إن البهائية من العقائد الجديدة التي عرفها المجتمع العربي تقريباً في منتصف القرن التاسع عشر، وبدأ حراك التبشير بها من إيران منشأها الأصلي، ومن ثم توسعت قاعدة التعريف بهذا الدين إلى كل البلدان المجاورة كالعراق والأردن والشام وفلسطين ومن ثم مصر وصولاً إلى تونس التي عرفت البهائية سنة 1921 عن طريق الشيخ الأزهري محي الدين الكردي، الذي آمن برسالة “حضرة البهاء” كما يدعونه أتباعه.

وهنا نريد أن ننوّه إلى أن التبشير لا نقصد به الجانب الديني في الديانة المسيحية وإنما في علم الاجتماع نعتمد على هذا المصطلح على اعتبار أنه آلية من آليات التحوّل الديني. وعلى العموم، لن نخوض في مسألة إذا ما كانت البهائية دين أو عقيدة، أو طائفة، بل سنتعامل على أنها حقيقة اجتماعية خاصة وأن البهائيين التونسيين اليوم فيهم من يمثّل الجيل الثالث والرابع للعائلات اعتنقت البهائية منذ أكثر من قرن.

البهائية وإشكالية الاعتراف

تُعد إشكالية الاعتراف من أكثر المشاكل التي تواجه البهائيين في تونس كغيرهم من الأقليات الأخرى باستثناء الديانة اليهودية التي آلف التونسيون وجودها في نسيجهم الاجتماعي بل وتعايشوا معهم رغم العديد من التحفّظات، لكن المهم وكما أشرنا في بعض كتاباتنا سابقاً أن المجتمع التونسي جاهل بتنوعه الديني، لذلك ومع تفجر الفضاء العام بالحركات الدينية المختلفة ومنها البهائية والتي طالب أتباعها آنذاك بمنحهم ترخيص لتأسيس جمعية خاصة بهم إلا أن طلبهم قوبل بالرفض. 

مجموعة من البهائيين بتونس سنة 1927- “الموقع الرسمي للبهائيين في تونس”

وهنا نريد أن نلفت إلى أن العديد من البهائيين كانوا فاعلين في صلب الحركة الوطنية في “الفترة الاستعمارية”، كما تم عقد أول مؤتمر للمحفل البهائي في تونس سنة 1956، لكن المنعرج الحاسم في العلاقة بين السلطة التونسية والبهائيين كان سنة 1969 عندما سنّ النظام السياسي قانون حول تنظيم “الاجتماعات العامة والمواكب والاستعراضات والتظاهرات والتجمهر”، الذي تم بمقتضاه حل المحفل الروحاني الإقليمي في شمال إفريقيا الذي كان يتخذ من تونس مقراً له.

غير أن المحفل أعيد فتحه في عام 1972 الذي شهد انتخابات في تونس، قبل أن يعاد غلقه نهائياً في عام 1984. وكغيرها من الحركات الدينية، فإن الثورة مثلت فرصة هامة للبروز والتعريف بأنفسهم للمجتمع التونسي الذي تجهل نسبة كبيرة منه هذه الديانة، لذلك ومع أول ظهور تلفزيوني لهم سنة 2015 تعرضوا للكثير من الثلب والوصم، رغم أن التونسيين يجهلون فعلياً شعائرها وتشريعاتها الدينية.

وهذا ما أكده تقرير الحالة الدينية الذي أنجز من طرف مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” والذي امتد من سنة 2011 إلى 2015، وفيه أجريت دراسة على 1000 عينة من التونسيين الذين سألوهم عن الديانة البهائية فأكد ما نسبته 95 بالمئة من تونسيين أنهم لم يسمعوا بها من قبل، كما أكدوا بنفس النسبة رفضهم لهذه الديانة ولأتباعها باعتبارهم “مرتدين” بالمفهوم الفقهي وخارجين عن الإسلام، وسوسيولوجيا هنا يتحدد الدين “باعتباره جمعياً واجتماعياً، فهو ينشأ في النظام الثقافي للجماعة ويضفي عليه خصائصه ويصبح من أهم العوامل البانية للهوية الثقافية للجماعة. إن انتماء الدين إلى الظاهرة الثقافية من منظور سوسيو-معرفي يقوم أيضاً على اعتبار ما يمثله من قوة ودينامية في حياة الجماعة يظهر من خلال الفعل الاجتماعي والمعنى والرموز التي تضفيها الجماعة على الحياة والمعاش فضلاً عن الممارسات والعلاقات”.

ولهذا كان حضورهم التلفزيوني سبباً في دفع العديد من التونسيين للبحث عن هذه الديانة، مما دفع بالعديد من الشباب لاعتناقها وذلك حسب بحث أجرته الدكتورة حذام عبد الواحد والذي أكدت فيه أن الشباب هم أكثر فئة اقبلوا على اعتناق هذا الدين، لكن في المقابل ترسخت لدى أغلب التونسيين أن “البهائية هي فعلاً من الفرق (الهدامة) وهي صناعة صهيونية من أجل ضرب الهوية  الدينية الإسلامية، خاصة وأن معبدهم والذي دفن فيه (حضرة الباب) موجود في مدينة حيفا التي تخضع لسلطة إسرائيل”.

كما أن جل التونسيين يعتقدون فعلاً أن أساس وحدتهم وترابطهم الاجتماعي هو الدين الإسلامي الذي يعد “مكوناً أساسياً من مكونات الهوية التونسية، وهي هوية مركبة فيما يتعلق بعلاقة الشخصية التونسية بالدين. فتتراوح مدركات التونسيين لهذا المعطى المتعلق بالهوية بين الشعور بالانتماء السوسيولوجي للحضارة الإسلامية وبين الشعور بضرورة الالتزام بتعاليم الإسلام كدين وإعطائه مكانة مركزية في الحياة اليومية”، لذلك فكل تونسي يعتنق معتقد غير الإسلام فهو بالضرورة خارج عن منظومة المعايير الاجتماعية وبالتالي منسلخ عن الجسد الاجتماعي، لذلك فإن الوصم والإقصاء والثلب والسخرية، كلها آليات تجسم حتمية عقاب الخارج عن الإسلام.

البهائيين ما بين معتقدهم ومواطنتهم

منذ بناء الدولة التونسية سعى المشرعون إلى ترسيخ قوانين تحمي حرية المعتقد لكل المقيمين بالدولة وجاء كتنصيص دستوري سنة 1959 في الفصل الخامس وفيه يقول: تضمن الجمهورية التونسية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها… الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام”.

البهائيين لا يوجد عندهم رجال دين، فهم يملكون نظام حوكمة ذاتية. تتم عن طريق مؤسسات منتخبة سنوياً، تتكون من رجال ونساء بهائيين يكونون خلية الاتصال بالدولة ومؤسساتها، لكن رغم هذا فإن الدولة حتى اليوم مازالت ترفض الاعتراف بهم.

كما صادقت تونس على مواثيق دولية وعالمية في مجال الحريات ومن بينها حرية المعتقد، وقد عدت بهذا من الدول العربية الأكثر تقدّماً في هذا المجال خاصة بعد دستور 2014، وقد أثار تشريع حرية المعتقد وحرية الضمير استنكار الكثير من المواطنين في جل الجهات من البلاد باعتباره يهدد المنظومة القيمية والاجتماعية للمجتمع التونسي، فحرية الضمير تعني حسب الفصل (18) من الإعلان العالمي لحقوق الانسان أن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء اكان ذلك سرا ام مع جماعة”.

وفي نفس السياق يؤكد الفصل (17) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (كانون الأول/ ديسمبر 1966) على أن “لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”. 

ومن هذا المنظور، فإن حرية الضمير تعد جملة الحريات الأساسية الفردية التي تجسم كونية حقوق الإنسان، فهذه الحرية تسمح للفرد بأن يبرز قناعاته ورغباته، وبالتالي ترسيخ القيم التي يراها مناسبة لمعيشه والنابعة من ضميره وهو ما يفضي في النهاية إلى الاستقلال عن قيم الجماعة ومبادئها، والتي ترى بدورها أن حرية الضمير هي ضرب لوحدة المنظومة القيمية والأهم هو تهديد للهوية الدينية التي تعدّ أهم ركائز الهوية الاجتماعية، فمفهوم حرية الضمير هو من المفاهيم التي يصعب تقبلها في المجتمعات المسلمة ومنها المجتمع التونسي، خاصة وأن النظام السياسي رغم الإقرار الدستوري الأخير بحرية المعتقد.

إلا أن البهائيين واجهوا اتهامات بالتكفير من قبل مفتي الديار التونسية، مما دفعهم لتقديم شكوى إلى المدعي العام للجمهورية أمام محكمة البداية بتونس في آذار/ مارس 2021، ضد الأخير ورئيس الوزراء، وزير الشؤون الدينية، وأمين عام الحكومة آنذاك، خاصة وأن تكفيرهم هو تجذير رسمي لخطاب الكراهية والتعصب الديني يشكل تهديدا لأمنهم وسلمهم.

هذا فضلاً عن رفض السلطة منهم ترخي رسمي لممارسة حقهم كمواطنين في إنشاء جمعية خاصة بهم. هذا ويعتبر البهائيون أن مواطنتهم منقوصة خاصة وأن الدولة لم تسمح لهم بإنشاء مقبرة خاصة بهم وهو ما مثل لهم إشكالية فعلية عند موت أحدهم، بجانب إشكالية إبرام عقود الزواج وتسجيلها على حسب التشريع البهائي، وغيرها من الإشكاليات المتعلقة بحرية ممارستهم لطقوسهم الدينية.

صعد البهائيون بتونس قضائياً مع السلطات على إثر منعهم من إنشاء جمعية خاصة بهم- “الصورة من الإنترنت”

وهنا يجب أن نشير إلى نقطة هامة وهي أن البهائيين لا يوجد عندهم رجال دين، فهم يملكون نظام حوكمة ذاتية. تتم عن طريق مؤسسات منتخبة سنوياً، تتكون من رجال ونساء بهائيين يكونون خلية الاتصال بالدولة ومؤسساتها، لكن رغم هذا فإن الدولة حتى اليوم مازالت ترفض الاعتراف بهم وبالتالي تواصل عدم الاعتراف بهم اجتماعياً.

هذا ويسعى بهائيو تونس للمشاركة في الحوارات الوطنية والجمعياتية حول سبل التعايش السلمي لكل الأطياف الدينية في تونس وكيفية إدارة التنوع للحد من الإقصاء وخطاب الكراهية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات