منذ اندلاع الصراع في غزة بين إسرائيل وحركة “حماس”، وتركيا تتحرك على خيط رفيع جدا، أي أنها تحاول خلق نوع من التوازن بين الطرفين، ومن ثم اللعب دور الوسيط، من أجل تحقيق مكاسب سياسية براغماتية. ولا يتوقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استغلال أي ظرف أو حرب تحدُث في المنطقة من أجل مصالحه، إضافة إلى أنه لا يريد أن يخسر أي طرف على حساب الآخر، خاصة مع إسرائيل، وسط إطلاق تصريحات شعبوية رنّانة حديثا.

ورغم نفي أنقرة مطالبة قيادات “حماس” بمغادرة أراضيها، إلا أن عدة مؤشرات تؤكد تضرر علاقة الحركة مع تركيا جرّاء هجومها الأخير على إسرائيل. ويبدو أن أردوغان اليوم في وضع حرِج جدا، إذ لا يستطيع الانحياز إلى طرف دون الآخر، وهنا، وبعد تداول أنباء عن اهتزاز علاقته وأعضاء حزبه مع “حماس”، خرج ليُثبت بطريقة غير مباشرة، إنه غير منحازٍ تماما لتل أبيب، عبر إطلاق تصريحات شعبوية قد اعتاد عليها في السابق، حيث قال إن “حركة حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي جماعة تحرير تخوض معركة للدفاع عن أرضها”، مُعلنا إلغاء زيارة مقررة لإسرائيل.

لكن اللافت هنا أنه اقترح تنظيم مؤتمر دولي للسلام بين الجانبين، وهو دليل على أنه لا يريد زعزعة علاقته مع إسرائيل في الوقت ذاته. بمعنى آخر، يريد هذا الرجل المعروف بمواقفه الانتهازية، الاستفادة من علاقاته واتصالاته الجيدة مع طرفي الصراع في غزة، فضلا عن استثمار علاقاته مع الأطراف الخارجية الفاعلة في الملف الفلسطيني، بغية تحقيق مصالحه أولا وأخيرا على حساب ما يجري حاليا في المنطقة. وذلك باتباع سياسة براغماتية بحتة في إطار اتخاذ موقف محايد أو متوازن، إن صح التعبير.

تركيا تغير لهجتها تجاه إسرائيل

خطاب أردوغان الأخير المليء بالشعبوية بشأن “حماس”، قابله خطاب إسرائيلي قاس اللهجة، حين قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ليور هايات، إن “إسرائيل ترفض باشمئزاز التصريحات القاسية للرئيس التركي بشأن منظمة حماس الإرهابية”.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان- “إنترنت”

هايات، أردف أن “حماس منظمة إرهابية خسيسة أسوأ من داعش وتقوم بوحشية وبشكل متعمد بقتل المدنيين وأخذهم كرهائن، فضلا عن أنها تستخدم شعبها كدروع بشرية”، معتبرا أن “محاولة أردوغان في الدفاع عن التنظيم الإرهابي وكلماته التحريضية لن تغير من الفظائع التي شاهدها العالم أجمع، وحقيقة أن حماس تساوي داعش”.

من جانب آخر، أكد أردوغان على مواصلة استخدام كافة الوسائل “السياسية والدبلوماسية والعسكرية اللازمة”، لافتا في الوقت نفسه إلى استعداد بلاده لتكون ضامنا للجانب الفلسطيني، وقال إن نظام الضمانات المقترح هو الطريقة الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار على المدّييْن القصير والمتوسط.

كما اقترح تنظيم مؤتمر دولي للسلام بين إسرائيل وفلسطين، داعيا الدول العربية إلى تقديم الدعم المعنوي والمالي لذلك الأمر، في حين حضّ الشعب الفلسطيني على “الاتحاد للعمل كوحدة واحدة من أجل حلّ الدولتين”. 

استنادا إلى التقارير الغربية وآراء الخبراء، تعاملت “حكومة العدالة والتنمية” مع حرب غزة بمنطق براغماتي. فبينما سمحت بالتظاهر دعما لما يسمى “المقاومة الفلسطينية” في عدة مناطق، وكثّفت اتصالاتها وزياراتها مع زعماء المنطقة مؤخرا، وسعت إلى لعب دور الوسيط، إلا أنها مع ذلك لا تتسامح مع خسارة علاقتها مع إسرائيل، التي شهدت تقدّما كبيرا خلال الفترة الماضية. وقد صرح مسؤولون في السياسة الخارجية التركية حديثا لوسائل الإعلام، أن تركيا تسعى جاهدة لحل مسألة تبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس”، بالإضافة إلى زعمها بأن خطوطها مفتوحة مع الجانبين، من أجل تذليل العقبات وضمان التوصل لهدنة ما بين الطرفين.

هذا وتزامنت تصريحات أردوغان مع زيارة لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، لدولة قطر، يوم أمس الأربعاء، والتقى نظيره القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لبحث الأزمة المستمرة في غزة. وخلال مؤتمر صحفي مشترك بين الطرفين في الدوحة، أكد فيدان أن أي عملية برّية في القطاع “ستحول هذه الوحشية إلى مجزرة بكل معنى الكلمة”، مشيرا إلى أن ازدياد الموت والدمار يولد زيادة في ردود الفعل على المنطقة، وفق ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية.

بالتالي، يمكن القول إن تصريحات أردوغان وفيدان، يشيران إلى أن تركيا بدأت تسير في مسارٍ ثان عما كانت تسلكه في بداية حرب غزة، من خلال إطلاق تصريحات مغايرة لما كانت في السابق، وبالتوازي تواصل مع دول الجوار، خاصة تلك التي لها علاقات جيدة مع “حماس” مثل قطر، للضغط على طرفي الصراع، وخاصة إسرائيل التي تواصل هجومها على “حماس” حتى اليوم، أنه “آن الأوان أن تجلسوا على طاولة المفاوضات ووقف الحرب وسفك الدماء”، وأن المزيد من الدماء والدمار ليس في مصلحة أي طرف.

انتهازية خطاب أردوغان

في هذا الصدد، يقول الكاتب والباحث السياسي الدكتور سامح مهدي، إن تركيا تربطها علاقات تاريخية وثيقة مع إسرائيل، كما أن “حزب العدالة والتنمية” وفي قمته رجب طيب أردوغان حاليا لا يغامر بتلك العلاقات البراغماتية والمصالح المشتركة.

تعود العلاقات لعقود مضت وتحديدا مع اتفاقية التجارة الحرة بالتسعينات وتتضاعف نسب التبادل التجاري بينهما كما تتسع مجالات ونطاقات الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية. كما انخرطت الشركات التركية في تدشين بنية تحتية بإسرائيل الأمر الذي يظهر من خلال دور شركة “يلمازلار” التركية وهو دور متنام، وفق ما يضيفه الباحث السياسي لموقع “الحل نت”.

الباحث السياسي، سامح مهدي لموقع “الحل نت”

ويشير الباحث السياسي أيضا، إلى أنه “منذ عام 1949 أي بعد عام على قيام وتأسيس دولة إسرائيل انطلقت العلاقات التركية الإسرائيلية”، لكن الدور التركي الراهن تجاه إسرائيل يكشف عن تحولات جديدة وبراغماتية تتصل بمحاولة تسيّد أردوغان دور فاعل من الناحية الإسلامية تجاه القضية الفلسطينية.

هذا فضلا عن سعيه لبناء علاقات مع “حماس” الإسلاموية بما يخدم أهدافه المحلية والإقليمية المتمثلة في انبعاث نظرية “العثمانية الجديد”. وكما يوفر أردوغان ملاذات آمنة لقادة الجماعات الإسلامية كـ “الإخوان المسلمين” والمصنّفة إرهابية في عدد من البلدان العربية وبعضهم عليه أحكام قضائية تتصل بالعنف واغتيال مسؤولين حكوميين، فإنه بعض قادة “حماس” موجودين على الأراضي التركية، على حدّ تعبير المحلل السياسي، سامح مهدي.

من الواضح أن أردوغان يريد اللعب على الحبلَين. وتشير إلى ذلك تصريحاته المتضاربة منذ اندلاع الأزمة في غزة وحتى اليوم. فهو من ناحية لا يريد أن يفقد شعبيته ويبرز نفسه على أنه “بطل الأمة الإسلامية”، ومن ناحية أخرى لا يريد أن تهتز علاقات تركيا مع إسرائيل التي تجمعها مصالح مشتركة كثيرة، خاصة في قطاع التجارة حيث يصل حجم التجارة المشتركة بينهما إلى أكثر من 9 مليارات دولار سنويا. وأكدت تركيا ذلك عبر وزير خارجيتها السابق مولود جاويش أوغلو، العام الماضي، عندما ذكر أن حجم التجارة مع إسرائيل يتزايد رغم جائحة “كورونا”، موضحا أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تجاوز 10 مليارات دولار عن عام 2021.

رجب طيب أردوغان مع إسماعلي هنية رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”- “إنترنت”

كما قال حينها إن الحوار السياسي والفني مع إسرائيل من شأنه أن يزيد التبادل التجاري، مضيفا “نأمل أن نستقبل أعدادا كبيرة من السياح الإسرائيليين”، وأن تحسين العلاقات مع إسرائيل من شأنه أن يُسهم في تحقيق السلام في المنطقة، ومن هنا السؤال الذي يطرح نفسه: “كيف يمكن لأردوغان أن يضحي بما كان يبنيه منذ سنوات عديدة مع إسرائيل في الوقت الحاضر بهذه السهولة وبمقابل ماذا”، وبالتالي يمكن الاستنتاج هنا، أن تصريحاته اليوم لا تعدو كونها أكثر من “خطاب شعبوي” وممارسة انتهازية في كل حرب وظرف يحصل.

التزعم بـ”المقاومة” وكسب الشعبية

في المقابل، يترقب الأتراك “مسيرة فلسطين الكبرى” التي دعا إليها قبل يومين “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، على أن يتم تنظيمها في حديقة مطار أتاتورك، يوم السبت المقبل. ودعا أردوغان الأربعاء إلى “ضمان أعلى مشاركة ممكنة في التجمع”، وقال: “سنرفع فيه علمنا والعلم الفلسطيني فقط”، وزاد بالقول “أعرب عن امتناني العميق للسياسيين والرياضيين والفنانين والصحفيين والمنظمات غير الحكومية وجميع مواطنينا البالغ عددهم 85 مليونا، الذين دعموا الخطوات التي اتخذناها من أجل شعب غزة المضطهد”.

بالعودة إلى الباحث السياسي، سامح مهدي، فإن أردوغان يؤدي دورا انتهازيا بشأن القضية الفلسطينية من خلال دعم فصيل بعينه واختزال القضية في وجهها الإسلاموي المتشدد والمسلح مع الأخذ في الاعتبار أن العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل لم تنقطع.

وهنا يمكن القول إن تركيا في موقفها المرن تجاه الأحداث الأخيرة بعد الهجمات المباغتة التي شنّتها الحركة ضد إسرائيل يؤشر إلى سياسة أردوغان البراغماتية حتى الثابت هو الابتعاد في بادئ الأحداث عن الإدانة والاصطفاف المباشر مع “حماس” من مبدأ “المقاومة”، كما يزعم هذا المحور والبحث عن دور وساطة والإفراج عن الرهائن والتفتيش عن دور يخدم علاقات تركيا الإقليمية ولا يجعلها في صِدام وخسارة مع إسرائيل، طبقا لما يحلّله الباحث السياسي.

 بل إن هناك تلميحات وتصريحات تكشف عن مطالبة تركيا بمغادرة قادة “حماس” البلاد بعد الهجمات في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وعلى رأسهم إسماعيل هنية، لتفادي الحرج المتسبب فيه وجودهم آنذاك مع بدء عملية “طوفان الأقصى” وظهور القادة وهم يسجدون على شاشة التلفاز بعد الهجمات على إسرائيل. ورغم النفي التركي الرسمي إلا أن الثابت هو مغادرة القادة لإسطنبول بغض النظر عما إذا كان ذلك بقرار نابع منهم أو بضغوط من البلد المضيف ورفع الحماية عنهم، في ختام حديث الباحث السياسي، سامح مهدي.

مظاهرة داعمة للفلسطينيين في إسطنبول- “رويترز”

هذا ونقل موقع “المونيتور” الأميركي في وقت سابق، عن مصدر فلسطيني قوله إن الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك “حماس”، غير راضية عن موقف تركيا، وتعتبر بياناتها غير كافية لدرجة “أنهم لم يستدعوا السفير الإسرائيلي في وزارة الخارجية”.

ونقلت التقارير الغربية، أن إسماعيل هنية، كان في إسطنبول عند تنفيذ هجوم “طوفان الأقصى”، لكن السلطات التركية طلبت منه مغادرة تركيا بلطف وذلك بعد نشر لقطات على وسائل التواصل الاجتماعي تظهره وأعضاء آخرين في “حماس” يسجدون شكرا أثناء مشاهدة أخبار التوغل على التلفزيون.

لكن مركز مكافحة التضليل التابع للرئاسة التركية، نشر تغريدة عبر منصة “إكس”، شدّد فيها على أن “الادعاءات بأن الرئيس التركي أمر كبار المسؤولين في حماس بمغادرة تركيا على الفور، عارية من الصحة تماما”، لكن محللين آخرين قالوا لـ”الشرق الأوسط” إن نفي الرئاسة التركية هذا “نُشر على استحياء” عبر منصة “إكس” (تويتر سابقا) وباللغة العربية فقط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات