في الفيلم المصري “كشف المستور” للمخرج عاطف الطيب وتأليف وحيد حامد، تبرز تلك الإشارة المخيفة المفزعة التي تقبض على مسام الحياة وتعني الموت. الإشارة كانت في “الدولة الجديدة” التي بشر بقيامها الفيلم في لحظة مبكرة عام 1994، وتعني دولة الإسلاميين الوشيكة مع صعودهم المطرد وقتذاك، ومحاولاتهم المستمرة للقفز على الحكم.

وبعيداً عن ملابسات وتفاصيل الفيلم المهم من الناحية الجمالية الفنية، فإن الشاهد الرئيسي كان ملمح القتل والخوف وسيادة الرعب والتعاسة والجهل والخرافة، ثم في النهاية الموت العدمي من دون أفق.

الإسلام والفن

هل يصلح الفيلم أن يكون مدخلاً للعنف الإسلاموي؟ ربما السينما علامة مهمة توثق لنا الصراع المحتدم بين الفن والتيار الأصولي الذي يحاصر أي زاوية جديدة وممكنة للحياة ويمنحها أفرادها القدرة على الوعي المنفتح عوضاً عن الضيق والانغلاق. بل يهدد ويحول دون انتشاره. العلاقة بين الفن والإبداع من جهة وجماعات الإسلام السياسي من جهة أخرى قائمة على التكفير والملاحقة. الفنان المصري عادل إمام في ذروة التصعيد الإسلامي ضد الفن في نهاية ثمانينات القرن الماضي زار محافظة أسيوط في صعيد بمصر لمجابهة عنف هذا التيار الذي رفض عرضاً فنياً كانت تقدمه إحدى الفرق المسرحية وذهب لتقديم الدعم لهذه الفرقة.

صناعة الموت كانت وما تزال ضمن الأهداف المركزية للجماعات الدينية المتشددة، ولم تكن هذه الصناعة سوى بتغذية الأفكار المتخلفة والوهمية والمزعومة عن الآخر.

من هذه الزاوية يمكن محاولة فهم حجم العنف الذي يكتنف أفراد هذا التيار، سواء كان العنف من أجل استعادة حلم الخلافة الإسلامية، هذا الحلم المزعوم الخيالي، أو لملاحقة شخص معادي لتيارهم المتشدد أو جماعة تتصدى لإرهابهم. الفن يعني الخيال بينما السينما مجال متسع سحري يجعل المشاهد على حواف بعيدة المدى وخارج نطاق الواقع بإحباطاته وأزماته، في حين الجماعات المتأسلمة لا تملك ثمة خيال أو أفق فتصطدم دوماً بشكل عنيف ودموي بكل عناصر الحياة.

كانت السينما في فترة الثمانينات والتسعينات والعقود اللاحقة معنية بشدة بهذا العنف الديني وخطاب الكراهية ضد المسيحيين والتيارات المدنية والفن والأدب وكافة أشكال الإبداع. بداية من ظاهرة الأسلحة البيضاء في أوساط الطلبة بالجامعة لضرب الحركة الطلابية التي شهدت حراكاً ثورياً يسارياً وليبرالياً، وتعطيل الأنشطة الفنية والثقافية قسراً، ثم الاعتداء على الفتيات غير المحجبات وفرض الفصل بين الجنسين في مدرجات التعليم مروراً بالاعتداء على محال المسيحيين وإشعال فتيل الفتنة الطائفية وحتى استهداف مفكرين وأدباء مثل نجيب محفوظ وفرج فودة.

صناعة الموت كانت وما تزال ضمن الأهداف المركزية للجماعات الدينية المتشددة، ولم تكن هذه الصناعة سوى بتغذية الأفكار المتخلفة والوهمية والمزعومة عن الآخر سواء كان هذا الآخر محلي أو أجنبي. بمعنى سواء كان المواطن من دين آخر أو نفس الدين لكنه يختلف في أفكاره وقيمه وسلوكياته عن النمط الذي يتبناه الإسلاموي المتشدد والمتعصب المحمل بكراهية وعنف كبيرين.

ففي “فيلم الإرهابي” عام 1994 ظل الشاب المنتمي للجماعات الإسلاموية وقام بأداء دوره الفنان عادل إمام، يحلم بلحظة اغتيال مفكر تنويري يتصدى لأفكار جماعته الطائفية والدموية بينما هو كمن على عينيه غمامة تؤدي به للعماء. وهذه الغشاوة لأنه يعيش تحت وطأة التربية الممنهجة فكرياً وعقائدياً وتفصله عن العالم. وعندما يتعرض لحادث مباغت يجعله يمضي في عالم البشر من دون الطريقة المراوغة والمصنوعة في أدبيات التكفير، يكتشف الحقيقة من دون حواجز ورتوش ويتم تصحيح المفاهيم ويسترد إنسانيته وتسامحه.

“الخلافة المزعومة” عبر الدراما

مسألة الخلافة المزعومة تروج لها تركيا من خلال سياسات رجب طيب أردوغان، وأهداف الأخير المشبوهة وأجندته الأيدولوجية والإقليمية. ومن خلال دراما تعمد إلى تمجيد تلك الفترة باعتبارها تختزن انتصارات “المسلمين”. وهي محاولة مشوهة وتزييفية للتاريخ لاستعادة “العصر الذهبي” الذي كان في حقيقته ظلم وعنف و”استعمار ديني” كما وصفه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة حتى سقطت تلك الخلافة في عام 1924. غير أن استعادة حلم الدولة الإسلامية أمراً مغرياً ويشكل فرصة للاستقطاب السياسي والديني بين التيارات الإسلامية.

من بين الأعمال التركية التي قامت بتزييف التاريخ لصناعة عقلية أيديولوجية تتناسب مع ديكتاتورية الإسلامويين ومنهم أردوغان، مسلسل “قيامة عثمان بن أرطغرل”-“الصورة من الإنترنت”

تقريباً كافة التيارات الدينية المسيسة ترفع شعار إقامة الحكم والدولة الإسلامية بداية من التيار الأم الممثل في جماعة “الإخوان المسلمين” التي تأسست في مصر بعد سقوط الخلافة بنحو أربعة أعوام (عام 1928) ثم بدأت تشكل لها عدة أفرع تنظيمية في عواصم عديدة عربية وإسلامية وأوروبية والولايات المتحدة في السنوات والعقود اللاحقة مروراً بغيرها من التنظيمات مثل تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” وتنظيم “داعش”.

الخلافة العثمانية التي كانت حكماً سياسياً استعمارياً، تسبب في نشر الجهل وسرقة موارد البلدان التي سيطر عليها كما في مصر، بل وتسببت في نهب تراثها المادي والمعنوي والقبض على عمالها وحرفييها وتجريفها من كل عناصر قوتها الحضارية بحيث تبني حضارة الدولة المركزية للسلطة العثمانية في إسطنبول، تبدو في الدراما التركية المصنوعة للأهداف “الأردوغانية” لحظة تاريخية تعم فيها العدالة.

ومن بين تلك الأعمال التي قامت بتزييف التاريخ لصناعة عقلية أيديولوجية تتناسب مع ديكتاتورية الإسلامويين ومنهم أردوغان، مسلسل “قيامة عثمان بن أرطغرل”، و”عاصمة عبد الحميد” و”المؤسس عثمان”. وفي هذه الأعمال الدرامية التاريخية عن سيرة العثمانيين تتحول الصراعات بين الأشقاء والتي وصلت حد القتل بين الإخوة في إطار الصراع على الحكم إلى وداعة وتآلف وصناعة بطولات لا تنتهي بين “فرسان” لهم قيم.

فمسيرة الخلافة العثمانية التي تعمد الدراما إلى استعادتها مجدداً هي صناعة للموت وتمجيد للعنف وقد ارتبطت هذه الفترة التاريخية بأعمال عنف متوحشة بالخنق والسم فضلاً عن السيوف. تبدأ حوادث الاغتيال بالسلطان محمد الثاني الذي مات بالسم، بينما استمر حكمه في الفترة بين عامي 1444 و1481 ميلادياً، والثاني هو السلطان بايزيد الثاني، واستمر حكمه في الفترة ما بين عامي 1481م و 1512م، وقضى هو الآخر بالسم، وهكذا.. إلى أن مات السلطان إبراهيم بالخنق وليس بالسم كسابقيه.

وبخصوص المسلسل “عثمان بن أرطغرل” الذي يعد من بين الأعمال الضخمة، تفضح المرجعيات التاريخية التي وثقت لحكمه وفترة الخلافة العثمانية زيف ما قدمته الدراما التركية الحديثة لأهداف صناعة عقل سلفي ماضوي متشدد. وقد أسست الدولة بتنافس محتدم بين عثمان بن أرطغرل وعمه، انتهى بمقتل الأخير. كما اغتال السلطان مراد الأول شقيقه سليمان ليتمكن من الحكم. وبعد مقتل السلطان مراد بويع ابنه بايزيد الأول والذي كان أول قرار ينفذه هو اغتيال شقيقه يعقوب خنقا.

المستشرق النمساوي جوزيف فان هامر يذكر في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية”، أن السلطان محمد الفاتح تحدث بوضوح عن ضرورة تخلص السلطان، أي سلطان، من خصومه وأعداء المحتملين حتى ولو كانوا أشقاء وإخوة، بل قام بتقنين ذلك في ما عرف بـ”قانون نامة”. وجاء فيه: “وأي شخص يتولى السلطة من أولادي فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم”.

فالسلطان سليم الأول بن بايزيد الثاني عرف عنه قتل 17 من إخوته وأبناء إخوته، وفق أحمد بن يوسف القرماني في كتابه “أخبار الدول وآثار الأول”. فيما شرعن الفقهاء عملية القتل للخلفاء من خلال حديث منسوب للرسول في صحيح مسلم: “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه”.

هناك وفرة في أدبيات تلك التنظيمات للحديث والإشارة عن فكرة الخلافة، كما في رسالة “التعاليم” لمؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، وقد شدد على ضرورة أن تكون الحكومات “إسلامية بحق”. وقال بأهمية “إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة”.

هذه أول مبادئ صناعة الموت لدى جماعات العنف الديني وتيارات الإسلام السياسية المتشددة والأصولية. فبناء حلم تاريخي على أساس ديني، ومحاولة استعادة رفات الماضي الذي فقد صلاحيته يؤدي إلى التشنج والتعصب ويراكم أفرادا يعتقدون أن “الجهاد” ضرورة و”الاستشهاد” أمراً دينياً لتحقيق “دولة على منهاج النبوة”.

تغليب الانتماء الديني على الانتماء للوطن!

فيما يقول مرشد جماعة الإخوان المؤسس حسن البنا: “إن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس.. “. وحديث البنا يكشف عن صناعة أفراد لديهم الاستعلاء الإيماني على البشر بما يفترض معه الوصاية عليهم وإرغام الآخرين على طاعتهم، الأمر الذي يؤدي في النهاية للعنف والتكفير القتل ودوامة من التعصب والموت العبثي بلا نهاية.

وفي رسالة المؤتمر الخامس يقول حسن البنا: “الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، فالخليفة مناط بكثير من الأحكام في دين الله… ولهذا يجعل الإخوان المسلمين فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد وأن تسبقها خطوات”. ويبدو في خطاب البنا المتأسلم والعنيف بدايات صناعة العنف لدى الفرد الذي يراكم داخله خطابات كراهية من خلال منحه التفوق “الإلهي” على الآخرين من خلال فكرة الإيمان والدين فيقول عن خططه: “تبدأ بتكوين الفرد المسلم، ثم البيت المسلم ثم الشعب المسلم فالحكومة المسلمة، ثم الخلافة الإسلامية الكبرى التي تجمع ما مزقه الاستعمار”.

حسن البنا مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين”- “الصورة من الإنترنت”

شعار وحلم الخلافة لدى هذه التيارات مرتبط بما يعرف في أفكارهم وأدبياتهم بمرحلة “التمكين” السياسي التي ستكون لحظة وصولهم للحكم. وفي ظل حكم “الخلافة” تصبح “الأممية” الإسلامية في مقابل مبادئ وقيم الوطنية. بمعنى تغليب الانتماء الديني على الانتماء للوطن وتصبح الهوية الدينية أولوية وتسقط في مقابلها مبادئ المدنية والمواطنة. وهنا قال حسن البنا عن فكرة المواطنة: “أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.. “.

المواطنة التي تعني مساواة تامة بين البشر في الحقوق والواجبات على أساس مدني وقانوني ودستوري من دون فصل وتمييز على أساس القومية والهوية الدينية والطائفية أو الفصل على أساس اللون والعرق، تبدو ضرباً من الأوهام عند الجماعات الإسلاموية التي تؤسس للعلاقات بين الأفراد في “الدولة الجديدة” على أساس الأممية الإسلامية بينما تقوم بنبذ الآخر. هذا ما يمكن رؤيته في نماذج سينمائية عرضت للانقسام والشروخ الوطنية التي أحدثها تيار الإسلام السياسي في شكل فوضوي عنيف ودموي وتسبب في حوادث مريرة تم فيها الاعتداء على ممتلكات “أعداء الله” وفق تعبير أصحاب العمائم المتشددة.

وفي مشهد سينمائي لافت بفيلم “الإرهابي” يباعد المتشدد بينه وبين المواطن “المسيحي” وينظر له بامتعاض في حين أنه يتطلع لمباراة كرة القدم ويقوم بتشجيع الفريق الوطني بحماس مع باقي أفراد الأسرة المختلطة والجيران لكن الطرف المتشدد يبدو خارجاً عن هذا السياق ويحاول تبديده بغضب مكتوم.

كان سيد قطب شخصية أكثر حدة ومتشدداً في تصوراته التي يطرحها بشأن مفهومه عن الدولة الإسلامية، ويمكن أن ننظر بشكل سريع لمفهوم الوطن والدولة لدى ثلاثة أجيال إسلامية في جماعة “الإخوان المسلمين”، فنجد أن حسن البنا ذكر بشكل قاطع أن “لا وطنية في الإسلام” كما ورد في كتابه: “الدعوة والداعية” ثم جاء سيد قطب الذي قال: “ما الوطن إلا حفنة تراب عفن” بكتابه: “معالم في الطريق” وأخيراً المرشد السابق للجماعة محمد مهدي عاكف ومات عام 2017 قال في تصريح تلفزيوني: “طظ (طــز) في مصر”.

سيد قطب كانت عبارات التكفير لديه بخصوص الدول الوطنية والقومية والرأسمالية والشيوعية مباشرة لا تحتمل الغموض. وذلك على خلاف حسن البنا الذي كانت كلماته مستترة في ثوب ناعم ورقيق وتتخفى في عبارات ملغزة تحتمل التأويل أو يقول الشيء بالإشارة والتلميح.

وفي الفصل التمهيدي لـ”معالم في الطريق” الذي كتبه سيد قطب يقول: “تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها (فهذا عرض للمرض وليس هو المرض).. لكن بسبب إفلاسها في عالم “القيم” التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نمواً سلبياً وتترقی ترقياً صحيحاً”.

وهذا الإفلاس واضح كل الوضوح “في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه مايعطيه للبشرية من القيم بل الذي لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعد ما انتهت “الديمقراطية” فيه إلى ما يشبه الإفلاس، حيث بدأت تستعير ببطء وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي (أي الاتحاد السوفييتي سابقاً) وبخاصة في الأنظمة الاقتصادية تحت اسم الاشتراكية كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه.. فالنظريات الجماعية، وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عدداً كبيراً في الشرق وفي الغرب نفسه باعتبارها مذهب يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الأخرى تراجعاً واضحاً من ناحية “الفكرة” حتى تكاد تنحصر الآن في “الدولة” وأنظمتها، التي تبعد بعداً كبيراً عن أصول المذهب، وفق سيد قطب.

حيل صناعة الموت و”الجهاد”

مرة أخرى، نجد هنا ضمن حيل صناعة الموت و”الجهاد” لتطويق العقل الإسلامي المتشدد بالعنف كما تظهر في صورتها الفنية والسينمائية أو الأدبية، الحكم بإفلاس كل القوى القائمة، سواء الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي وبالطبع الأنظمة المدنية الليبرالية والديمقراطية والجمهورية. بالتالي فالمسلم ليس أمامه سوى دعوة “الإخوان المسلمين” واستعادة الإسلام للتاريخ. فوصف سيد قطب المجتمع بأنه قائم في “الجاهلية” والتي كانت أداة تكفير للحاكم والمحكوم بدون تمييز. وكان يقصد بتعبير الجاهلية أن المجتمع يعيش في اللحظة نفسها التي كانت عليها شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام.

بالتالي، فمن الواجب أن تكون نظرة المسلم هذا المجتمع مماثلة لنظرة الرسول والصحابة إلى مجتمعهم. وطليعة اليوم أي الفئة المؤمنة أو “العصبة المؤمنة” كما أسماها يجب عليها أن تسترشد بهذه القدوة أي النبي في تحديد أسلوب عملها. وعليها أن تقتضي بأسلوب الرسول “التكتيكي” على حد تعبير سيد قطب في “الانسحاب من المجتمع الذي يعيش فيه والاتصال به، وهو الذي اختار، على سبيل المثال، أن يهاجر من مكة إلى المدينة عندما وجد نفسه في موقف ضعيف، ليعود في النهاية فاتحاً للمدينة التي هجرها قبل ذلك وقد أضحى قوياً يملك جيشاً”.

وقال سيد قطب في كتابه: “إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي، قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده..”. ووفق قطب فإن هذه المجتمعات “اختزلت الحاجات الإنسانية إلى مثيلتها لدى الحيوان. تليها مختلف المجتمعات الوثنية وفيها تمارس الحاكمية العليا باسم (الشعب)، أو باسم (الحزب) أو باسم كائن من كان. وتأتي بعدها المجتمعات المسيحية واليهودية. ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة!. وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها. فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله  تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين حاكميه غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها.. وكل مقومات حياتها تقريباً”.

يبدو هنا مسار التشدد يأخذ منحى تصاعدي بالمعنى الدرامي. فسيد قطب كانت عبارات التكفير لديه بخصوص الدول الوطنية والقومية والرأسمالية والشيوعية مباشرة لا تحتمل الغموض. وذلك على خلاف حسن البنا الذي كانت كلماته مستترة في ثوب ناعم ورقيق وتتخفى في عبارات ملغزة تحتمل التأويل أو يقول الشيء بالإشارة والتلميح. فوصف المجتمعات القائمة في ظل الأنظمة القومية أو الاشتراكية أو الرأسمالية بأنها (جاهلية) بل قام بتكفير الحاكم والمحكوم.

المطالبة بالتمرد ضد الحكومات

فيما طالب سيد قطب بالتمرد ضد الحكومات لإقامة الدولة الإسلامية من خلال بناء ما أسماه “الجيل القرآني” و”العصبة المؤمنة” التي تتكفل بإقامة هذا الحكم بعد أن تتبنى الأفكار الدينية الصحيحة وفق قناعاته فيحدث لها ما أسماه “العزلة الشعورية” أي تتخلى عن أي مشاعر تجاه مجتمعها وأفراده حتى أسرتها وعائلتها تبتعد عنها طالما لا تتحد في رابطة الإسلام وفق قناعات الجماعة ومن هنا قال سيد قطب في كتابه: “معالم في الطريق ليس على وجه الأرض دولة مسلمة أو مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيها هي شريعة الله والفقه الإسلامي”.

لا يختلف ما ذكره الإخوان عن غيرهم من التنظيمات الإسلامية سوى في درجة التشدد. فنجد مثلاً أحمد الريسوني وهو رجل دين مغربي سبق وتولى رئاسة “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” وهو من بين زعامات “الإخوان المسلمين”، جعل من مطلب الخلافة وتحقيق الدولة الإسلامية مطلباً ثانوياً وليس مطلباً ضرورياً. وقال: “الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصاً على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر. وربما لم تزد الدولة بفضل جهودهم إلا بعداً وعسراً. وهكذا فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم”. وبالتالي هذه الدولة أو الخلافة بالنسبة للريسوني هي من ضمن ما يسميه “باب الوسائل”.

سيد قطب، إسلاموي والمؤسس الثاني لجماعة الإخوان- “إنترنت”

وفي محاضرة مسجلة وموثقة على المنصة الرسمية “للشيخ راشد الغنوشي” زعيم “حركة النهضة” التونسية (فرع جماعة الإخوان المسلمين في تونس) وأحد الشخصيات التونسية المؤسسة لتيار الإسلام السياسي يقول: “منذ نشأ الإسلام جمع بين الدين والسياسة، بين الدين والدولة، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو مؤسس الدين ومؤسس الدولة في نفس الوقت. وقد كانت البيعة الأولى للمجموعة التي قدمت من يثرب إلى مكة بيعة دينية للرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالله ورسوله، لكن البيعة الثانية في السنة الموالية كانت سياسية: أن يحموا النبي ومن معه إذا قدموا إليهم حتى بسيوفهم أن هوجمت المدينة. اسم “المدينة” هذا هو تعبير مهم جداً: كون هذا المكان كان يطلق عليه اسم “يثرب”، وأصبح يحمل اسم “المدينة” بما يدل بوضوح على أن الإسلام ليس ديناً فقط وإنما يحمل معنى حضارياً، فهو نقلة بالناس من مستوى البادية إلى المستوى المديني أو الحضاري، ولذلك اُعتُبِر من الكبائر التبدي بعد تحضر، بمعنى أنه أصبح يعتبر إثماً على الذين تحضروا أن يعودوا إلى البادية. ولذلك، لا عجب أن الإسلام مصَّر الأمصار، فحيثما حل أنشأ المدن، والمدينة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل عن أن الإسلام دين حضارة وليس دين بداوة. ولذلك، فإن أول مدينة أنشأها سميت بـ “المدينة” التي تستحق هذا الاسم بجدارة، إذ نقلت تلك القبائل المتناحرة من مستوى بدوي إلى مستوى حضري، أي مستوى الدولة”.

ويبدو في حديث راشد الغنوشي الذي يعود لعام 2015 وهي مرحلة صعود الحركة الإسلاموية سياسياً في تونس بعد أحداث “الربيع العربي” محاولات هادئة ومراوغة للربط بين “الإسلام” و”المدنية”. لكن الأمر اللافت هو خفوت نبرة التشدد المتخفية في جمل غير مباشرة وتبدو كما سبقت الإشارة ناعمة وهذا حال التيار الإسلامي مع بدايات مرحلة “التمكين” بخلاف لحظات الصدام أو الأزمات و”المحن” التي يتعرضون لها حسب توصيفهم.

كما وهنا تلميح بمعاني دينية مبطنة أن الخروج أو التمرد أو اختيار نمط حكم غير ديني هو من “الكبائر” الأمر الذي لا يختلف كثيراً عما وصفه سيد قطب الأكثر تشدداً بأنه “كفر” و”جاهلية”.

بل إن راشد الغنوشي ذاته مع أول صدام حقيقي وجاد لحكمه والذي يوصف بين مراقبين كثر في تونس بأنه “عشرية سوداء” وصف خصومه بـ”أعداء صعود الإسلام” بعد الربيع العربي بتونس وهم برأيه “يتجهون إلى سياسة شمشون… وتدمير البلاد حتى تخرج (النهضة) من مواقع السلطة”.. وأكد أن “الأمة التي تعتصم بدينها وتسير على صراط مستقيم” ستكون قادرة على المقاومة وتعزيز خط “الجهاد” لمقاومة الفساد والاستبداد.

وفي محاضرة راشد الغنوشي قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يصلي بالناس في المسجد، كان إماماً للدين، وفي نفس الوقت، كان إماماً للسياسة يقضي بين الناس، وكان يقود الجيوش، ويعقد المعاهدات، ويقوم بكل الإجراءات. منذ نشأة الإسلام وعبر امتداده التاريخي، لم يعرف هذا الفصل بين الدين والدولة، بمعنى إقصاء الدين عن الحياة. وظل المسلمون منذ العهد النبوي، وحتى يومنا هذا، متأثرين قليلاً أو كثيراً بنظرتهم إلى أنفسهم على أنهم مسلمون”.

حلم عودة الدولة الإسلامية

نجد أن حلم عودة الدولة الإسلامية ما هو إلا شعار له مضامين سياسية براغماتية وربما حتى انتهازية. فنجد في تركيا العلمانية مثلاً محاولات محمومة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الإشارة لفترة الخلافة العثمانية وهو ما أسماه مراقبون وباحثون بانبعاث سياسة “العثمانية الجديدة” وهي السياسة التي ترافقت مع تحول في الخطاب السياسي للرئيس التركي الذي يميل إلى نبرة دينية واضحة في دعم سياساته والهجوم أو الطعن في إيمان خصومه. فنجده مثلاً يقول بالبرلمان التركي تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019 عن تدخله في ليبيا وسوريا: “الأتراك يتواجدون في ليبيا وسوريا، من أجل حقهم، وحق إخوانهم في المستقبل”، وقال إن “الأتراك اليوم يتواجدون في جغرافيتهم احتراماً لإرث الأجداد، فهم من نسل (يونس أمره) في إشارة واضحة للقاضي العثماني الشهير”.

في فيلم “عمارة يعقوبيان” للروائي المصري العالمي الدكتور علاء الأسواني، نجد كل ما سبق من تزييف للوعي والعقل والتاريخ في عبارات سينمائية موجزة عندما يهتف في خطبة الجمعة الشيخ المتشدد عبر منبر المسجد وهو يقول لتحريض وتعبئة المسلمين الخاضعين لسلطته في استخدام لوجودهم داخل الحيز الديني الإيماني والصلاة لأغراض سياسية مؤقتة، حيث يردد: “إن حكامنا يزعمون أنهم يحكموننا بالشريعة الإسلامية ويطبقون الديمقراطية ويعلم الله أنهم كاذبون في هذا وفي ذاك. فالشريعة الإسلامية معطلة في بلادنا المنكوبة والدولة تتكسب من القمار وبيع الخمور والسياحة الوافدة الفاجرة.. والأدهى من ذلك أن الدولة تحول هذه الأموال إلى مرتبات للموظفين فتطعم شعبها من حرام وتكسبه من حرام وتحل علينا لعنه الحرام”. ثم يواصل الشيخ وعروقه تنتفض من الحماس وفرط التعصب والتشدد فيقول: “إنني هنا أقولها جلية صريحة لا لبس فيها لا نريد أمتنا ديمقراطية ولا علمانية ولا اشتراكية بل نريدها أمة إسلامية إسلامية إسلامية فيرددها خلفه المصلون إسلامية إسلامية”.

ربما كان المشهد السينمائي ذكياً وهو يقطع المشهد على هتاف المصلين بعدما حرك حماسهم العنيف ضد المجتمع والدولة من دون أي إشارة لحدوث الصلاة التي هي أساس تجمعهم، فالسياسي هنا يغلب على الديني، بل إن رجال التعصب الديني يستخدمون الدين لخدمة السياسة ولا تخرج معاني الدين والإيمان عن فكرة كونها وسيلة لتحقيق الطاعة والإذعان، هذا فضلاً عن تحويل الصراع بين فئة المؤمنين وتصنيف الآخرين لكفار ينبغي قتالهم من دون رحمة فهم “حزب الشيطان”.

هذه المعركة المقدسة التي يبعث فيها قوى الإسلام السياسي الروح مجدداً لتكون روح شريرة تغتال الحياة، تواصل السينما تسجيلها في أعمال لافتة ومهمة لتكون التوثيق البصري الجمالي لمرحلة في التاريخ وفي الوعي بهدف التأمل. السينما في هذه الحالة تحاول أن ترد للإنسان هويته، بحيث تكون هوية إنسانية تشاركية وليست مقدسة تمارس التعالي وتتعقب الآخرين وتلاحقهم بالحساب والمسائلة وتفرض الوصاية عليهم.

تظل مسألة “الجهاد” في التراث الإسلامي المتشدد أو عملية صناعة الموت أو “الميتة الحسنة” بتعبير مرشد جماعة الإخوان المؤسس حسن البنا من الأمور التي تعكس إشكاليات عديدة بعضها مرتبط بإسقاط وتجاهل السياق الزمني والتاريخي للسور الحربية في القرآن باعتبارها لم تكن تشريعاً أو تجعل من الجهاد ركن في الدين، إنما توثيق لحوادث مر بها الدين في فترة النشوء والتكوين، بجانب المعنى اللغوي الأشمل لكلمة الجهاد والذي ليس بالضرورة يعني صداماً دموياً فوضوياً وصراعاً مريراً بين فريقين متناحرين أحدهما يحمل راية الإسلام والآخر يحمل راية الكفر وينبغي أن ينتهي ذلك الصراع بـ”نصر من الله” وإعلاء راية الدين والرماح والسيوف تلمع أو تقطر بدماء الضحايا…

يتعين التعاطي مع هذه الحوادث التاريخية التي كونت الإمبراطورية الإسلامية على اعتبار أنها حملات عسكرية توسعية، تماثل غيرها في التاريخ بينما تهدف إلى تعزيز موقعها من مخاطر ملحة تواجهها مع إمبراطوريتي الفرس والروم حينذاك.

هذا الخيال الدموي للإسلام السياسي يجري تضخميه والترويج له وتغذيته ببرامج عديدة تربوية وسياسية وعقائدية وفنية، تصنعها جماعات متطرفة وفقهاء متشددون يلعب فيها هؤلاء جميعاً على وتر الشعور بالهزيمة ربما التاريخية والإحساس بالضعف والانسحاق. فالجهاد بمفهومه الرائج في أدبيات المتشددين وتبنيه بسياقه الحربي والعسكري جاء مباشرة نتيجة التأويل المتعسف للآيات المعروفة بآيات السيف.

وفي كتابه: “تجفيف منابع الإرهاب” يقول المفكر السوري محمد شحرور إنه جرى تبني هذا التصور المغلوط والمشوه للجهاد من قبل جميع التنظيمات والأحزاب الدينية والمجموعات المسلحة الساعية تحت لافتات ضخمة الانقضاض على الحكم في مختلف الأزمنة والعصور. ووظف البعض الفهم المغلوط والمشوه للجهاد والقتال، الذي تمتلئ به كتب الفقه والتراث واستندت إليه جميع عمليات الغزو التوسعية بدعوى نشر الدعوة، لدرجة أدت إلى التشهير بالدين الإسلامي واتهامه بأنه دين السيف والعنف.

وفي النهاية، يتعين التعاطي مع هذه الحوادث التاريخية التي كونت الإمبراطورية الإسلامية على اعتبار أنها حملات عسكرية توسعية، تماثل غيرها في التاريخ بينما تهدف إلى تعزيز موقعها من مخاطر ملحة تواجهها مع إمبراطوريتي الفرس والروم حينذاك، ويمكن القول إن فائض القوة بعد ذلك وانحسار الإمبراطورية الرومانية جعل الإمبراطورية الإسلامية تحل محلها وتملأ هذا الفراغ كانتقال طبيعي في حركة التاريخ.

إذا وصلنا إلى هذا الفهم العقلاني والعلمي بغض النظر عن الانحيازات المسبقة نكون قد وضعنا لبنة في مسار شاق وممتد نحو مراجعة تاريخنا واللجوء لعقل منفتح يؤمن بالجمال والحياة وليس التعصب والموت. رد الاعتبار للإنسان الذي بمقدوره الاندماج في أسرة وطنية متنوعة لا يشعر حولها بالغربة أو الاغتراب أو رغبة محمومة في إرغامهم على نموذج قسري يعتقد أنه له قداسة ما، ويجعل بالتالي على هذا الأساس من كل البشر صيغة واحدة معرفياً وسلوكياً ولا يقبل بالتنوع والاختلاف. هذا ما انتهى إليه فيلم “الإرهابي” عندما واجه الأخير جماعته بخطابهم المتشدد ورفض دعاوى القتل والعنف والتكفير ونجاح “تيمة” الحب في أن تكسر جدران صلبة من الجمود وانفتاح أفقه على عالم طبيعي ليس فيه التربص والعدوان. انتهى الفيلم والإرهابي ينادي أفراد الأسرة التي احتضنته بعد حادث أمام منزلهم، وهي ليست أسرته البيولوجية، إنما جماعته الوطنية ومجتمعه الذي كان يتم إعداده لقتالهم وتدميرعم، بينما تخترق رصاصات جماعته الأيديولوجية جسده ويتبادلون الرصاص مع أسلحة الشرطة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات