مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر، والإعلان، لاحقاً، عن سحب الجنسية التركية من محمود حسين القائم بأعمال مرشد جماعة “الإخوان المسلمين” المصنّفة إرهابية في مصر وعدد من البلدان العربية على قوائم الإرهاب، فإن مراجعة موقف أردوغان من الجماعة الإسلاموية و عناصرها وقياداتها الضالعة في أعمال عنفٍ بحقّ المدنيين وخصومهم السياسيين، فضلاً عن التحريض ضد الدولة المصرية ومؤسساتها، يبدو أمراً ضرورياً.

فالرئيس التركي الذي عنوان سياساته العريض هو التحالف أو الاصطفاف مع قوى الإسلام السياسي في المنطقة، بغية تنفيذ مروحة أهدافه التوسّعية الإقليمية، كما في سوريا وليبيا، تبدو مؤشرات علاقته بـ “الإخوان” أو “حماس”، وظيفية ومؤقتة رغم أهدافه الاستراتيجية من وراء استخدام الإسلاميين الحركيّين باعتبارهم أداة ضغط للمناورة والتكتيك، سواء في علاقاته الخارجية أو الاستثمار فيهم محلّياً وفي الانتخابات الداخلية.

فالانتقال بين تلك التيارات يبدو براغماتياً، بما يكشف عن إمكانية التخفيف من تلك العلاقة الضرورية لغرض التهدئة من دون التضحية التامة، وهو أمرٌ يألفه هذا التيار الديني الذي يشهد انقسامات داخلية للأسباب ذاتها، بل وتحالفات أساسها سياسي ولحسابات الربح والخسارة بغض النظر عن الصِلات الأيديولوجية والعقائدية.

أردوغان وجماعة “الإخوان”

لذا، مع بدء ما عُرف بـ الجولات “الاستكشافية” بين مصر وتركيا لعودة العلاقات أو إزالة الجمود نتيجة موقف أردوغان المؤيد لهذه الجماعة الإسلاموية التي أخفقت في حكم مصر ثم سقطت بفعل ثورة شعبية أيّدها الجيش كما باقي المؤسسات الوطنية، قامت تركيا مطلع عام 2019، بترحيل بعض عناصر جماعة “الإخوان”، منهم محمد عبد الحفيظ أحمد حسين بعد وصوله من الصومال بتأشيرة مزوّرة لطلب اللجوء.

لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- “الرئاسة التركية”

ولا يختلف ما حدث مع هذا العضو بجماعة “الإخوان” والمتّهم في قضية إرهابية، هي قتل النائب العام هشام بركات عام 2015، عن سحب الجنسية من القائم بأعمال الجماعة ذاتها، أو طلب بعض قادة حركة “حماس” في ذروة تصاعد أحداث “طوفان الأقصى” مغادرة أنقرة، بل هي سياسة تركيا التي قد تتخلى أو تتخفّف من التخمة “الإخوانية” (سبق وقامت أيضاً بترحيل اثنى عشر عضواً) لغرض ترضية الجانب الذي تميل تجاهه. وهناك مواقف عديدة حدثت مع تقارب أردوغان من المملكة العربية السعودية والتهدئة في ملف جمال خاشقجي مثلاً، ووقف الحملات الإعلامية المضادة.

كما أنه في نهاية عام 2022، كشفت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “تسنيم” عن طلب أنقرة للائتلاف الوطني السوري بمغادرة البلاد. الأمر الذي تزامن مع خطط أردوغان للدخول في مفاوضاتِ تطبيعٍ مع حكومة دمشق.

وذكرت الوكالة الإيرانية آنذاك، أن ثمة لقاءٌ جمع مسؤول تركي برئيس “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وقد تم إبلاغ الأخير بضرورة “قبول الأمر الواقع”.

إذاً، ما يمكن استخلاصه، هو أن الإسلام السياسي باعتباره خطاباً سياسياً في ذهن الرئيس التركي، لن يتمّ التخلي عنه تماماً، كما أن التحالفات التي ستُنبنى بناءً على ذلك، ستظل تراوح مكانها لتحيين عودتها وتعيين شروطها.

وما يبدو ظاهرياً من التضحية بـ “الإخوان” أو “حماس” يبطن كموناً قد يعاود مواقعه مرة أخرى. فالمعارضة السورية التي احتضنها أردوغان، واللاجئ السوري الذي روّج له إعلام “حزب العدالة والتنمية” أن له ملاذات آمنة، كان ورقة ابتزاز للغرب لتنفيذ أجندة إقليمية تتعلق بطموح تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، أو الحصول على مزيدٍ من أموال المساعدات، بالإضافة إلى كون هذا الملف أحد أدوات التنافس السياسي والانتخابي مع المعارضة التركية.

بطاقات تبرز وتختفي عند الحاجة

وكما هو الحال مع “الإخوان”، مثلاً، تظل “المعارضة السورية” التي تقلّصت رويداً رويداً إلى مجموعة أو طبقة لا تخرج عن الطوق التركي ورؤية “الخليفة” الذي يبعث “العثمانية الجديدة، بل يتماهى هؤلاء مع اعتبار أن المناطق التي تسيطر عليها أنقرة هم ولاةٌ فيها وترتهن بقراراتها وفي تبعية تامة، وذلك بخلاف الوضع المبكّر لـ”الثورة السورية” التي كانت تتمتع في تحركها باستقلالٍ قبل أن تسقط في فخ قوى إقليمية لها مشروع مغاير، مفاده تأمين هواجسها التاريخية بشأن كُرد سوريا، واستمرار حصار هؤلاء بين النار والإفقار ومعسكرات اللجوء والشتات، والخيار بين النزوح أو البقاء قسراً في حدود الطاعة لـ”الولي” التركي وممثليه.

من ثم، نجد أن “المعارضة السورية” واللاجئين وكذا “الإخوان” أو “حماس”، هم بطاقات تبرز وتختفي عند الحاجة، وعبارة عن مواسم لها صفتها الانتخابية أو السياسية والمرتبطة بالحوادث الإقليمية واشتراطاتها المختلفة.

سياسة المخاطر والفُرص هي عنوانٌ آخر لأردوغان، الأمر الذي يمكن توصيفه بأنه سياسة المشي على الحواف. ففي سوريا، تبدو العلاقة مع الرئيس السوري بشار الأسد العِدائية ظاهرياً مجرد وسيلة للضغط من أجل قبول التفاوض على التخلص من الكُرد في حقيقة الأمر.

علاقة أردوغان بـ “الإخوان” تعود جذورها لحقبة السبعينات، وتعددت الارتباطات معهم حتى من قبل مرحلة “حزب العدالة والتنمية”.

و”المعارضة السورية” في قبضة الرئيس التركي وسيلة من ضمن وسائل عديدة للتقارب مع حكومة دمشق بغرض إنهاء حكم “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، بينما يتم شنّ هجمات ضد المدنيين في مناطقهم بالمسيّرات.

عملياً، “المعارضة السورية” في تركيا ستكون أمام معضلة صعبة حيث إنها تختلف عن جماعة “الإخوان” بمصر. فالأخيرة عبارة عن تنظيم سيبحث لنفسه عن عواصم أخرى يستكمل فيها شتاته وفراره. لكن الطرف السوري الذي يحتمي بالدعم التركي العسكري، وهو الذي يوفّر له الإمكانيات والقدرات المالية والأمنية واللوجستية على البقاء في مناطق بالشمال الغربي السوري من دون شرعية سوى شرعية السلاح والعنف، سيجد نفسه في فراغ وبلا حواضن ترمّم وجوده الهشّ بمجرد رفع الحماية التركية عنه.

مناورة أردوغان “قائمة”

وفي منتصف العام 2022، ألمحت أنقرة إلى استعدادها قبول التحّاور والانفتاح على السلطة في دمشق، الأمر الذي ترافق مع الانتخابات الصعبة التي كان يخوضها أردوغان، لكن التطبيع أخفق نتيجة مسألة انسحاب القوات التركية من المناطق في شمال غرب سوريا قبل الوصول إلى صيغة تبدّد الهواجس التركية تجاه الكُرد.

حتماً في السياسة لا توجد ثوابت إنما هناك جملة من المصالح والأهداف التي تصنعها سياسات ورؤى وتحتاج إلى استراتيجيات، وكل ذلك ينبني في إطار خطاب يُخفي أكثر مما يُعلن.

عملياً، “المعارضة السورية” في تركيا ستكون أمام معضلة صعبة- “الصورة من الإنترنت”

وصحيح أن علاقة الرئيس التركي بـ “الإخوان” تعود جذورها لحقبة السبعينات، وتعددت الارتباطات معهم حتى من قبل مرحلة “حزب العدالة والتنمية”. وذلك منذ لقاء أردوغان (حينها كان مستشار نجم الدين أربكان والذي يُعد الأب الروحي للحركة الإسلامية بتركيا ومؤسسها) بالقيادي بالجماعة كمال الهلباوي، والذي كان يقيم في لندن ويشغل منصب المتحدث الرسمي بالغرب، فضلاً عن دوره بين الحركات الإسلامية في مرحلة كابول وصعود الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان وبين حركة “طالبان” وغيرهم، إلا أن حدود ما هو مُعلن من تلك العلاقة كان ارتباطهما على مستوى مؤتمرات الندوة العالمية للشباب الإسلامي. أردوغان كبير مستشاري نجم الدين أربكان، زعيم “حزب النظام الوطني الإسلامي” الذي لم يدم طويلاً في تركيا.

منذ تلك الفترة وهناك شبكة معقّدة خفية ومُعلنة تعمل بين أردوغان وتتوسط بفعل الزمن وتراكم المصالح والأهداف والخطط، فضلاً عن الظروف الإقليمية والدولية التي تجمع بينهما ولا تباعد بين طرفيهما. وهي شبكة ما تزال ممتدة وقائمة بين دوائر أردوغان السياسية، وكذا “حزب العدالة والتنمية”.

وفي أيلول/ سبتمبر العام الماضي، التقى الرئيس التركي بوفد من المجلس الأميركي للمنظمات الإسلامية بعد فوزه بالانتخابات وعلى رأس الوفد أسامة جمال المعروف بـ ارتباطاته الوثيقة بـ “الإخوان”.

ومع هذا، لا يمكن تصوّر تخلّي أردوغان عن تلك الأذرع الممتدة وذات الجذور، إنما تنحية بعضها أو اللجوء للتهدئة مع إمكانية التضحية بعناصر لا وزن لها كنوع من الترضية والتسويق الإعلامي لإتمام الانعطافة السياسية والإقليمية.

أردوغان لا يزال ملتزماً بالحفاظ على انتمائه لجماعة “الإخوان” على الرغم من التقارب مع مصر.

بيد أن التخلّي التام يفترض بناءَ استراتيجيةٍ جديدة مغايرة والانتقال لمجال رؤية بعيد، الأمر الذي لا يبدو متحققّاً في الحالة الأردوغانية التي ما تزال تطمح لذات النفوذ بالمنطقة.

ختاماً، تظل مناورة أردوغان قائمة حتى مع انفتاحه على مصر لضرورات مُلحّة تتصل بتداعيات الحرب في قطاع غزة، وأهمية التنسيق مع القاهرة لغاية تحقيق أي هدف، لا سيما ما يتصل بإعادة الإعمار وهو الطموح التركي الخفي، فضلاً عن طموحها الآخر في غاز شرق المتوسط وإحداث خرق في الاصطفاف المصري الإسرائيلي اليوناني، والأمر ذاته مع الخليج، تحديداً دولة الإمارات التي تحدثت عن استثماراتٍ في تركيا بنحو 10 مليارات دولار، وقبلت بمبادلة عملة بقيمة 5 مليارات دولار، بما يرمم احتياطيات الدولة وخزانتها التي فقدت العملة الأجنبية.

هذا بالإضافة إلى السعودية، والتي دعمت أنقرة اقتصادياً وتجارياً. وهنا، أكدت صحيفة “نورديك مونيتور” قبل أيام، أن أردوغان لا يزال ملتزماً بالحفاظ على انتمائه لجماعة “الإخوان” على الرغم من التقارب مع مصر، وتوقّع الدعم المالي من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وكل منهما يتطلع إلى الجماعة بأنّها تهديد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة