تمكّنت الطبقة البرجوازية، بفعل وعيها الذي اكتسبته عبر تجارب عدة، وبدافع من تطلعاتها الاقتصادية، من الهيمنة على الفضاء العام في أوروبا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ لتقود دفّة التحولات السياسية الكبرى، وتُسهم بشكل فعّال في احتضان الحركات المعارضة لسلطتي الدولة والكنيسة، وتؤسس بفضل بنيتها الخاصّة، لحقبة فريدة في التاريخ المعاصر.

على النقيض، كانت نواة البرجوازية العربية أضعف من أن تؤسس طبقة اجتماعية مؤثرة، في ظل مجتمعات فشلت في التّحول إلى نمط الإنتاج الصناعي، أو إحداث الفارق الحضاري؛ حيث ظلّت البُنى التحتية للمجتمعات العربية تتغذى، في تراتبية اعتمادية، على مخرجات نوعية ضعيفة من الوعي، أفرزتها البُنى الذهنية القائمة على تمثلات دينية مشهدية، تنتمي إلى العصور الوسطى، بفعل سلطة استبدادية انتهازية، حينا، وبفعل “الاستعمار الأوروبي” حينا آخر، وقد عمل الأخير على إعادة إنتاج التخلف في هذه البقعة من العالم؛ من أجل استمرار سيطرته.

البرجوازية الصغيرة حاضنة عابرة للطبقات

فشلت البرجوازية العربية الصغيرة، في بناء أي مواقف ثورية تجاه قضايا مجتمعاتها، بل وفشلت في اكتساب الوعي المعرفي بوجودها، لكنّها مارست نوعا من الهيمنة المادية أو الرمزية، على جموع الفلاحين والمهمّشينَ، بوصفها الأكثر قدرة على التأثير، خاصّة بعد أن نالت قدرا لا بأس به من التعليم، مكّنها من شغل وظائف إدارية هامة، كما ضمّت هذه الطبقة إلى صفوفها صغار المنتجينَ والمُلّاك، وبوصفها مالكة لأدوات الإنتاج الخاصّة بها، تشكّل لديها طموح خاص بالارتقاء الاجتماعي، كما أنها بفعل اضطرارها في بعض الأوقات إلى العمل بنفسها، امتلكت وعي الطبقة العاملة، ونظرا لطبيعتها الثنائية، وبفعل بنيتها الاجتماعية المحافظة، كانت أرضا خصبة لاستقبال جماعات الإسلام السياسي واحتضانها.

كان حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين”، ابن البرجوازية الصغيرة، التي شكّلت حاضنة اجتماعية ذات طبيعة شبكية، تم تطويعها فيما بعد داخل الإطار الهرمي للإخوان، كبنية تحتية، دفعت تجاه تمدّد الجماعة، ونمو غيرها من جماعات الإسلام السياسي في مصر والعالم العربي.

وعلى مدار عقود طويلة، تمكّن الإخوان من محاكاة نموذج الدولة، حيث تفاعلت الحواضن الاجتماعية للجماعة، مع نمط الاقتصاد الريعي، الذي تشكّل على هيئة أوعية ادخارية ذات مسارات مالية، تفاعلت بدورها مع احتياجات البرجوازية وما دونها من شرائح وطبقات، في صورة خدمية؛ كرّست بدورها لتمدّد المشروع السياسي للتنظيم.

في أعقاب أحداث “الربيع العربي”، وبفعل جملة من الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ وصلت حركات الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد في المنطقة، حيث أمسكت حركة “النهضة” بمقاليد السلطة في تونس، وسيطرت جماعة الإخوان في مصر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما تمكّن “حزب العدالة والتنمية” المغربي (البيجيدي) من الفوز بالانتخابات التشريعية، وقيادة الائتلاف الحاكم لعشرية كاملة؛ أضف إلى ذلك الصعود الإخواني في ليبيا، وهيمنة أذرع الجماعة على الحكم في السودان، كما هيمن “حزب الإصلاح” اليمني على محافظات المثلث النفطي في اليمن، وواصل الإخوان في موريتانيا تقدمهم في البرلمان.

كان الوصول إلى السلطة مربكا للإخوان أنفسهم، وقد فشلت الطبيعة الموازية للتنظيم في إدارة الدولة؛ وسقط الإخوان في مصر بفعل الفشل الذريع في إدارة كل الملفات، حيث حكمت الجماعة بمفهوم ووعي التنظيم السري، وحاولت فرض منطلقاتها الخاصة بالتمكين والمغالبة وإقصاء الآخر، فسقطت في اختبار إدارة التنوّع، في دولة بحجم مصر.

ومثلما كان الصعود سريعا كان السقوط لحظيا متتابعا، حيث سقط التنظيم بفعل ثورة شعبية ساندها الجيش في مصر، وبفعل التواطؤ مع أجندات خارجية في ليبيا، وانقسم “حزب العدالة والبناء” على نفسه، بينما سقطت التجربة في تونس بعد أن قادت حركة “النهضة” البلاد إلى انسداد سياسي غير مسبوق، وفي المغرب كان الفشل الذريع في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بينما سقطت التجربة الطويلة بفعل ثورة شعبية في السودان، وتراجعت حظوظ “حزب الإصلاح” في اليمن إلى حدّ كبير، وكذا تراجعت أذرع الجماعة في موريتانيا والجزائر.

أعقب سقوط الإخوان، تحولات حادة في السياسة الدولية، فقدت على إثرها الأذرع التنظيمية حاضنتها الخارجية، وخاصّة الحاضنة التركية ونظيرتها القطرية، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل انتهت تجربة الإخوان إلى الأبد؟

في إجابتها عن هذا السؤال، ترى الدكتورة نائلة السليني، أستاذة الحضارة الإسلامية بجامعة تونس، في تصريحات خصّت بها موقع “الحل نت”، أن “من يعتقد ذلك واهم؛ لأن البنية الفكرية للإخوان تنطلق من كيفية تسييج حركتهم وحمايتها من التفكك والانهيار، وهي سياسة بانية لمفهوم التمكين، مهمتها ترتكز أصلا على إرساء مناهج تضمن كيفيات في التسرّب والانغراس في أعماق المجتمع العربي، مصرّياً كان أو أردنيا أو سعوديا أو تونسيا أو جزائريا….؛ فالمبادئ الإخوانية لها من القدرة على التقبل والانتشار ما يمكّنها من التلاؤم حتى مع مبادئ قد تبدو نقيضة لمبادئهم، وتلك هي الازدواجية في خطابهم وسلوكهم؛ بحيث تكتسب حركتهم لينا وتأقلما مع الظروف، حتى وإن كانت تصطدم معها”.

الأكاديمية التونسية شبّهت الإخوان بنهر الدانوب الذي يكتسب صفة فريدة؛ فهو نهر مجراه طويل يشقّ أوروبا، تارة يبدو عميقا ويطغى على كل ما هو حوله، وتارة أخرى يغيب تحت سطح الأرض؛ فيبدو للناظر أنه توقّف وجفّت مياهه، لكن ما إن يطمئنّ المرء إلى ذلك، حتى تعود إليه مياهه في عنفوانها.

تنوع الحواضن

يمكن القول إن البرجوازية الصغيرة قامت بدور الجسر الذي يسير في اتجاهين، الأول أفقي؛ قادر على نشر أيديولوجيا الجماعة على مستوى طلاب الجامعات والمدارس العليا والنقابات، وبفعل مخرجات الصحوة الإسلامية، وموجاتها المتتابعة، وصلت تلك الأفكار إلى البرجوازية العليا والوسطى. والثاني رأسي؛ مارس نوعا من الحفر الاجتماعي الأيديولوجي؛ عبر تقديم الخدمات المحمّلة بالأفكار السياسية للجماعة، للطبقات الأدنى، ومع الوقت راكم هؤلاء قدرة كبيرة على الحشد والتجييش والتجنيد، وبالتبعية التوظيف السياسي.

[UNVERIFIED CONTENT] A sign at one of the entrances of Tahrir Square reads ‘no entrance for the Muslim Brotherhood’, as anti-Morsi protesters start to gather for big protests against the Muslim Brotherhood regime in Cairo, Egypt.

كل ذلك نجح في تكوين جملة من الحواضن الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وبالتالي صناعة بنية ذات طبيعتين: الأولى رخوة؛ قادرة على امتصاص الضربات في أوقات المحنة، والحفاظ على وجود التنظيم وتماسكه، والثانية قادرة على التحول إلى كتلة صلبة، تظهر في أوقات التمدد والتمكين.

وتصف الأكاديمية التونسية الكبيرة، قدرة الإخوان على العمل في الظلام قائلة إنهم “يلتمسون حياتهم في الظلام، وصفتهم الصبر، لكن حذار؛ فهو صبر الباحث عن فرصة، أو بريق يقتنصونه ويتبنّونه؛ بحثا عن مسلك يصلهم إلى سطح الحياة العامة وقد ضمنوا الأمان”.

وعن طبيعة الحواضن الاجتماعية، القادرة على احتواء التنظيم وأفكاره في فترات الأفول، ترى نائلة السليني، أنها قد لا تكون إخوانية، وإنما هي حواضن تغذّت بأفكارهم؛ والأمثلة في رأيها كثيرة، ولعلّ آخرها ظهورهم الصريح هذه الأيام، بالتزامن مع أحداث الحرب في غزة، ومحاولتهم اقتناص هذه الفرصة، وطبع الأحداث بأجندة الجماعة، حيث حرصت حركة “النهضة” في تونس، على نشر صور لقيادات إخوانية مسجونة الآن؛ لتنبّه إلى أن النضال يبدأ من سجون تونس، وصولا إلى الأقصى.

تعالت أصوات إعلامية، قد تبدو في ظاهرها غير إخوانية، بل هي ذات توجّه يساري، لتنادي بإطلاق سراح جميع المساجين السياسيين، بما فيهم راشد الغنوشي ومساعديه، وهنا وهناك، يتجلى البكاء على مآلات الربيع الإخواني البائد، في محاولة لاستعادة ثقة الشعوب، ومن ثم خلق بعث جديد للجماعة.

الدكتورة نائلة السليني، أستاذة الحضارة الإسلامية لموقع “الحل نت”

كما أن السياسة الدولية تمثّل سندا أساسيا للإخوان، بشكل أو بآخر، حتى يظلّوا حركة حيّة تتغذّى من هموم المجتمع العربي، فبقاء القضية الفلسطينية في منزلة بين المنزلتين، وبما تحمله من ظلم يعيشه الفلسطينيون، ستظل ملجأهم في كل انتفاضة، واليوم الذي يصير فيه للفلسطينيين دولة كاملة السيادة، سوف يسدل الستار على الإخوان، ذلك أن محنة المجتمعات الإسلامية ستطول هي مهاد الأمان للإخوان، قالت السليني.

الأطراف تغذي المركز الإخواني

على أطراف العالم العربي، يمكن رصد عدة روافد مهمة، يمكنها أن تغذي الجسد الإخواني الكامن في دول المركز، من حيث توفير مسارات آمنة للأوعية المالية، و ملاذات آمنة لعناصر التنظيم وكوادره، وكذا بناء ترسانة أيديولوجية ضخمة، يمكنها أن تحفظ أجندة التنظيم وأفكاره، حيث يتشكل بنك الأفكار الإخواني ويتضخم وفق تنويعات معرفية، قد تتباين شكلا، لكنها تتفق جميعا في الهدف.

في باكستان وبنغلاديش، يلعب تنظيم “الجماعة الإسلامية”، الذراع السياسية للإخوان، دورا مهما على صعيد بناء حاضنة راديكالية، تمثل تيار الصقور القطبي، فالدولة في نظر “الجماعة الإسلامية” البنغالية علمانية كافرة، والمجتمع في جاهلية تستوجب تدشين جماعات الأمر بالمعروف، وهو نفس الخط الذي يسير عليه سراج الحق، أمير الجماعة في باكستان، بوصفه يمثل الجناح الحركي للتيار القطبي، الذي ينشط في لاهور وكراتشي وولايات متعددة، بما لديه من قدرة على توظيف كافة التناقضات، وحشد الملايين من أجل التظاهر والاعتصام والتصويت.

تمثّل الأذرع الدينية حاضنة اجتماعية مهمة للتنظيمات الإخوانية- “الصورة من الإنترنت”

أما التيار الوسطي في التنظيم، الذي يمثل الرافد الثاني في الأطراف، فيمثّله “الحزب الإسلامي الماليزي” (باس)، الذي يحكم ثلاث ولايات؛ هي كلنتن وترينجانو وقدح، ويشارك في حكم ولايتي جوهور وبيراك، وله عشرات الأعضاء في المجالس التشريعية، ويتظاهر بالتماهي مع النظام العلماني في البلاد، لكن طبيعته الإخوانية تتجلى دوما في قضايا اجتماعية مفاجئة؛ كظاهرة أسلمة أطفال البوذيين، والسياحة والاستثمار وغيرها، ونفس الأمر يظهر بصورة ربما تكون أقل حدّة في إندونيسيا، حيث ينشغل حزب “العدالة والرفاهية” الإخواني، بالمنافسة الدائمة على المقاعد الانتخابية.

هذه الحواضن الآسيوية، يقابلها حزام إفريقي في الساحل والصحراء، لكنه بفعل ضغط الجماعات الجهادية، غير قادر على إظهار قدراته، وإن كان يوفّر للجماعة في الشمال رافدا مهما.

وفي المركز نفسه، تمثّل الأذرع الدينية حاضنة اجتماعية مهمة للتنظيمات الإخوانية، فجماعة “العدل والإحسان” في المغرب، على سبيل المثال، يمكن اعتبارها بمثابة ظهير استراتيجي لا غنى عنه لـ”حزب العدالة والتنمية”، وهو نفس الدور الذي تلعبه دار الإفتاء الليبية، بفضل المفتي المعزول الصادق الغرياني، الذي يوفّر نفس الحاضنة الدينية لـ “الإخوان المسلمين”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات