تزامنا مع جملة من التطورات الجارية على الصعيدين الإقليمي والدولي، أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية، وأحداث غزة، وحالة عدم الاستقرار التي تعصف بها منطقة الشرق الأوسط، عملت الصين على تكريس نفسها شريكا لأغلب الدول العربية ومنها الجزائر، وكذلك الدول النامية وخصوصا تلك التي تعيش تدهورا اقتصاديا حادا، وذلك من خلال تقديم قروض مغرية أو عبر الاستثمار في مشاريع المطارات والموانئ وحقول الطاقة وسكك الحديد، مشروطة باتفاقيات تفضي في النهاية إلى الاستحواذ على موارد الدول المتلكئة.
على ما يبدو أن الاستثمار الصيني المسعور لم يكتف بدول الشرق الأوسط والدول المجاورة للصين الشعبية شرق قارة آسيا، بل انتقل إلى قارة أفريقيا دول شمال القارة وتحديدا الدول العربية، مثل المغرب وتونس وليبيا ومصر والجزائر، حتى أصبحت بكين تزاحم بقوة دول الاتحاد الأوروبي في منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا.
تبعا لذلك، قررت الصين في السنوات الأخيرة وتحديدا خلال العامين الماضيين، الإقدام على خطوة تعتبر أكثر جرأة وفقا للمعايير الجيوسياسية، عبر التوجه نحو الجزائر بشكل لافت للنظر بهدف تمكين العلاقات بين البلدين، وتعزيزها بمزيد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية بل حتى العسكرية، وتكمن خطورة هذه الخطوة بوصف الجزائر منطقة نفوذ للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ودول أوربية أخرى، فهل تعي حكومة بكين ما تفعله في منطقة الساحل الأفريقي؟
لماذا الجزائر؟
تشير تقارير إلى أن الجزائر تتصدر دول أفريقيا كأكبر بلد مصدرة للغاز الطبيعي المسال لعام 2023، حسب منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك)، لتتجاوز بذلك نيجيريا التي تصدرت القائمة لعقد كامل من الزمن، الأمر الذي يعتبر إنجازا باهرا يدل على المكانة الكبيرة التي تحتلها الجزائر، فارضة بذلك نفسها كشريك إستراتيجي لأوروبا في مجال الغاز وكدولة منتجة بامتياز لهذه المادة الحيوية.
من جانب آخر، وضعت الحكومة الجزائرية مشاريع التعدين الكبرى على رأس جدول أعمالها، ساعية إلى استغلال ما تملكه من معادن وأتربة نادرة خام غير مستغلة، مقابل الفجوة الواسعة في العرض والطلب عالميا لاقتحام هذا الميدان من أبوابه الواسعة مع شركاء غربيين، مما دفع الحكومتين الصينية والروسية إلى الإسراع نحو مفاتحة الحكومة الجزائرية بالحصول على فرص استثمارها، لكن الجزائر ترغب بالانفتاح على مختلف الشركات الغربية، بما في ذلك الفرنسية والأميركية واليابانية التي تسعى إلى البحث عن المعادن النادرة، مما شجع الشركات الأميركية إلى تقديم طلب استثمار في مجال البحث والاستكشاف.
أما موقع الجزائر الجغرافي وتأثيرها السياسي بالنسبة لقارتي أفريقيا وأوروبا مهم جدا، مما يدفع أغلب حكومات العالم إلى الحرص على تعزيز علاقاتها مع الجزائر، فبالنسية للتأثير السياسي في القارة السمراء تعتبر الجزائر حجر الزاوية للوضع السياسي الأفريقي فهي تتمتع بعلاقات وطيدة مع أغلب الدول الأفريقية، أما بالنسبة لأوروبا فتعتبر الجزائر أحد البلدان المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط مما يجعلها مهمة من الناحية الأمنية للقارة العجوز، خاصة مع تزايد الهجرة نحو أوروبا.
ويعلل المحلل السياسي رامي خليفة في حديثه مع “الحل نت “، التمدد الصيني في الجزائر إلى ضعف التواجد الأوروبي في قارة أفريقيا والجزائر على وجه التحديد، لافتا إلى أن هذا الضعف شجع الحكومة الصينية التي تبحث عن سوق لتصريف بضائعها بالأساس إلى مد نفوذها في القارة ودول الساحل الأفريقي.
بالمليارات: الصين تستثمر في الجزائر؟
في 20 تموز/ يوليو 2023، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أن الصين ستستثمر ببلاده 36 مليار دولار في عدة مجالات، أهمها الصناعة والتكنولوجيات الحديثة.
جاء ذلك خلال لقاء جمع الرئيس تبون بأفراد الجالية الجزائرية بالعاصمة بكين، بحسب التلفزيون الجزائري الرسمي، قائلا إن الصين ستستثمر 36 مليار دولار في مجالات مختلفة بالجزائر كالصناعة والتكنولوجيا الحديثة واقتصاد المعرفة والنقل والزراعة، مبينا أن السياحة هي الأخرى تعد من مجالات الشراكة الشاملة مع الصين وسنقوي الحركة السياحية بين البلدين.
من جانبه المتحدث الثاني باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ون بين، أكد أن الجانب الصيني يتطلع إلى بذل جهود مشتركة بين الصين والجزائر، لتحقيق تطور أكبر لعلاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، من خلال تعميق الثقة المتبادلة وتوسيع التعاون وتعزيز الصداقة بين الطرفين، مشيرا إلى أن الزيارة تعد مساهمة أكبر في تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وتعزيز الوحدة والتعاون بين الدول النامية.
دور الصين تعاظم في مختلف دول العالم وليس فقط في القارة الأفريقية من خلال مد نفوذها الاقتصادي في أغلب المجالات، والجزائر ليست الوحيدة التي استثمرت بها الصين أنما أغلب دول العالم، بحسب رامي خليفة.
ويرى خليفة، أن دور الدول الأوروبية في القارة الأفريقية بدأ يتلاشى في مختلف المجالات، وعلى ما يبدو أن القارة السمراء فلتت من القبضة الأوروبية، وذهبت إلى أطراف أخرى بدأت تظهر في القارة مثل روسيا وتركيا وغيرها، مشيرا إلى أن الصين هي الأبرز والأكثر توسعا في أفريقيا مؤخرا وتحديدا من الناحية الاقتصادية، وبالتالي هناك تغير في خارطة نفوذ الدول الكبرى في منطقة شمال أفريقيا، وهذا الأمر أصبح واضحا خاصة في السنوات الأخيرة.
الصين بدل فرنسا؟
لطالما ارتبط اسم الجزائر بفرنسا، لكن منذ عام 2013، نجحت الصين بأن تصبح المورد الأول للجزائر مزيحة فرنسا من مركز الصدارة الذي احتلته لعقود، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجزائر والصين نحو 14.6 مليار دولار في عام 2021، بنمو قدر بنسبة 32.6 %. وفي عام 2022، استوردت الصين ما حجمه 1.2 مليار دولار من السلع الجزائرية معظمها مواد طاقية كالنفط والغاز ومعادن مثل خام الحديد، كما أعلنت الحكومة الجزائرية رغبتها في الانضمام إلى مجموعة “بريكوس” والتي تعد بكين أحد أكبر أعمدتها.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وقعت الجزائر خطة خماسية ثانية للتعاون الاستراتيجي مع الصين، للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا والفضاء والصحة والتواصل الإنساني والثقافي بين البلدين تستمر هذه الاتفاقية حتى أواخر 2027.
حينها، أوضح بيان مشترك للخارجيتين الجزائرية والصينية، أن التوقيع الجديد يعد تعزيزا لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة سنة 2014، واستكمالا للرغبة المشتركة للجانبين في توثيق العلاقات الجزائرية – الصينية والدفع بها إلى أعلى المراتب.
وعن موقف فرنسا من الاستثمار الصيني في الجزائر، يرى الباحث السياسي إدريس عدار في حديث مع “الحل نت “، أنه لن يمر مرور الكرام، ففرنسا متضررة كثيرا منه وليس في الجزائر فقط، إنما في بقية دول ساحل أفريقيا، معربا عن قلقه من الحضور الصيني في الجزائر وخاصة في مجال المشاريع الاستثمارية، لأنه عمل غير مضمون النتائج وقد يزيد من معاناة الجزائر في المستقبل، على حد قوله.
ما موقف أميركا؟
الجزائر حاولت مسك العصا من المنتصف للحفاظ على ما حققته من مكتسبات عبر علاقاتها مع الصين والولايات المتحدة الأميركية وكذلك الاتحاد الأوروبي، فطبيعة التواجد الصيني في الجزائر يرتبط بالحكومة الجزائرية وكيفية تسيير علاقاتها الخارجية مع دول العالم الأخرى، على حد قول المحلل السياسي إدريس عدار، مشيرا إلى أن الجزائر حاولت معادلة القوى العالمية على أرضها فمع فتح الاستثمار أمام الشركات الصينية، حرصت الحكومة الجزائرية على توقيع مجموعة اتفاقيات مع الولايات المتحدة الأميركية متعلقة في مجال النفط والغاز الطبيعي في جنوب الجزائر.
عدار يرى، أن تنامي دور الصين في شمال أفريقيا سيكون له تأثير واضح على المعادلات الدولية والتأثيرات الجيواستراتيجية في المنطقة، تحديدا بين ضفتي المتوسط، وخصوصا أن العلاقات بين دول شمال أفريقيا (المغرب والجزائر وتونس) مع أوروبا توصف بأنها تاريخية، باعتبار أن هذه الدول كانت تحت سيطرة فرنسا لمدة طويلة، بالتالي فإن التواجد الصيني في هذه الدول سيربك المشهد وسيجعل المنطقة في حالة عدم استقرار.
تاريخيا قد لا تكون الولايات المتحدة هي الأقدم من حيث العلاقات مع الجزائر، لكن أميركا عملت في فترات مختلفة على مد جسور التواصل مع الجزائر وتعزيزها باتفاقيات على المستوى الأمني والاقتصادي، لكن في الآونة الأخيرة حرصت الحكومة الجزائرية على تقوية علاقتها بالولايات المتحدة الأميركية لإدراكها بأهمية التعاون، وفقا لحديث رامي خليقة.
ويبين خليفة، أن منطقة شمال أفريقيا بدأت تشهد صراعا كبيرا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، خصوصا أن البلدين يعتبران أقوى أقطاب العالم، حيث تسعى الصين إلى إيجاد موطئ قدم في أفريقيا، كما تحاول أميركا تعزيز علاقاتها مع دول أفريقيا لأغراض أمنية والحد من المد الصيني في القارة السمراء، فيما استبعد أن تفرض واشنطن عقوبات على الدول التي تتعامل مع الصين وخاصة الجزائر.
من جانبه، يقول إدريس عدار ، إن تواجد الصين في الجزائر له تأثيرات سلبية تنعكس على أغلب دول أفريقيا، وعلى الحكومات الأفريقية أن تنظم علاقتها مع بكين على أساس المصلحة المشتركة وليس بطريقة التوسع والاستحواذ، مشيرا إلى أن أميركا بدأت منافسة الصين في الجزائر والمغرب من خلال الاستثمارات العسكرية والاستراتيجية والصناعات البتروكيمياوية.
على ما يبدو، أن قارة أفريقيا أمام خطر جديد متمثلا بالمد الصيني وانعكاساته المستقبلية، والتي تعيش بالأساس حالة عدم استقرار، كونها تضم دولا متخلفة على المستويات السياسية والاقتصادية التكنولوجية، كما أن معظم دول أفريقيا تعيش بفوضى الانقلابات وسوء الإدارة، في وقت تتوفر فيها ثروات طبيعية هائلة ويد عاملة كبيرة، ما يجعلها هدفا حيويا للتنين الصيني.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.