دخلت الحرب الأهلية في سوريا الآن عامها الثالث عشر، وصاحب الحرب الانقسامات بين الدولة ومواطنيها التي باتت واضحة على نحو متزايد. ويتجلى ذلك بشكل أوضح في الممارسات التي تتبناها النّخب الحاكمة في المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري، بقيادة بشار الأسد، والمعارضة لضمان الوصول إلى الموارد، في ظل الكم الهائل من التدخلات الفنية والأجنبية في سوريا وسلسلة الأحداث سريعة التطور. 

إن سوريا التي تعيش منذ سنوات حرباً مدمرة، تئنّ تحت وطأة الأزمة التي تتكشف، والتي رسخت حالة انقسام مثيرة للقلق بين مكوناتها الوطنية والدينية والطائفية والسياسية. لقد جعلت إراقة الدماء الهائلة من المستحيل تقريباً التغلّب على الحواجز النفسية التي نشأت والتي تتزايد يوماً بعد يوم بين مواطني نفس الأمة. مما يعزز الشعور بالقلق لدى المنظمات الدولية على مستقبل سوريا.

مخاوف دولية من وضع سوريا

نقل المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي الخميس الماضي، “القلق العميق” بين السوريين من تكريس الواقع التقسيمي في البلاد التي انزلقت إلى حرب طاحنة منذ 13 عاماً، عادّاً كل التطورات هناك تسير في الاتجاه الخاطئ. 

صورة للرئيس السوري بشار الأسد تظهر على طريق تتجه فيه آليات تحمل شحنات من الحشد الشعبي إلى سوريا، 12 فبراير 2023. (رويترز/أحمد سعد)

وإذ كرّر بيدرسن اعتقاد المسؤولين الأمميين أنه “لا توجد طريق عسكرية لإيجاد حلول للتحديات التي لا تُعد ولا تُحصى”، وشدد على “الحل السياسي الشامل”. 

وقال بيدرسن، إن “السوريين ينقسمون عبر مناطق السيطرة، حيث تنشط ستة جيوش أجنبية علاوة على عدد كبير من الميليشيات المسلحة، بالإضافة إلى الجماعات الإرهابية المدرجة في قائمة مجلس الأمن”، عاكساً “القلق العميق بين السوريين بشأن تأثير تقسيم سوريا تحت سلطات مختلفة لمدة جيل كامل تقريباً”، لكنه استدرك أن المستقبل السياسي لسوريا هو الذي يقرره السوريون.

الحقيقة أن تصريح بيدرسن بشأن مخاوفه من الانقسامات السورية ليس جديد فقد أعلن في شباط/فبراير 2023، أن الوضع في سوريا يحتاج إلى الدبلوماسية من أجل التخلص من الأزمات التي أنتجتها الحرب والتي أنهكت السكان سواء داخل البلاد أو النازحين خارجها.

وفي إحاطته لمجلس الأمن، ذكر المبعوث الأممي إلى سوريا، أنه إذا لم يحدث حلّ سياسي، فستكون فرصة أخرى ضائعة لمساعدة الصراع السوري على التوصل إلى نهاية تفاوضية، في وقت يتعمق فيه تأثير الأزمة. 

الخلافات في سوريا لم تعد قاصرة على الجوانب السياسية وإنما شملت حتى البُعد الإنساني، فكيف يمكن للسوريين أن يعتقدوا أن بعض التقدم الأوسع ممكن، وكيف يمكن تشجيعهم على التغلب على خلافاتهم العميقة، إذا كان التوافق على الأساسيات الإنسانية بين الأطراف الدولية بعيد المنال؟ 

ويبدو أن هذه الانقسامات أسهمت في خلقها قوة دولية هو ما عبر عنه بيدرسن قائلا: “لا تزال سوريا منقسمة إقليمياً والمجتمع السوري منقسم للغاية حول العديد من القضايا”، مشيراً إلى وجود خمسة جيوش أجنبية داخل البلاد. 

ودعا السيد بيدرسن الحكومة السورية إلى العمل بشكل استباقي مع الأمم المتحدة على مسار سياسي للخروج من الصراع، وشدد أيضًا على الحاجة إلى “دبلوماسية دولية بناءة ومنسقة”. وحثّ المجلس على أنه “كلما تمكنتم من العمل معا على الرغم من خلافاتكم، كلما تمكنتم من تشجيع ودعم السوريين على أن يفعلوا الشيء نفسه”.

محليا، ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية زاد بنسبة 90 بالمئة في عام 2023، مما يجعل المواد الغذائية الأساسية وغيرها من الضروريات بعيدة عن متناول ملايين الأسر.

الباحث في العلاقات الدولية، محمود عبد الكريم، قال في حديثه مع “الحل نت”، إن الحرب في سوريا لم تكون منذ بدايتها شأن داخلي؛ فقد لعب العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين – وما زالوا يلعبون – دوراً حاسماً في تحديد مستقبلها، بل وحتى مستقبل علاقة السوريين مع بعضهم البعض. 

فاليوم لدينا معسكر الأسد وحلفائه روسيا وإيران، حيث لا توجد قيم ديمقراطية ولا احترام لحقوق الإنسان. وهكذا فإن نموذج حكومة الأسد يبدو مثالياً بالنسبة لهم: “دكتاتورية وحشية تحكم الناس بالقتل والتعذيب ولا تراعي احتياجاتهم ومصالحهم. وعلى الجانب الآخر هناك من دعم المعارضة السورية ووقف إلى جانب الشعب السوري منذ البداية. لكن يبدو أن هذا المعسكر قد تخلى عن مهمته”.

إن الانقسامات بحسب عبد الكريم، التي تعاني منها سوريا اليوم هي صنيعة القوة الدولية مع عوامل داخلية عملت على تغذية الانقسامات والصراعات كلا حسب مصلحته.

الأزمة السورية بأطراف دولية

يمكن أن نرى بوضوح الأزمة السورية في ظل انقسام الأطراف الدولية المتحاربة داخل سوريا إلى المعسكر الأممي أو المعسكر الروسي. وتصطف خلف هذين الاثنين قوى عالمية أخرى تتخذ مواقفها وفقا لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية. 

صورة تظهر نظامين صاروخيين روسيين من طراز S-400 Triumf S-400 Triumf في قاعدة حميميم العسكرية الروسية في محافظة اللاذقية، شمال غرب سوريا، في 16 ديسمبر 2015. (غيتي)

علاوة على ذلك، فإن دولاً إقليمية، وتحديداً إيران وتركيا، تقاتل على الجبهة السورية، كانعكاس للصراع التاريخي “الفارسي والعثماني”. على هذه الخلفية، شكّلت كل هذه القوى تحالفات استراتيجية وتكتيكية على الأرض وفي الجوار، معتمدة على الدول العربية والقوى المحلية كشركاء في تنفيذ المخططات التي تسعى إليها، حيث تجمعهما أيضاً مصالح مشتركة ومتقاطعة. 

ففي شمال غرب سوريا، تسيطر الفصائل المتطرفة على المنطقة، التي أصبحت أرضًا خصبة ووجهة سهلة للإرهابيين. تعارض هذه الفصائل أي نظام ديمقراطي تعددي في سوريا، حيث أن هدفها أولاً وقبل كل شيء هو الوصول إلى سدة السلطة بآليات تتسم بالتطرف والتعصب والإرهاب. 

في شمال شرق سوريا تأسست “الإدارة الذاتية” كمشروع وطني سوري نجح في استقطاب مختلف أبناء المنطقة، كما أصبح مشروعاً قومياً كردياً رائداً في التاريخ الكردي الحديث بعد تجربة إقليم كردستان العراق. والتي حظيت بدعم أوروبي وأميركي ، والدعم العسكري من “التحالف الدولي” بعد هجوم تنظيم “داعش” 2015.

إضافة إلى السيطرة الأميركية على منطقة التنف في الحدود العراقية-الأردنية السورية. وخارج هذه المناطق، لا تزال قبضة الأسد التي يصفها المجتمع الدولي بتقاريرها بـ”الاستبدادية والعنصرية” مسيطرة على البلاد، ولو بشكل متفاوت، حيث لا تزال قبضتها هشّة في عدة مناطق، مثل البادية في الوسط ودرعا والسويداء جنوباً.

إيران أول من أشعلت نار الانقسامات 

إيران تشكل تهديداً آخر للسيادة والوحدة السورية. لقد هبت طهران لمساعدة الأسد منذ بداية الاحتجاجات عام 2011، فأرسلت “الحرس الثوري” وحشدت “حزب الله” اللبناني، وكذلك الميليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية. 

الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة للعاصمة موسكو - إنترنت
الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة للعاصمة موسكو – إنترنت

وسرعان ما غيّر هؤلاء الآلاف من المقاتلين ميزان القوى لصالح الموالين للأسد، وتشعر إيران بالقلق من تركيا، التي تشتبه في أن لديها طموحات إقليمية من شأنها أن تقلل من نفوذها، على الرغم من أن البلدين متفقان رسميًا بشأن القضايا الإقليمية. 

والجدير بالذكر أن الإيرانيين يخشون من أن أردوغان يعتبر الآن حلب والمنطقة المحيطة بها فريسة مشروعة، على الرغم من وجودهم القوي هناك، كما هو الحال في محافظة دير الزور، التي يقومون بتجنيد الشباب السوريين من خلال تقديم رواتب أفضل من الجيش السوري، وأنشأوا قوة هجومية هائلة مجهزة بطائرات بدون طيار انتحارية من طراز “شاهد 136”. 

ليس ذلك فحسب، بل عملت إيران منذ اللحظة الأولي لوجودها في سوريا على ضخ النزاعات والصراعات الداخلية، وعملت على الاستيلاء على مناطق كاملة أصبحت خاضعة لميليشياتها.

ومن الطبيعي أن يجذب الوجود الإيراني التدخل من جانب إسرائيل، وهي قوة إقليمية أخرى لا تهتم كثيراً بالوحدة السورية. في كانون الثاني/يناير 2020، بعد أن اغتالت الولايات المتحدة قاسم سليماني، تولى الرجل الثاني في قيادته، إسماعيل قاآني، قيادة “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” وقام ببناء “محور المقاومة” ضد إسرائيل، وأنشأ مستودعات أسلحة في سوريا لصالح القوات المسلحة الإيرانية والميليشيات الشيعية.

لذلك، تنفذ إسرائيل بانتظام ضربات جوية “وقائية” على هذه المواقع، ومطار دمشق وضواحيها، والقرى والقواعد العسكرية التي تسيطر عليها قوات الحكومة السورية. مما دعم عمليات الصراعات الدولية داخل سوريا وتحول سوريا إلى مسرح لتصفية الحسابات بين الدول.

تداعيات التدخل الروسي

أدى التدخل الروسي إلى تغيير الديناميكيات السورية بعدة طرق مهمة كان لها دور فعّال في تحقيق تقسيم الشمال الغربي إلى كانتونات. أولاً، وضع حداً لمشروع تغيير نظام الحكم الذي تنتهجه معظم الجماعات المتمردة وتدعمه أطراف خارجية. 

مليشيات الدم والنار كيف أصبحت إيران القوة الشيطانية في الشرق الأوسط؟ (1)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وسط)، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يمين) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) (تصوير مصطفى كاماتشي/ غيتي)

وكان الدعم الأجنبي، الذي كان ضرورياً لكل الجماعات المسلحة، قد تضاءل بالفعل بحلول ذلك الوقت، لكن التدخل الروسي كان بمثابة نقطة تحول. وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت العديد من برامج الدعم الخاصة بها، والتي كانت تركز على محاربة تنظيم “داعش” مع شريكها المحلي الرئيسي، “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

كما أنهت دول عربية رئيسية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن، مساعداتها الرئيسية للجماعات المناهضة لدمشق، في حين واصلت قطر دعمها، ولو بشكل حصري من خلال المؤسسات العسكرية والأمنية التركية، حيث احتكرت أنقرة بدورها الدعم العسكري في الشمال الغربي. 

ثانياً، مع عدم وجود دعم سياسي أو عسكري لجماعات المعارضة المسلحة، باستثناء الشمال، استعاد الأسد، بدعم من روسيا وحلفاء آخرين، المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في جميع أنحاء سوريا. وأصبحت قوات الحكومة السورية تسيطر على ساحة المعركة على نطاق واسع لأول مرة منذ بداية الصراع. 

وحتى ذلك الحين، كان النجاح الكبير الوحيد الذي حققته دمشق هو منطقة القلمون، حيث استعاد المنطقة بين عامي 2013 و2016 وقطع خطوط الإمداد من لبنان، وذلك بفضل المساعدة الواسعة من “حزب الله” وإيران. وقد أحدث الواقع الجديد تحوّلاً جذريًا في خريطة السيطرة في سوريا، واعتبارًا من عام 2016، اقتصر الصراع على الحدود الشمالية للبلاد مع تركيا. 

ثالثاً، كان للتدخل الروسي تأثير قوي على النهج التركي تجاه سوريا. بدأ توّرط أنقرة في الصراع، خاصة في الشمال الغربي، سواء كـ مضيف للاجئين أو كميسّر أو كمورّد للمساعدات الإنسانية أو العسكرية للجماعات المسلحة، في وقت مبكّر جدًا من الصراع. 

عبد الكريم في حديثه مع “الحل نت”، بيّن أن وجود روسيا كان محرك للمياه الراكدة لأنه كان وجود قوي منذ اللحظة الأولي مما أدى إلى ضغط على كل القوات المتناحرة في سوريا، وحتى الآن تحاول القوات الروسية العمل على التواجد في المناطق السورية والاستفادة من هذا التواجد، خاصة في ظل حربٍ في أوكرانيا وتتمثل هذه الاستفادة في الحصول على عقود تجارية ونفطية واقتصادية طويلة الآجل، وحتى لو على حساب الصديق الإيراني.

حتى أن روسيا تحاول الإيقاع بين القوات الإيرانية والأسد لأنها ترى في وجودها في سوريا سبيل لتعويض خسائرها في حروبها مع أوكرانيا؛ ولهذا تسعى للوصول إلى الاتفاق تكون فيه منطقة غرب الفرات منطقة نفوذها.

أصوات ودورهم في الانقسامات

بالإضافة إلى وجود اللاعبين الدوليين الذي عملوا على خلق الانقسامات الداخلية بين فئات المجتمع السوري، يوجد عامل داخلي يساعد على تقسيم سوريا هو النزعات الانفصالية لدى فئات داخل المجتمع السوري، والتي بدأت تعبّر عن وضعها بوضوح وبقوة. 

لافتة كبيرة تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد، وأسفلها نص باللغة العربية مكتوب عليه “كل الولاء”، على امتداد شارع أبو رمانة في العاصمة دمشق. (تصوير: لؤي بشارة/وكالة الصحافة الفرنسية)

فلا يقتصر هذا على الأقليات الدينية فحسب، بل أيضًا الأصوات الصاعدة داخل المجتمع الشيعي، الذين أثاروا العنف والكراهية ضد السوريين الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت هذه الأصوات وعلى سبيل المثال الإعلامي اللبناني المناصر لـ”حزب الله”، حسين مرتضى، الآن أكثر قوة، ومن الواضح أن الأسد يستمع إليها أكثر من أي شخص آخر. ولهم التأثير الأكبر على استراتيجية وتكتيكات الأسد وكيفية تعامله مع السوريين الآخرين. 

في الواقع، لقد صاغوا الحرب كأداة للإبادة ضد السوريين الآخرين. ومهما كان الثمن، فهي حرب البقاء، التي حولت حكومة الأسد إلى نظام ميليشيا لامركزي لا يختلف عن نظام “الخمير الحمر” في كمبوديا في السبعينيات. 

لقد عاثت الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية فساداً في سوريا ووحدة شعبها، ولم يعد من الممكن اعتبار سوريا اليوم وطناً لكل السوريين، وتقسيمها أصبح أمراً واقعاً، ومن المؤكد أن استعادة حدودها المجتمعية والجغرافية تبدو صعبة الآن، إن لم تكن مستحيلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات