منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، بعد الهجمات المباغتة التي شنّتها حركة “حماس” ضد إسرائيل في قطاع غزة، وبدأت من جديد تعود للسطح ملامح الأزمة والصراع أو التنافس والتباين في الرؤى بين جناحي الحركة الفلسطينية المصنّفة على قوائم الإرهاب. وما بين الجناح السياسي والعسكري مسافة فاصلة على أكثر من مستوى، حيث إن كلّ جناح له ارتباطاته الإقليمية ويشتبك بناءً على ذلك في مصالح مشتركة، ما يؤدي في المحصلة إلى جملة خيارات ونتائج تصل حدّ الصِدام مع الجناح الآخر وتصدّع في بنية التنظيم. وكانت هناك مؤشرات على هذا التصدع في البناء التنظيمي بين الجناح العسكري والسياسي في مرحلة ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي في محطات مختلفة، وقد جاء الحادث الأخير ليجعلها في الواجهة من جديد.

كما في كل التنظيمات الإسلاموية والتي تصف نفسها بأنها “مقاومة”، وتنتمي لهذا التيار المسمّى “إسلام سياسي”، هناك دائماً عدّة أجنحة وانقسامات داخلية، بعضها يميل للتشدد والآخر براغماتي يؤدي أدواراً سياسية تفاوضية، لكن في حالات معينة تكون هناك أجنحة لها ارتباطات خارجية وتحظى بدعم سياسي أو مالي، بما يفرض عليها أجندة لا تكون معلنة حتى عن باقي التنظيم. هذا تحديداً ما حدث في حرب غزة، حيث إن الجناح العسكري قد أخفى أو بوجه أدق باغت الجناح السياسي بالعملية في غلاف غزة والهجوم على المستوطنات.

صراع داخل أجنحة “حماس”

وفي غضون أيام قليلة من اندلاع هجمات “طوفان الأقصى”، كشفت صحيفة “ذا ناشونال”، عن مسؤولين أمنيين مصريين، تأكيدات بعدم علم قادة مكتب الجناح السياسي للحركة بترتيبات الهجوم، ونقلت عن مسؤول أمني مصري قوله إن “ما يسمى بـ القادة التاريخيين لحماس الذين يعيشون في المنفى علموا بالعملية لأول مرة من القنوات الإخبارية التلفزيونية مثل أي شخص آخر”.

ما بين الجناح السياسي والعسكري داخل “حماس” مسافة فاصلة على أكثر من مستوى، حيث إن كلّ جناح له ارتباطاته الإقليمية ويشتبك بناءً على ذلك في مصالح مشتركة- “رويترز”

بالتالي، فإن ما كشفت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، قبل أيام، بشأن وجود انقسامات داخل الحركة على خلفية “اتفاق وقف إطلاق النار” ليس أمراً خارج النسق العام، بل إن التباين في الرؤى بين يحيى السنوار وإسماعيل هنية، لم يعد من الممكن السكوت عنها، وقد بلغت حدّ لا يمكن إخفاؤه أو التستّر عليه. وقد أعلنت الحركة إنها عطّلت مشاركتها في محادثات وقف إطلاق النار بغزة، حيث إن زعيم الحركة بقطاع غزة يحيى السنوار، له مطالب متشددة بخصوص ضرورة التزام إسرائيل بمسألة وقف نهائي للقتال، وهو ما يجعله على الضفة الأخرى من ترتيبات أو مشاورات التفاوض التي يقودها قادة “حماس” الآخرين، لا سيما قادة المكتب السياسي ومنهم إسماعيل هنية.

ووفق موقع “الحرة”، استبعد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نهاية الأسبوع الماضي، إمكانية التوصّل لإطلاق نار مؤقت في قطاع غزة بحلول شهر رمضان. وقال بايدن في حديث للصحفيين، قبيل خطاب مرتقب في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأميركية، إن التوصّل لاتفاقٍ يخصّ وقف إطلاق النار بحلول رمضان “يبدو صعباً”. كما عبّر الرئيس الأميركي عن قلقه إزاء العنف في القدس الشرقية بدون التوصّل إلى وقف لإطلاق النار. 

ووفق “معهد واشنطن” لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن السنوار غير مستعدٍّ كثيراً للتوصّل إلى تسوية، ويبدو أنه يفضّل قبول الموت على المنفى في الخارج، وهي النتيجة التي تتعارض مع مبادئ “حماس” ومبادئه. وعلى المدى القصير، وبسبب نظره إلى الرهائن باعتبارهم بوليصة التأمين الخاصة به، فإنه لن يُظهر أي اهتمام بإطلاق سراحهم جميعاً- على الأقل ليس بسرعة.

وفي حين أن الهدف المشترك الذي يسعى السنوار وخالد مشعل إلى تحقيقه، هو إقامة دولة فلسطينية إسلامية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، إلا أن وسائلهما المفضلة للقيام بذلك لطالما كانت مختلفة، بحسب المعهد الأميركي، موضّحاً أنه “على الصعيد الجيوسياسي، يميل رئيس حركة حماس في الخارج، خالد مشعل إلى التودد إلى الدول العربية السّنية، مبتعداً عن (محور المقاومة) الشيعي الذي تقوده إيران، في حين ينظر السنوار إلى هذا المحور كركيزة استراتيجية وشريك كامل في الحرب ضد إسرائيل. فضلاً عن ذلك، يختلف مشعل عن السنوار في اعتقاده بأن المقاومة قد تتخذ أشكالاً متعددة لا تقتصر على العنف”.

اللعب على وتر الانقسامات والضغوط الأميركية

سبق للسنوار وصرّح في مؤتمر “رواد بيت المقدس” في أيار/مايو العام الماضي، أن “حماس” لا تخوض المعارك عبر السلاح والمقاومة فقط بل تديرها في الداخل والخارج بحزم واقتدار، لافتاً إلى أن “تكتيكات المقاومة وأعمالها والمواجهة من هنا وهناك من أجل التجهّز لمعركة التحرير..”.

ووفق مسؤولينَ مصريينَ، لم تكشف الصحيفة الأميركية عن هوياتهم، فإن يحيى السنوار يلعب على وتر الانقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية، وكذا الضغوط الاميركية المتزايد، ويرى بأن هذا الشيء يجعل الحركة متقدمة ولها وزن أكبر في مسار التفاوض ويعزز موقعها التفاوضي، ومن ثم، يضغط بشدة لفرض إرادته وتخفيف الضغط عن القطاع، والمطالبة بالانسحاب الكامل ووقف دائم لإطلاق النار.

الخلاف القائم بالفعل بين الجناحين، له جذور أبعد من المعركة الحالية وأعمق من الظاهر، وهي معركة “وجود” تترتب على أساسها مصير ومسار “حماس” ومن يقودها ومن يملك مفاتيح القرار فيها.

مصادر فلسطينية ولبنانية متطابقة مطّلعة لـ”الحل نت”

وألمحت الصحيفة الأميركية إلى جانب من تلك التوترات من خلال خطاب كامالا هاريس نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد جاء في خطابها الأخير، الأحد الماضي، مطالبة بضرورة وقف حاسم لإطلاق النار لمدّة ستة أسابيع. فيما يواصل المسؤولون بالولايات المتحدة كما في دول الوساطة بالشرق الأوسط، جهودهم نحو التهدئة وضمان تدشين هدنة قبل الدخول في شهر رمضان.

لكن المسؤولين ذاتهم كشفوا عن تخوّفاتهم من تعمّد يحيى السنوار تعطيل أو تقويض سبل التفاوض، وأن يميل إلى الاستعانة بشهر رمضان ورمزيته الدينية لحشد الدعم والتعبئة العربية والشعبية لـ “حماس”، وبالتالي، تكون النتيجة المريرة هي انفجار الأوضاع والتوترات من جديد في الضفة الغربية والقدس. 

ونقلت الصحيفة الأميركية عن مسؤول في “حماس” ومسؤولين مصريين، بأن قطر هددت باحتمالية طرد قادة “حماس” من البلاد في حال لم ينجحوا في الضغط على قادة الحركة بالقطاع والقبول بالتهدئة ومسار التفاوض القائم.

معركة “وجود”

وبحسب مصادر فلسطينية ولبنانية متطابقة مطّلعة، فإن الخلاف القائم بالفعل بين الجناحين، له جذور أبعد من المعركة الحالية وأعمق من الظاهر، وهي معركة “وجود” تترتب على أساسها مصير ومسار الحركة ومن يقودها ومن يملك مفاتيح القرار فيها، وقد أوضحوا لـ”الحل نت” أن “المجموعة التي يتزعمها يحيى السنوار وممتدة حتى صالح العاروري في لبنان قبل اغتياله بغارة إسرائيل في ضاحية بيروت الجنوبية مطلع العام الجاري، تنتهج فكرة الانتماء داخل مسمى تيارات قومية فلسطينية وذلك بخلاف المعنى الآخر الذي يتبناه هنية وخالد مشعل من خلال الأممية الإسلامية. ومن ثم، تقف الحركة نحو مبدأ توسيع الصراع في الداخل وضرورة تحقيق جملة انتصارات لكن الأهم من كل ذلك بروز الدور المركزي لهذا الاتجاه وتقويض باقي التيارات، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، حيث إن مبدأ السنوار يتماثل مع رؤية السلطة ويحاول أن يبين عجز الأخيرة وشيخوختها أو ضعفها واكتساب شرعية من الأحداث على طريقة ما فعل حزب الله بعد تموز/ يوليو 2006”.

الطريق إلى وقف الحرب نهائياً أو حل الدولتين، سيكون محفوفاً بالعقبات، وبالطبع ثمن كل ذلك لن يدفعه في نهاية المطاف إلا المدنيون- “رويترز”

وتقول المصادر، إن الارتباط مع إيران أو ما يُعرف بـ”محور المقاومة” يفرض هذا التوجّه، بما يجعل جهود الوساطة المصرية والقطرية أمام معضلة حقيقة، والأكثر خطورة من ذلك هو مستقبل غزة الذي أصبح مرتهناً بقوى غير معتدلة.

وقد أشاروا لـ”الحل نت” إلى أن هذا الصراع له أبعاد بترتيبات إقليمية أخرى حيث “ابتلاع حماس من قِبل إيران، وتحوّلها إلى ذراع يحقّق لها أجندتها، وقد ساعدت طهران الحركة في لبنان أن تخوض معركة شرسة مع السلطة وحركة فتح في المخيمات اللبنانية قبل اندلاع الحرب في غزة بوقت وشيك، حيث كانت تلك الأحداث بمثابة بروفة للتحضيرات القادمة والتي تهدف في جزء منها إلى خفض وإنهاء دور فتح في مقابل مركزية دور حماس وبعد ذلك إضعاف وتهميش جناح من أجل تقدّم الجناح الولائي. هناك تكتل سُنّي تستحوذ عليه طهران وتجمعه في طاعة الحرس الثوري وحدث ذلك مع الجماعة الإسلامية بلبنان ومع الحزب الإسلامي العراقي وهما أجنحة الإخوان وفروعهما في البلدين”. 

وهنا، يشير “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”، أنه كان لفوز السنوار دلالات مهمة على مستوى العلاقات الخارجية للحركة؛ فقد أشار فوز السنوار إلى ترجيح رؤية الفريق المؤيد للعودة إلى إيران، والذي كان يقوده السنوار بالإضافة إلى محمد الضيف وباقي قيادات كتائب القسام. وقد استند هذا الفريق في دفاعه عن رؤيته تلك إلى العديد من المبررات، والتي تلخصت في أن أولويات الحركة تقتضي تعزيز مكانتها العسكرية، وأنه لا يوجد بديل يمكن أن يحلّ محل الدعم الإيراني للقسّام مالياً وعسكرياً ولوجيستياً.

إذا لم يكن هناك توافق بين الجناح العسكري والسياسي لـ”حماس”، فإن ذلك يعني انهيار جهود الوساطة وعدم التوصل إلى أية هدنة، أو قد تكون هناك هدنة مؤقتة، لكن حل الأزمة كاملة قد يكون “صعباً” في ظل هذا الصراع داخل الحركة.

كذلك “رأى فريق السنوار أن الحركة لم تحظَ بمميزات ملموسة من تقاربها مع الرياض، وذلك منذ زيارة وفد حماس برئاسة خالد مشعل للمملكة العربية السعودية في صيف عام 2015، والتي التقى خلالها بالملك سلمان. كما يرى هؤلاء أيضاً أن دعم محور السعودية الإقليمي هو دعم مؤقت ومرهون بحالة السيولة التي تشهدها التحالفات الإقليمية، وأنه يقتصر في أفضل الأحوال على بعض الانفراج المحدود في الأوضاع المعيشية داخل القطاع. كذلك فإن موازين القوى الإقليمية بين إيران والسعودية كادت أن تختل على نحو ملحوظ مع أواخر عام 2016 لصالح المحور الإيراني في مقابل تراجع المكانة الجيوبوليتيكية للسعودية على خلفية تطور مختلف الملفات موضوع الخلاف، سواء في كل من اليمن وليبيا، أو في سوريا بشكل رئيسي خاصة مع التفوق النسبي الذي أحرزه تحالف النظام السوري مع روسيا وإيران وحزب الله”.

في المحصلة، إذا استمر هذا الخلاف أو الصراع داخل “حماس” على هذا المنوال، فإن ذلك يعني أن جملة من السلبيات سوف تطال مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية بشكل عام، سواء في الوقت الحالي أو على المدى المتوسط والبعيد. على سبيل المثال، حتى الآن لم يتم التوصل إلى هدنة ما بشأن وقف إراقة الدماء في قطاع غزة الذي بات شبه كومة من الركام، وبالتالي إذا لم يكن هناك توافق بين الجناح العسكري والسياسي لحركة “حماس”، فإن ذلك يعني انهيار جهود الوساطة وعدم التوصل إلى أية هدنة، أو قد تكون هناك هدنة مؤقتة، لكن حل الأزمة كاملة قد يكون “صعباً” في ظل هذا الصراع داخل الحركة، وبالتالي الطريق إلى وقف الحرب نهائياً أو حل الدولتين، سيكون محفوفاً بالعقبات والمزالق الكبرى، وبالطبع ثمن كل ذلك لن يدفعه في نهاية المطاف إلا المدنيون.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات