بعد مرور أكثر من عقدَين على أحداث “الربيع العربي”، صرنا أمام أفول جلّ الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية. هذا الأفول الذي نتج عن فشل في تحقيق الوعود الانتخابية، أو لنقُلْ إنّه قدم خلال التجربة السياسية صورة معاكسة عما مثّله الحزب في الوعي الجمعي العربي، فالنجاح في تسلّم دفة الحُكم أو تصدّر نتائج الانتخابات لم ينتج عنها تجربةٌ ناجحة لممارسة سياسية قادرة على تحقيق الطموحات التي لطالما رفعها الحزب.

وهو في الحقيقة قصور ذاتي وسلطوي يرتبط بطبيعة الأنظمة السياسية العربية، فالقصور الذاتي ناتجٌ عن غياب خبرة سياسية لهذه الحركات وكذا حربائية توجّهاتها السياسية والدعوية.

وأيضاً قصور خارجي مثّله وجود نوع من الرقابة السلطوية التي حاولت قدر الإمكان الحدّ من توجهات هذه الحركات على المستوى السياسي، فما هي دواعي وممكّنات هذه القراءة؟

الأحزاب الإسلاموية

لقد أبانت الأحزاب ذات التوجه الديني عن طبيعة حربائية وازدواجية معيارية في ممارسة الفعل السياسي، وهي حربائية ناتجة عن أمرين؛ المنطلق الفكري الديني لهذه الأحزاب، والراهن السياسي العربي الذي يعكس بلورة حَدَاثية لمفهوم الدولة، إذ ممارسة الفعل السياسي تعني منطقياً القبول بهذا التوجّه الحَدَاثي لمفهوم الدولة.

والقبول بهذا التوجه معناه ضمنياً تغيير المرجع التأويلي للمنطلق الديني المؤطّر لهذه الأحزاب، ومن ثم ضرورة فرز مسارٍ لفعل سياسي منسجم مع الواقع السياسي، إذن من أين تأتي حربائية هذه الأحزاب؟

لقد أبدت بعض الأحزاب الإسلامية نوعاً من التجاوب الإيجابي في إمكانية التأقلم مع الواقع السياسي العربي، نموذج “حزب العدالة والتنمية” في المغرب و”حزب النهضة” في تونس أو حتى تجربة “الإخوان المسلمين” في مصر إثر تسلّمهم الحُكم بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، وإعلانهم التوافق المبدئي مع مقتضيات العمل السياسي في سياقه المؤسساتي المحكوم بالإطار العام للدولة.

إلا أن جُلّ هذه التحزّبات الإسلامية قد مارست نوعاً من الازدواجية في تبنّي خطابَين على حدٍّ سواء؛ المرونة في التعاطي مع الواقع السياسي الذي تمثّله الدولة  في سياقها العربي وبالمقابل الصلابة في الاستمرار بالتمسك بالأصول، فالبراديكم (الفكر) السلفي يظل متضمناً في العمل السياسي لهذه الأحزاب، وإن كان بشكل مستتر وغير معلن، حيث يتم تغليب كفّة أحدهما على الآخر وفق الوضعية السياسية المتحكمة في المشهد السياسي ككل، مما عكس وجهان لتجربتَين مختلفتَين، بل يمكننا القول: مختلفتان إلى حدّ التقابل والتضاد.

فشل التجارب السياسية للإسلامويين

صحيحٌ أن بعض هذه الأحزاب قد استطاعت مرحلياً تحقيق تفوق انتخابي أهّلها لتقلّد مناصب الريادة الحكومية، لكنه بالمقابل برهن عن عجزٍ في بلورة تجارب سياسية رائدة أو نموذجية تشكّل مستنداً حقيقياً لبناء سجل سياسي فعلي لهذه الأحزاب.

بحكم الانتماء نُدرج هنا مثال “حزب العدالة والتنمية” المغربي، الحزب ذات التوجه الديني الذي برهن على وجهَين متناقضَين: فالأول تعلّق بالتجربة التي خاضها الحزب وهو في دفة الحكومة لولايتين، والتجربة التي خاضها سابقاً ويخوضها اليوم وهو على كراسي المعارضة.

مؤيدون يرفعون الأعلام خلال خطاب لرئيس وزراء المغرب والأمين العام للحزب والعدالة والتنمية في الرباط، سبتمبر/أيلول 2016.  © EPA/عبد الحق سنّ

إن الوجه العام لهاتين التجربتين يوضّح أن هناك وجهان متقابلان لا يُسهمان في رسم صورة واضحة لمنطلقات الحزب الحقيقية، بقدر ما يساهمان في إثارة الشكوك والارتياب حول مختلف النوايا أو التوجّهات الحقيقية لهذا الحزب، خصوصاً في حال تحقّقت أرضية خصبة للممارسة الديموقراطية.

يمكننا القول إن هذه الازدواجية في المواقف والتنصّل للمنطلقات والعودة إليها وفق شرط السياق والجمهور، هي توجه بصم مسار الإسلام السياسي في جلّ التجارب السياسية التي خاضها إلى حدّ الآن، سواءً في تونس أو المغرب أو مصر.

وبالتالي نتج عنه استبطان نوعاً من التوجّس وكذا تراكم الارتياب والتردد لدى جُلّ الأنظمة العربية من مشاركته السياسية، وهو توجّس لم يكن وليد التجارب السياسية لهذه الأحزاب، بل هو توجّس رافق تاريخياً تشكّل مفهوم الدولة ككل، إذ يمثلون بالنسبة للسلطة حاجزاً أمام استكمال المسار السياسي الحَدَاثي، مما ترتب عنه معركة معلنة وخفيّة بين هذه الأحزاب وتوجهات السلطة في البلدان العربية.

والمعركة المعلنة تكفلت بها التوجهات العلمانية، أمّا الخفية فكانت من اختصاص البُنى العميقة للدولة التي تخشى صعود وتسلّم الإسلاميين للحكم، فما هي مبررات ذلك؟

إن التوجه العام لنمط السلطة في بعض الدول العربية ينطلق من مسلمة مفادها أن الإسلام السياسي لا يتوافق مع المنطق الديمقراطي المؤسس للدولة الحديثة، ومن ثم فإن توجهات السلطة تحاكمهم بما يضمرون لا بما يعلنون، بأفقهم الإسلامي المأمول الذي في الغالب يرتبط بأمل تكرار التجربة السلفية في صورتها النقية، الخالية من شوائب التحديث الغربي، هذا المأمول الذي يظل يتسرّب من خطاباتهم بشكل محتشم إن كانوا في دفّة الحكم، لكنه يطفو بشكل ظاهر، إن هم كانوا خارجه.

رغم أن عملية انخراط هذه الأحزاب الإسلاموية في الفعل السياسي أفرزت مرونة ذاتية في تغيير بعض المنطلقات، إلا أنها في المقابل أبانت عن حربائيةٍ ساهمت بشكل ما في فشلها.

وهذا ما يجعل الدولة تتوجّس بشكل مسبق من قبولهم المشاركة السياسية وتعتبرها مجرد مناورة أو العمل وفق مبدأ التغيير من الداخل عوض الإقصاء والتهميش، الذي قد يطالهم وإن هم أعلنوا عن توجهاتهم بشكل صريح.

وعلى سبيل المثال، فشل تجربة “الإخوان” في مصر كان لها أبعاد مهمة في توجهات “حزب العدالة والتنمية” في المغرب نحو مرونة وانصياع أكثر ومحاولة تجنّب قدر المستطاع الاحتكاك أو مواجهة الدولة، مما يجعل الحزب يتّخذ موقف الدفاع والتبرير المستمر، قصد تقديم صورة مقبولة لدى السلطة تفادياً للدخول في مواجهة قد تُزيحه عن الساحة السياسية، وتحدّ من تحركاته على المستوى الاجتماعي أو المدني أو السياسي.

الأمر الذي جعل عملية التوظيف الديني من طرف الحزب الإسلاموي مسيّج بالحكامة السياسية التي ترسمها الدولة ولا تعكس استقلالية واضحة أو فعلية تمنحهم إمكانية إعلان منطلقاتهم الفكرية بشكل مباشر، فصار النص الديني يُقرأ على ضوء الواقع وليس العكس، رغم أن هذه القراءة تبدو ظاهرياً معطى إيجابي يعبّر بالمجمل عن تماشي النص الديني والسياق التاريخي المرتبط بالراهن العربي، إلا أنه انسياقٌ مشكوكٌ فيه أمام ممارسة حربائية يُرجّح في الغالب أنها ناتجة عن الخوف من الإقصاء السياسي وليس تغييراً فعلياً في منطلقاته.

مظاهرات سابقة ضد حركة النهضة الإسلاموية في تونس- “الصورة من الإنترنت”

فالتجارب التاريخية لهذه التوجّهات برهنت عن زئبقيتها السياسية مما جعل توجهات السلطة السياسية تحاول قدر المستطاع أن تمارس رقابة ووصاية سياسية استباقية تتحكم قدر الإمكان في المشهد السياسي، هذه الوصاية التي تمارسها بمساعدة التيار العلماني بدعوى لاديموقراطية هذه الأحزاب الإسلامية، مما يرسم بشكل عام أبعاد معركة مُعلنة بين الدولة بما هي الضامن لاستمرار المسار الديموقراطي وتوجّهات هذه الأحزاب التي تصنّف بلاديموقراطيتها، رغم أن هذه الأحزاب تحتكم للعملية الديموقراطية في العمل السياسي.

إلا أن هذا الانصياع لهذا الواقع يُعتبر انصياعٌ ظرفي يتحين الفرصة للانقضاض على السلطة وإعادة الأمجاد الدينية.

إذن، رغم أن عملية انخراط هذه الأحزاب في الفعل السياسي أفرزت مرونة ذاتية في تغيير بعض المنطلقات، إلا أنها في المقابل أبانت عن حربائيةٍ ساهمت بشكل ما في فشل هذه الأحزاب الإسلاموية في التجربة السياسية التي خاضتها والتي مثّلت فرصةً تاريخية لبلورة نموذج واقعي للتفاعل ما بين الأرضية الحَدَاثية التي تمثّلها الدولة والتصوّرات المسبقة التي تحكم توجهات ومنطلقات هذه الأحزاب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4.1 8 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات