل المسؤولية للمجتمع الدولي، بدعوى عدم تجاوب اللاجئين مع دعوتها للمساهمة في إعمار البلاد.

لماذا لا يزال “التطبيع” الكامل بعيد المنال؟

الدراما السياسية الحقيقية التي تنتهجها دمشق، تُلقي المصادر السرية ضوءا عليها حيث أُرغِم وزير المهجّرين في حكومة تصريف الأعمال عصام شرف الدين، على الوقوف أمام تقديرات محيرة لحقيقة الموقف السوري، إذ اعتقد بأنه يمكن لوفد لبناني التوجه إلى دمشق بكل سهولة ويسر، لتنفيذ مطالبه.

ما لم يعيه الوزير هو حقيقة الموقف السوري الذي يربط عودة مواطنيه إلى أرض الوطن بمدى استجابة المجتمع الدولي لمطالبه بإعادة إعمار البلاد، حيث تضع دمشق مسؤولية عدم استقبال النازحين على عاتق المجتمع الدولي، محمّلة “التحالف الدولي” مسؤولية ما لحق بالبلدات والقرى السورية من دمار، بحجة أنه كان وراء الحرب المدمرة التي استهدفتها.

في خضم هذه الأحداث المثيرة، تبقى القضية المثيرة، هي برنامج إعادة النازحين السوريين الذي وضعته الحكومة اللبنانية بالتعاون مع الحكومة السورية، لكن الأمور لم تسر كما خُطط لها، فأجهزة الأمن السورية رفضت العديد من الأفراد العائدين بدعوى أمنية وسياسية.

ليس ذلك فحسب، بل إن ما تطالب به دمشق بات يفوق قدرة لبنان على تلبيته، لا سيما بعد أن ألحقت دمشق مطالبتها المجتمع الدولي بإعادة إعمار سوريا، بندا جديدا تشترط فيه إنهاء وجود القوات الأميركية والتركية في الشمال السوري.

الدبلوماسي الأردني السابق منذر الطراونة، أوضح لـ”الحل نت”، أن قرار تجميد الاجتماعات بين اللجنة الوزارية العربية وحكومة سوريا، اتُّخذ بسبب استمرار الأخيرة في تصدير المخدرات إلى دول الجوار، ورفضها التعاون مع المبعوث الأممي للحل السياسي، وعدم تقديمها التسهيلات الأمنية والسياسية لعودة اللاجئين السوريين، وهذه المواقف أثارت استنكار الدول العربية التي كانت تسعى لإعادة “تطبيع” العلاقات مع سوريا وإنهاء حالة العزلة التي تعاني منها.

دمشق بحسب المعطيات تجاهلت المتطلبات للانتقال تدريجيا إلى مرحلة الدخول في الحل السياسي لإنهاء الحرب في سوريا؛ لأنها تشعر بالثقة العسكرية بعد استعادة سيطرتها على غالبية أنحاء البلاد بدعم من روسيا وإيران، كما أنها ترفض أي شروط تمسّ سيادتها أو نظامها أو دور حلفائها في المستقبل، وتحمّل سوريا المجتمع الدولي مسؤولية فشل عملية جنيف واللجنة الدستورية، متهمة إياّه بالانحياز للمعارضة وفرض عقوبات اقتصادية على شعبها.

تبدو تداعيات هذا القرار السياسي الذي تسببت به دمشق سلبية على عدة جوانب وفق الطراونة، فتجميد المحادثات مع الحكومة السورية سيفقد الفرصة لإحياء التضامن والتنسيق العربي في مواجهة التحديات المشتركة، وبالتالي سيزيد من حجم المشكلة الإنسانية للاجئين والنازحين السوريين، وأيضا مخاطر انتشار المخدرات والإرهاب والتطرف في المنطقة.

علاوة على ذلك، ستضيع فرصة لإشراك سوريا في جهود إعادة إعمار بلادها وإحداث التغييرات الإصلاحية والديمقراطية التي يطالب بها شعبها، ويفوّت الفرصة لإصلاح الخلافات بين دول المنطقة وخلق منظومة أمنية جديدة تضمن استقرار المنطقة وأمن شعوبها.

اشتراطات متبادلة تغلق باب “التطبيع”

بحسب الطراونة، فإن الحوار بين سوريا والدول العربية لم يكن سهلا أو مريحا وقد كان مليئا بالخلافات والشكوك والمطالبات، إذ كانت الدول العربية تأمل في أن تجد في سوريا شريكا يستجيب لمصالحها ومخاوفها ويحترم قراراتها ومبادئها، ويلتزم بالتفاهمات التي تمّ التوصل إليها معها. 

لكن سوريا خيبت الآمال، وأظهرت عدم جدّية في الحوار، وعدم احترام للعلاقات العربية، فقد استمرت في تصدير المخدرات إلى دول الجوار، ورفضت التعاون مع المبعوث الأممي للحل السياسي، وعدم تقديم التسهيلات الأمنية والسياسية لعودة اللاجئين السوريين، وهذا الموقف أثار استنكار الدول العربية، التي شعرت بالخذلان والغضب من سوريا؛ لذا قررت بعضها التخلي عن مساعيها لإعادة تطبيع العلاقات مع سوريا.

في وقت سابق قال بيدرسن في تصريحات صحفية، إن سوريا تمرّ بلحظة فارقة وعلى دمشق استثمار نافذة الفرصة للتحرك نحو التسوية، مشيرا إلى أن جميع الدول تدعم مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، التي تتضمن اتخاذ جميع الأطراف لإجراءات متوازية ومتبادلة ويمكن التحقق منها، إزاء قضايا عدة، بينها المعتقلون والسجناء وعودة اللاجئين والعقوبات.

كانت عودة سوريا إلى “الجامعة” العربية حُلما طال انتظاره بالنسبة لسوريا، التي كانت تشعر بالوحدة والعزلة في ظل حصار دولي على حكومتها، وكانت سوريا تأمل في أن تجد في “الجامعة” العربية منبرا تنطلق من خلاله للاستئثار بأموال إعادة الإعمار. 

لكن سوريا أضاعت فرصتها طبقا لما أفاد به الطراونة، وأظهرت عدم اكتراثها للشروط التي وضعتها دول “الجامعة” العربية لاستئناف عضوية سوريا، فقد رفضت الأخيرة الالتزام بخارطة طريقٍ تضمن انخراطها بالحل السياسي للأزمة، والتوقف عن دعم الميليشيات والجماعات المسلحة في المنطقة، والتعامل مع قضية اللاجئين بشكل إنساني.

يبدو أن القرار “2254” الذي تركز عليه الدول العربية، يزعج حلفاء دمشق خصوصا روسيا وإيران، اللتين كانت تسانده عسكريا وسياسيا، وتحميانه من أي ضغوط دولية، فروسيا تعتبر سوريا حليفا استراتيجيا في المنطقة، وتستخدم قاعدتها البحرية في طرطوس، وقاعدتها الجوية في حميميم، لتعزيز نفوذها في المتوسط والشرق الأوسط. 

أما إيران فهي تعتبر سوريا جزءا من “محور المقاومة” ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وتستخدمها كممر لنقل السلاح والمال والمقاتلين إلى “حزب الله” في لبنان، لذلك، كانت وما تزال روسيا وإيران تعارضان أي تدخل دولي في سوريا، وتحذّران من أن ذلك سيؤدي إلى تصعيد خطير في المنطقة.

هكذا فالقرار بحسب الطراونة يشكل نقطة فارقة في مصير سوريا، فهو يفتح آفاق جديدة للحوار والتعاون، أو يغلق أبواب الحل والمصالحة، وعليه ربما اختارت دمشق استمرار الصراع المسلح في بعض المناطق، وعرقلة أي حلّ سياسي، واستمرار الأزمة الإنسانية في البلاد، فيما لا يهمها استمرار الأزمة الاقتصادية أو المسار والآلية لإجراء انتقال سياسي يشارك فيه كافة أطياف المجتمع السوري، ويلبي مطالبه وحقوقه.

يبدو أن وجود توافق دولي على ضرورة إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، ودعم جهود المبعوث الأممي غير بيدرسون، وتنفيذ قرار مجلس الأمن “2254”، ووجود تحركات عربية لإعادة “تطبيع” العلاقات مع سوريا، ودعم عودتها إلى “الجامعة” العربية، ومساهمتها في إعادة إعمار سوريا، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين، لا يندرج ضمن أولويات دمشق وحلفائها دون تقديم مليارات دعمِ إعادةِ الإعمار لخزينة دمشق، فالأولوية لديها الأموال، ثم مصالح روسيا وإيران، والبقية المتبقية ليست سوى رتوش لا أهمية لها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات