تُعد البلاد التونسية موقعاً استراتيجياً هاماً، وهو ما حذا بالعديد من الحضارات والدول إلى احتلالها واتخاذها مركزاً لحكمهم، ومن هذه الدول نجد الدولة الفاطمية والتي تأسست في سنة 296هـ، بمنطقة “رقادة” بمدينة القيروان بعد أن أسقط عبيد الله المهدي حكم “الأغالبة” فيها، لكن حوّل حكمه في مرحلة أولى إلى مدينة جديدة سميت بإسمه وهي مدينة “المهدية” وذلك سنة 300 هـ المُوافقة لِسنتيّ 912-913 م، ثم حوّل الفاطميون حكمهم إلى مصر وفيها أسسوا القاهرة واتخذوها عاصمة دائمة لحكمهم، كانت هذه لمحة عامة عن وجود الشيعة في البلاد التونسية مع العلم أن مؤسسي الدولة الفاطمية وأحفادهم لم يكونوا أبداً من أتباع المذهب الاثني عشري وإنما كانوا شيعة إسماعيلية.

ما نودُّ أن نوضحه أن ما سنقدمه من لمحة تاريخية يمثل أسباب رفض الذاكرة الجمعية السّنية للوجود الشيعي في البلاد التونسية، فمن أهم الأحداث التاريخية التي تسجلها هذه الذاكرة هو الدور الذي لعبه “سيدي محرز” الملقب بسلطان المدينة والذي يُعد من أكثر الشخصيات قداسة في التاريخ التونسي نظراً لدوره الاجتماعي فقد كان كافلاً للأيتام والأرامل، كما أنه أول من سمح لليهود بالعيش داخل أسوار المدينة بعد أن كان ذلك ممنوعٌ عليهم ولهذا إلى اليوم مازال اليهود التونسيين يجلّونه، طبعاً إلى جانب دوره الديني فقد كان من أعلام وأقطاب المالكية في تونس، وهذا ما عزّز دوره السياسي والذي كان رافضاً للمدّ الشيعي للدولة الفاطمية داخل البلاد التونسية بعد نقل حكمها إلى مصر، خاصة مع تنامي التناقضات الداخلية في صفوف الأسرة الحاكمة بين بني حماد وبني زيري بعد تغيّر موقف الأمير حماد بن بلكين على الصعيدَين السياسي والمذهبي باتجاه مناهض للفاطميين وموالٍ للعباسيين.

وقد دعا إلى نبذ طاعة الفاطميين والتّمرد عليهم، وهو ما أدى إلى قيام حملة إبادة حقيقية “للمشارقة” أي الشيعة الذين أتوا من المشرق لعزل الحاكم وإلى اليوم بقي هذا المكان الذي شهد الإبادة يسمى ببئر مشارقة وهو تابع لمدينة زغوان، كما أن هذه الإبادة كانت بزعامة “محرز بن خلف” انتصاراً للمذهب المالكي ولأهل البلاد على التجاوزات التي قام بها الجيش الفاطمي حينما هاجم البلاد التونسية حسب بعض المصادر التاريخية.

ولذلك عد محرز بن خلف في الذاكرة الجمعية التونسية رمزاً لحماية البلاد وإلى اليوم مازالت هناك مقولتان دارجتان في اللهجة العامية، الأولى “يحرز على تونس محرز” أي الفضل لمحرز بن خلف في حماية تونس، والثانية “معانا سلطان المدينة” وبذلك انتهى الوجود الشيعي داخل تونس.

التشيع المعاصر في تونس

بعد الاستكانة التاريخية التي جاوزت أكثر من ألف سنة عاد المذهب الشيعي للانتشار في سبعينات القرن الماضي مع الدكتور التيجاني السماوي والذي لُقّب بأب التشيع المعاصر في تونس، لكن هذه المرة ليس التشيع الإسماعيلي وإنما التشيع الاثني عشري، وقد وثّق الدكتور محمد التيجاني السماوي رحلته مع المذهب الشيعي في كتابٍ أسماه “ثم إهتديت…”، وفي مقابلة أجريناها معه أكّد، أنه بمجرد عودته إلى تونس بعد رحلته إلى العراق ومن ثم الحج بدأ بالدعوة للتشيع، خاصة بين أقرانه الذين كان أغلبهم من المنخرطينَ في “حركة الاتجاه الإسلامي” وعندما لاقى الرفض، انسلخ عن انتمائه للحركة.

في المقابل وفي أواخر السبعينات أعلن “مبارك بعداش” اعتناقه للمذهب الشيعي الجعفري، وهو يُعد من أوائل المؤسسين لـ”حركة الاتجاه الإسلامي” بتونس كما أنه الصديق الحميم لراشد الغنوشي زعيم “حركة النهضة” الإسلاموية، ثم تشيّع  قيادي آخر والمسمى بـ “مقداد الرصافي” وهو صاحب كتاب “نعم تشيعت وهذا السبب”، وربما بدأ انتشار المذهب الشيعي آنذاك تأثّراً بالثورة الإيرانية وانتصارها للقومية والهوية الإسلامية على حسب اعتقادهم، ونظراً للأوضاع السياسية حينها فقد اقتصرت دعواتهم على عوائلهم وأصدقائهم.

تواصلت الدعوة بهذا الشكل خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، الذي لم يضيّق على الشيعة مثلما فعل مع حركات الإسلام السياسي، بل كانوا تحت المراقبة لا غير وقد سمح لهم النظام آنذاك بتأسيس “جمعية أهل البيت” الثقافية في كانون الأول/ديسمبر 2003.

التشيع بتونس ما بعد الثورة بين الديني والسياسي

وككل الحركات الدينية التي تفجّر بها الفضاء العام إبّان الثورة، نجد أن المنتمينَ إلى المذهب الشيعي أعلنوا عن وجودهم وحضورهم على الساحة الاجتماعية في تونس، فقد انتشر المدّ الشيعي في المجتمع التونسي خاصة في مناطق الجنوب من خلال “الحسينيات” التي أشرفت على أغلبها السفارة الإيرانية في تونس، فالمتأمل في علاقة النظام السياسي الإيراني بالنظام السياسي التونسي آنذاك بقيادة “حركة النهضة” سيرى نوعاً من التوافق السياسي الذي جسّدته المواقف الرسمية الإيرانية.

ومن بينها تصريح الناطق الرسمي بإسم الخارجية الإيرانية السابق، رامين مهمان برست، الذي قال فيه: “ما يهمنا جميعاً هو تحقيق إرادة الشعب التونسي في أحسن الظروف، على اعتبار أن تونس يمكن أن تؤدي دوراً هاماً في العالم الإسلامي“، وفي نفس السياق نجد تصريح الرئيس الإيراني آنذاك، محمود أحمدي نجاد، وفيه أشار إلى: “أن الشعب التونسي أسقط الديكتاتورية بشعارات إسلامية مطالبة بالعدالة، ودعا الغرب خاصة أميركا وإسرائيل إلى عدم التدخل في الشؤون التونسية، مؤكداً أن الشعب التونسي يسعى إلى إقامة الأحكام التونسية ولن يستسلم مرة أخرى للغرب“.

قامت السفارة الإيرانية باستقطاب العديد من الأكاديميين في إطار التعاون العلمي، وهذا ما انجر عنه اعتناق الكثير من التونسيين للمذهب الشيعي الذي لم يتجاوز في أول الثورة بضعة آلاف أما اليوم وحسب معطيات ميدانية وليست رسمية بلغ عدد التونسيين الشيعة مليون ومائة ألف.

وفي هذين التصريحَين وجود إشارات ضمنية إلى أن النظام السياسي الجديد بعد نظام بن علي، بقيادة “حركة النهضة” سيكون إسلامي بحت تماشياً مع الثورة الإيرانية التي تُعد إحدى الروافد الفكرية لها، وهذا ما حذا بالمسؤولين الإيرانيين في تصريحاتهم أن الثورة التونسية هي ممهاة للثورة الإيرانية وأنها ردٌّ على التهميش والتغريب الديني، وهذا ليس صحيح وهي مغالطة تاريخية لأن الثورة التونسية هي ردّ فعل على التهميش الاقتصادي وعلى غياب مقومات العدالة الاجتماعية لا الدينية.

لكن رغم الاتفاقيات التي أبرمتها الحركة الإسلاموية مع تركيا “العدو التاريخي” لإيران، ورغم طرد السفير السوري من البلاد التونسية في 2012، إلا أن العلاقة بين النظامين كانت جداً وطيدة “فقد سعت شخصيات بارزة في “حركة النهضة” إلى إقامة علاقات اقتصادية أفضل مع إيران، ومن بينها مؤسسها راشد الغنوشي، وصهره رفيق بن عبد السلام وزير خارجية تونس في الفترة من 2011 إلى 2013، إلى جانب رئيس البرلمان مصطفى بن جعفر ومحمد منصف المرزوقي الذي شغل منصب الرئيس بين عامي 2011 و2014، واستعرضت إيران آفاق توسيع العلاقات البحرية مع تونس وتطوير موانيها وقطاعاتها الصناعية والتجارية، والبنية التحتية للسياحة، وفي إطار لجنة التعاون المشتركة، سعى البلدان إلى خلق فرص عمل في هذه القطاعات في كلا البلدين. واستكشفا توسيع قطاعي الزراعة وتصنيع السيارات وتشجيع الرحلات الجوية المباشرة، و تخفيف قيود التأشيرات“.

وليس هذا فقط بل قامت السفارة الإيرانية باستقطاب العديد من الأكاديميين في إطار التعاون العلمي، ناهيك أيضاً عن تنظيم رحالات مموّلة بالكامل للعديد من التونسيين إلى إيران للتعرف على ثقافتها، وهذا ما انجر عنه اعتناق الكثير من التونسيين للمذهب الشيعي الذي لم يتجاوز في أول الثورة بضعة آلاف أما اليوم وحسب معطيات ميدانية وليست رسمية بلغ عدد التونسيين الشيعة مليون ومائة ألف.

وككل المختلفينَ دينياً أو عقائدياً فقد تعرّض العديد من الشيعة إلى النبذ والعنف، لكن الملاحظ هنا أن تعامل المجتمع التونسي مع المختلف أساسه استبطان الصراعات الأيديولوجية والتاريخية بمعنى صراع السّنة والشيعة، ناهيك أن جلّ التونسيين يعتقدون بأن مجتمعهم يتعرض لمؤامرة تهدد أمنهم الاجتماعي ومنظومتهم القيمية والمعيارية والتي عادةً ما يكون أساسها الدين، لهذا وخشية من الإخلال بالأمن العام تم إقرار قانون حرية الضمير في دستور 2014 كضمان للحريات التي كرستها الثورة، ولمبادئ المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون.

لكن أغلب الحقوقيين أقرّوا بأنه قانون شكلي وليس فعلي بدليل الانتهاكات والتجاوزات التي تطال المختلفين اجتماعياً ودينياً بما فيهم الشيعة، لكن اليوم نجد تأسيساً لمركز دراسات شيعي في تونس اسمه “مركز أهل البيت-ع- للبحوث والدراسات”، ويحوي هذا المركز العديد من المراجع السنية والشيعية، كما أنتج المشرفون عليه برنامجاً رمضانياً يجمع بين شيخ من السّنة (كريم شنبة)، وشيخ من الشيعة (أحمد سلمان)، وفيه تحدّثا عن بعض المغالطة الفقهية والتاريخية التي ترسخت في أذهان التونسيين.

كما حاولا أيضاً التركيز على النقاط الإيجابية بين كلا المذهبَين والتي من خلالها يتم توحيد التونسيين ونبذ كل مظاهر الكراهية والتعصب باسم الطائفية. والسؤال الختامي هنا، هل الاختلاف الديني أو المذهبي ينفي فعلياً صفة المواطنة؟ 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات