مع انفتاح الصراع الروسي الأطلسي الدفين باندلاع حرب موسكو على أوكرانيا، طفت على الساحة الدولية بعض النقاط الهشة متقدمة على سواها من الأماكن كنقاط احتكاك محتملة بين الجانبين. من البلقان إلى دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، والدفع الغربي للنفوذ الروسي عنها، أو تعزيز الأخيرة لنفوذها في القطب الشمالي، لتكون القوة المهيمنة فيه.  

في هذا السياق قال سفير روسيا في “مجلس القطب الشمالي”، نيكولاي كورتشونوف، “نحن بحاجة إلى إبقاء جميع الخيارات السياسية مفتوحة، بما في ذلك الانسحاب من مجلس القطب الشمالي”. إلا أن الباحث في معهد فريدجوف نانشن، سفين فيجلاند روتم، قلل من هذا الاحتمال بالقول، إن “مجلس القطب الشمالي، كما نعرفه، سيموت إذا انسحبت روسيا. لكن لا أعتقد أن روسيا ستنسحب من مجلس القطب الشمالي، على الرغم من أنهم يرسلون أحيانا إشارات مختلطة. هذا ليس في مصلحتهم”.

مع ذلك، لم يجتمع مسؤولو المجلس على المستوى السياسي والدبلوماسي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد أثر فتور العلاقات الروسية الغربية على عمل المجلس بشكل كبير، بعد وقف دوله الغربية السبعة جميع الأعمال الرسمية داخله حتى تولت النرويج قيادته في أيار/ مايو 2023. ويضم المجلس روسيا وكندا والدنمارك وفنلندا وإيسلندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة. ويقول أحد دبلوماسيي الأخيرة، إن التعاون مع روسيا في القطب الشمالي أصبح من المستحيل تقريبا.

في وقت سابق، قال مدير برنامج الأمن والدفاع في مركز صنع السياسات، اللواء العراقي ماجد القيسي: الحرب الروسية الأوكرانية صفحة أولى من حرب طويلة قد تمتد صفحاتها التالية للصراع على نهاية الأرض، في القطب الشمالي، الذي يعتبر أقصر منطقة تنقلا استراتيجيا بين القارات، مع احتوائه على موارد طبيعية كبيرة. وبرأيه، فإن المعركة المستقبلية هناك، وهي السبب الحقيقي لطلب فنلندا والسويد الانضمام إلى “حلف الناتو” كونهما الأقرب للقطب، الذي تحكمه اتفاقية الدول الثمانية، لكن القواعد العسكرية الروسية موجودة بكثرة فيه، ولا سيما في منطقة “ساليبار”.

مصعد للمكانة الدولية

في منتدى القطب الشمالي المنعقد في مدينة أرخانجيلسك شمال روسيا في أبريل/ نيسان 2017، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إن ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي تعتبر مفيدة لاستخدام المنطقة للأغراض الاقتصادية. قبل ذلك بعقد، وضع الغواصون الروس علما في قاع القطب المتجمد الشمالي، في محاولة لتأكيد ملكية موسكو على ما يقرب من مليون كيلومتر مربع من منطقة مترامية الأطراف، حيث تمتلك حاليا ما قرابة نصف الأراضي القطبية و24 ألف كيلومتر من الخط الساحلي. وقد ساعدتها هذه الهيمنة الإقليمية في توسيع قواتها بشكل كبير خلال السنوات الماضية.

كميات هائلة من الثروات المعدنية الغنية ترقد على طول الشريط الساحلي الروسي المجاور للقطب، ذهب، نيكل، بلاتين، بلاديوم ومعادن أرضية نادرة تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات. بجوار ذلك، تحتوي أعماق القطب على رواسب هائلة من النفط والغاز الطبيعي تقدر قيمتها بنحو 30 تريليون دولار، إذ يعتقد وجود قرابة 16 بالمئة من النفط و30 بالمئة من الغاز غير المستغل في العالم تحت المحيط، مع أنواع من الوقود الأحفوري في متناول اليد، وكميات هائلة من الأسماك تعيش في مياهه. وبحسب نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك: “منطقة القطب الشمالي لديها إمكانات هائلة. من حيث الموارد، نتحدث عن 15 مليار طن من الغاز ومئة ألف مليار متر مكعّب من الغاز. ما يكفي لعشرات وحتى مئات السنين”.

جنود روس في القطب الشمالي – إنترنت

لذا؛ كانت السيطرة على الموارد الغنية للقطب وقيمتها الاستراتيجية طموحا للقادة السوفيت والروس على مر العصور، ولا يختلف بوتين عنهم، حيث يسعى لجعل القطب الشمالي ركيزة لعودة روسيا إلى مكانتها كقوة عظمى. فيما كثّفت الدبلوماسية الأميركية جهودها بالمنطقة، لعدم ترك الساحة فارغة أمام روسيا. لذا؛ استحدثت منصب سفير لمنطقة القطب الشمالي. وأشار بيان وزارة خارجيتها، إلى أن منطقة القطب الشمالي، “لها أهمية استراتيجية بالغة للولايات المتحدة”. إلى جانب ذلك، اعتبر أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، منطقة القطب الشمالي أقصر طريق للصواريخ والقاذفات الروسية إلى أميركا الشمالية. مضيفا، “باتت روسيا تشكل تحديا استراتيجيا في القطب الشمالي”.

فالقطب الشمالي منطقة حيوية لأهميته الاقتصادية والاستراتيجية لروسيا، حسب عبد الله الحايك، وهو مساعد باحث في “برنامج الدراسات العسكرية والأمنية” في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، حيث تمتلك أكثر من 50 بالمئة من الساحل الشمالي الذي يتيح وصول فريد للموارد الطبيعية غير المستغلة مثل النفط والغاز المقدرة بقرابة 22 بالمئة من موارد النفط والغاز غير المكتشف في العالم. مردفا في حديث مع “الحل نت”، أنه إضافة إلى ذلك، يعزز ذوبان الجليد بسبب التغير المناخي من إمكانية استخدام طرق شحن جديدة تقلل من المسافة بين أوروبا وآسيا، مما يعطي روسيا ميزة لوجستية واقتصادية. وهذه العوامل تجعل القطب الشمالي محور تنافس بين روسيا والغرب، حيث يسعى كل طرف لتأمين مصالحه ونفوذه في المنطقة، مما يزيد من التوترات الإقليمية.

تنشيط العقيدة البحرية مع تعديل الوثائق الاستراتيجية

لضمان تفوقها في المنطقة القطبية، أطلقت موسكو أسطولا من كاسحات الجليد النووية فيها. وفي ربيع 2023، أجرت مناورة عسكرية في القطب الشمالي، في تعبير عن عقيدة بحرية روسية جديدة أعلنتها في تموز/ يوليو 2022، تهدف لتعزيز مواقعها في المنطقة القطبية اقتصاديا وعسكريا. وتؤكد هذه العقيدة، أن “القطب الشمالي بات منطقة منافسة دولية، ليس فقط اقتصاديا، ولكن أيضا عسكريا”. لذا؛ عززت موسكو بها مواقعها الرئيسية في غزو القطب الشمالي واستكشافه، عبر تعزيز الإمكانات العسكرية لأسطولي روسيا في الشمال والمحيط الهادئ، إضافة لإنشائها وحدات متخصصة في القتال في القطب الشمالي منذ أكثر من 10 سنوات.

فالمنطقة القطبية التي تطالب بها روسيا، وفق وثيقة “استراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي للاتحاد الروسي وتوفير الأمن القومي للفترة حتى عام 2035″، تحتوي على أكثر من 17.3 مليار طن من النفط و85.1 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي. حيث تحتل موسكو موقع القيادة بقوة في السعي للسيطرة على هذه الموارد. ما يشير لصراع مؤجل بين الدول الثمانية التي تتقاسم السيطرة على المحيط، وتطالب 5 دول منها ببعض الغطاء الجليدي القطبي باعتباره ملكا لها، حيث تتداخل هذه المطالبات مع بعضها البعض، فيما تشكل أكبر نقاط الخلاف حول جبل تحت الماء في النطاق المعروف باسم “ليونوس ريدج”، حيث تزعم كل من كندا والدنمارك وروسيا أنه ملكهم الشرعي.

تعديلات جديدة على سياسته في القطب الشمالي، نشرها “الكرملين” في شباط/ فبراير 2023، ركّز فيها بشكل أكبر على المصالح الوطنية الروسية في المنطقة، حيث دعت الوثيقة المعدلة، إلى “تطوير العلاقات مع الدول الأجنبية على أساس ثنائي (…) مع مراعاة المصالح الوطنية للاتحاد الروسي في القطب الشمالي”. مع إزالتها الإشارات إلى “إطار أشكال التعاون الإقليمي متعدد الأطراف، بما في ذلك مجلس القطب الشمالي، والقطب الشمالي الساحلي (الخمسة)، ومجلس منطقة بارنتس الأوروبية القطبية الشمالية، التي ركزت عليها وثيقة السياسة الأصلية لعام 2020.

حسب مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، هناك دلالات على توترات مقبلة في المنطقة القطبية، رغم الاتفاقات بين دوله الثمانية القطبية، ففي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قال رئيس اللجنة العسكرية لحلف “الناتو”، الأدميرال روب باور، “يجب أن نكون مستعدين لنزاع عسكري في المنطقة القطبية”، وهو قول تدعمه بعض التحركات الروسية، حيث خرجت الأخيرة من مجلس “بارنتس” الأوروبي والقطب الشمالي، في أيلول/ سبتمبر الفائت، والذي يضم في عضويته النرويج وفنلندا والسويد. كذلك أصبحت القاعدة الموجودة في شبه جزيرة كولا التي تحاذي النرويج وفنلندا، إحدى أكبر القواعد العسكرية الروسية. 

حدود جديدة للناتو مع روسيا

مع انضمام فنلندا إلى حلف (الناتو) مطلع نيسان/ أبريل 2023، تشكلت حدود جديدة بين “الناتو” وروسيا. وفي حال قبول طلب السويد للانضمام إلى الحلف، ستكون جميع دول القطب الشمالي باستثناء روسيا أعضاء في “حلف الناتو”.

حسب الحايك، يشكل التوسع الروسي في القطب الشمالي تهديدا للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة بشكل خاص لعدة أسباب. أولها، يعتبر الغرب أن تعزيز الوجود العسكري الروسي في القطب الشمالي يهدد الأمن القومي، حيث تقوم روسيا بتحديث قواعدها العسكرية وتطوير أسلحة جديدة مخصصة للمنطقة. ثانيا، يثير السباق على موارد الطاقة قلقا بشأن استقرار أسواق الطاقة العالمية، والذي قد يؤثر سلبا على الاقتصادات الغربية.

فلاديمير بوتين – (الكرملين)

 ثالث الأسباب، هو أن فتح طرق شحن جديدة في القطب الشمالي، يعزز من النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي لروسيا، مما يقلل من هيمنة الطرق التقليدية التي تسيطر عليها القوى الغربية. وأخيرا، يعتبر الغرب أن التحركات الروسية في القطب الشمالي تهدف إلى إعادة رسم النفوذ الجيوسياسي في المنطقة، مما يضع الولايات المتحدة وحلفائها أمام تحديات استراتيجية جديدة.

وثائق السياسة الخارجية الروسية لاستراتيجية القطب الشمالي لعام 2020 وتعديلات عام 2023، والعقيدة البحرية لعام 2022، مع استراتيجية الأمن القومي لعام 2021، تشير إلى أن المحيط المتجمد الشمالي وجرفه القاري جزء لا يتجزأ من الجغرافيا السياسية لروسيا وازدهارها. وتحدد استراتيجية الأمن القومي دفاع الجيش عن الجرف القاري كأولوية، و”هدف أمن الدولة”، ما يتوافق مع تأكيد الوثيقة على حقوق استغلال الموارد كوظيفة للأمن القومي والأولوية العامة للمنطقة، حسب موقع “Geopolitical Monitor“.

إلى جانب ذلك، تدرج العقيدة البحرية للقطب الشمالي كأولوية قصوى للاستراتيجية البحرية. كما تعترف هذه الوثائق اعترافا تاما باستخدام القوة في الشؤون الدولية، دون عتبة الحرب المفتوحة. فيما توفر استراتيجية الأمن القومي والعقيدة البحرية لغة تمكينية إضافية للردود غير المتماثلة. وتوفر تبريرا واضحا لاستخدامها ما يسمى بالإكراه الهجين أو المنطقة الرمادية لتحقيق غايات سياسية.

نقاط الاحتكاك الروسي الغربي على الساحة الدولية متعددة ومتشعبة، يحتل القطب الشمالي فيها منطقة بارزة، باعتباره منطقة حيوية واستراتيجية لطرفي الصراع. لذا؛ تولي موسكو ترسيم الحدود فيه أهمية متزايدة تأتي بالمرتبة التالية لمنطقة آسيا الوسطى وشرق أوروبا، أو ما يسمى بالفقه السياسي الروسي “الجوار القريب”، وفي هذا السبيل، لا تستبعد موسكو استخدام وسائل الإكراه لتأمين مصالحها في المنطقة القطبية.      

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات