منذ الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وهناك انتهاكات عديدة وثقتها المنظمات الحقوقية الأممية بشأن الانتهاكات الروسية، وتحديداً بالمناطق الأربع التي خضعت تباعاً لسيطرة موسكو، ونجحت الأخيرة في ضمها وتآكلت من الجغرافيا الأوكرانية قسر
غير أنه إلى جانب الخروقات الحقوقية المرتبطة بالعنف الوحشي و”جرائم الحرب” التي تجري ميدانياً، ثمة محاولات أخرى تتم على تخوم الصراع العسكري وتجاوزاته القصوى، تتمثل في محو الذاكرة، وفرض أو بالأحرى، تعميم قيم وأفكار سياسية تؤيد السرديات الانتقائية التي تتبناها موسكو تجاه الشعب الأوكراني.
لذا، تورطت موسكو في عمل تغييرات ديمغرافية خاصة بالمناطق التي تخضع لهيمنتها ونفوذها العسكري، كما فرضت بشكل متعسف السلطات الروسية على المواطنين الأوكرانيين جوازات سفر روسية. بل إن نحو 90 % من هؤلاء بالمناطق التي طاولها الاحتلال الروسي في نهاية أيلول/ سبتمبر قبل عامين، وهي دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون، تم إرغامهم على استخراج جوازات سفر روسية لتمرير شؤونهم الاقتصادية والقانونية، كمثل فتح حسابات بنكية، أو الحصول على الامتيازات الاجتماعية الرعائية، فضلاً عن تراخيص المشروعات التجارية.
روسيا تصدر نفسها كـ”ضحية”
في تقرير من قبل “منظمة العفو الدولية“، تم الكشف عن تزييف للمناهج التعليمية بالمناطق الخاضعة لنفوذ روسيا العسكري بأوكرانيا؛ حيث في مادة التاريخ، هناك عدة تبريرات وحجج حول دوافع الحرب الروسية على كييف، الأمر الذي يستهدف تشكيل أجيال يتم تلقينهم على نحو تلفيقي جملة أفكار براغماتية لخدمة سياسات محددة، والتعمية عن الحقائق لحساب مصالح النظام في موسكو.
ويقول التقرير، الصادر بالنصف الثاني من العام الماضي، إن “هذا الكتاب الدراسي المليء بالكليشيهات الدعائية الروسية الرسمية، والذي يحاول تبرير الأعمال غير المشروعة التي قامت بها روسيا، من ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 إلى الغزو كامل النطاق لأوكرانيا في عام 2022، سيكون جزءاً إلزامياً من المنهاج الدراسي لطلبة المدارس الثانوية في عموم أنحاء روسيا والأراضي الأوكرانية التي تحتلها، والذين سيعودون إلى المدارس في 1 سبتمبر/أيلول”.
آنا رايت، باحثة معنية بمنطقة أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى في “منظمة العفو الدولية”، قالت، إن “هذا الكتاب الدراسي يُخفي الحقيقة ويشوّه الوقائع في ما يخص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم بموجب القانون الدولي التي ترتكبها القوات الروسية ضد الأوكرانيين. وإن تلقين الأطفال في مرحلة عمرية هشَّة من تطورهم يُعتبر محاولة للقضاء على الثقافة والتراث والهوية الأوكرانية في خدمة المصالح، وانتهاكاً للحق في التعليم”.
الكتاب الذي رصده التقرير الأممي والمقرر على طلبة المدارس الثانوية، يصنع من الحرب الحالية “مؤامرة” غربية، وتورطت فيها موسكو التي هي “ضحية” للغرب والولايات المتحدة. وبالتالي، يدَّعي الكتاب أن روسيا ليست “معتدية” أو دولة “احتلال” إنما “ضحية” وقعت في مرمى أهداف “مستشاري حلف شمال الأطلسي (الناتو)” وقد عمدوا قبل الغزو الروسي إلى التحضير بصورة نشطة لـ “لمهاجمة الدونباس”.
وينقل التقرير الصادر عن المنظمة المعنية بحقوق الإنسان بعض ما جاء في المقرر الدراسي ومقاده، أنه “لو سُمح لأوكرانيا بالانضمام إلى حلف الناتو، فإن ذلك كان من الممكن أن يؤدي إلى حرب مدمرة، وربما إلى نهاية الحضارة، الأمر الذي لم يكن لروسيا أي خيار سوى منعه. وأن الغزو الروسي كامل النطاق لأوكرانيا هو “عملية عسكرية خاصة”.
انتهاكات روسيا ترقى لـ “جريمة حرب”
يكاد لا يختلف ما يجري بحق الأوكرانيين في المناطق التي تحتلها موسكو عن مجمل “الجغرافيا التي دمرتها موسكو بأسلحتها، والانتهاكات التي تصل إلى حد جريمة حرب كتوصيف قانوني. فاستهداف البنية التحتية ومنع وصول الخدمات الأساسية عن المواطنين، يماثل إرغامهم من قبل موسكو على القبول بحكمهم ليس كدولة احتلال وبقوة السلاح، إنما كامتداد سياسي والتطبيع مع ذلك”، حسبما يوضح الباحث المختص في الشؤون الدولية، الدكتور مصطفى صلاح.
بحسب حديث صلاح مع “الحل نت”، فإن موسكو من خلال المناهج التعليمية والثقافية، والتي هي ضمن ميراث الاتحاد السوفييتي الأمني والاستخباري في صناعة العقول “يتم تطويع الأوكرانيين وإدارتهم سياسياً وأمنياً. إذ تمارس الأجهزة الأمنية والعسكرية الروسية قمعاً مباشراً وغير مباشر، بعضه خفي والبعض الآخر معلن وخشن”.
فإلى جانب بث الرعب من خلال مشاهد العنف الوحشية، عبر القتل والاعتقال والإخفاء القسري، ومراقبة أنشطتهم حتى على المنصات الافتراضية، تشن موسكو حروبها الثقافية، وهذا كله ناجم عن “فلسفة الحكم” بروسيا التي ترى، وفق ذرائعها، أن هناك في المناطق التي تحتلها، وفي أوكرانيا، فئات من ذوي الأصول الروسية وللدولة الأم الحق في أن تمتد بذراعها الأمني والعسكري لتطوقهم تحت سيادتها. وهكذا من دون اعتبارات للقانون الدولي والحدود الجغرافية والمبادئ الحقوقية، وكأننا في “مرحلة ما قبل التاريخ التي يتم فيها إعادة تشكيل الجغرافيا بالغزو البدائي الهمجي”. يقول صلاح.
روسيا تواصل تعزيز نفوذها على الأراضي التي تحتلها في جنوب شرق أوكرانيا. ومع استقرار خط المواجهة في عام 2023، ظلت روسيا تسيطر على ما يقرب من 18 بالمئة من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك حوالي 25 ألف ميل مربع من الأراضي التي تم الاستيلاء عليها منذ شباط/ فبراير العام الماضي. وتقول صحيفة “فورين أفيرز” الأميركية، إن موسكو تحاول خلق أمر واقع ميدانياً من الصعب تجاوزه مستقبلاً.
فقد غيَّر المسؤولون الروس طريقة إداراتهم للمناطق المحتلة، وقاموا بتدشين انتخابات مزيفة، في سبتمبر/ أيلول العام الماضي، ثم تعيين مسؤولين موالين لموسكو على كل المستويات. يباشر أفراد من القوات المسلحة متابعة كل ذلك، وفرض الأحكام القانونية بما فيها الضرائب وغيرها، وإزاحة أي وجود مؤسساتي لأوكرانيا. فيما تستمر فترة انتقالية شكلية حتى مطلع عام 2026، وبحلول ذلك الوقت يرجح “الكرملين”، أن تكون الأنظمة القانونية والقضائية والسياسية الروسية سارية بالكامل فيما يطلق عليه “المناطق الجديدة” بأوكرانيا.
هذا الاحتلال الإداري، وفق الصحيفة الأميركية، لا يأخذ نصيبه من المتابعة، وفضح آثاره وتداعياته، كما في أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. فالحرب الروسية على أوكرانيا باتت أمام نتائج أكثر قسوة من الهجمات العدوانية بالصواريخ والمسيّرات، والخروقات التي يرتكبها الجنود الروس. وتردف: “حتى مع مقاومة بعض الناس ورفضهم الإذعان للواقع الروسي المفروض عليهم، يتم فرض قسراً التعليم الروسي والنموذج الثقافي والقيمي، بالإضافة إلى الأنظمة الاقتصادية والقانونية، بحيث تكون هناك ارتباطات وصلات عضوية مع موسكو ونظامها السياسي والاجتماعي المؤسساتي. وكلما طال أمد احتلال روسيا لهذه الأراضي، أصبح من الصعب على أوكرانيا استعادتها”.
يضطر الأوكرانيون ممن بقوا في المناطق التي تحتلها روسيا مرغمين على آليات التطويع والإخضاع، ومن خلال الدعاية السياسية الروسية. فقد ظهر الصحفي الروسي ألكسندر مالكيفيتش الذي فرضت الولايات المتحدة عقوبات بحقه على خلفية إتهامه بمحاولة التدخل في السياسة الأميركية عام 2018، منتصف العام قبل الماضي، في خيرسون وزابوريزهيا المحتلتين من روسيا، بغية تدشين محطات تلفزيون محلية جديدة ومدرسة للصحفيين الشباب. وتبث محطته الإذاعية المحلية في المناطق المحتلة عروضاً موسيقية وطنية للقوات الروسية، حسبما كشفت “فورين أفيرز”.
التغيير الديمغرافي والثقافي واستمالة الأوكرانيين
تراهن روسيا على تطبيع الأطفال الأوكرانيين في هذه المناطق، على المدى الطويل، مع المناهج الروسية التي يتم تعميمها، وكذا برامج التعليم والثقافة، حتى يصبح هؤلاء “مواطنين روس”. وقد تم ترحيل آلاف الأطفال من أوكرانيا “بشكل غير قانوني إلى شبه جزيرة القرم أو روسيا أثناء القتال. وقد تم تبني بعضهم بشكل، غير قانوني، من قبل عائلات روسية. في حين تواصل العديد من العائلات الأوكرانية جهودها لمعرفة وتحديد مكان أطفالها، بغرض استعادتهم”.
وتحت وطأة الحرب الثقافية التدميرية التي تقودها روسيا، تجري عملية إبادة أخرى من خلال التغيير الديمغرافي، حيث تحولت ساحة الحرية، إلى ساحة لينين في مدينة ماريوبول، والأمر ذاته مع شارع ميوتيدا، الذي أمسى اسمه “الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر” في إشارة لثورة البلاشفة التي أنهت الحكم القيصري وأدخلت روسيا في الحقبة الشيوعية السوفييتية.
اللافت أن روسيا تنفذ جملة إغراءات إلى جانب السياسة القمعية، لمحاولة إنجاح خططها في التغيير الديمغرافي والثقافي، واستمالة الأوكرانيين لحيزها، وذلك من خلال نظام “الرعاية الاجتماعية ورواتب الدولة التي هي في روسيا غالباً ما تكون أكثر سخاءً من النظام في أوكرانيا”، بحسب الصحيفة الأميركية، وبما يهدف إلى “كسب تأييد الشرائح الأكثر فقراً من السكان والمتقاعدين”. وفي نهاية العام الماضي أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا ستنفق أكثر من تريليون روبل (حوالي 11 مليار دولار) سنوياً على المناطق الأربع التي ضمتها.
إذاً، تمارس روسيا الممارسات ذاتها لدول الاستعمار قبل إقرار القوانين الدولية بشكلها الحديث، في مناطق استولت عليها، بينما أعلنت ضمها عام 2022 من أوكرانيا، كما يقول الباحث المختص بالشأن الدولي عمر الجنابي، وهذا “للأسف يشمل البنية الأساسية للمجتمع، حيث يتعرض التعليم والثقافة إلى تغييرات تتناسب مع رؤية المستعمر وأفكاره التي يريد من خلالها تغيير بنية المجتمع، وهذا ما حصل ويحصل في المناطق الأربعة التي احتلتها روسيا في أوكرانيا، وانعكس ذلك على النخب المجتمعية بدرجة أساس والمجتمع بشكل عام”.
ويضطر هؤلاء إلى الخضوع وتقبل ضخ الأفكار والمناهج التي فرضتها عليهم روسيا، وهذا أصعب ما قد يواجهه أي مجتمع، بحسب الجنابي في حديثه لـ”الحل نت”، وما يواجهه الشعب الأوكراني في تلك المناطق أمر صعب على مختلف المستويات وخصوصاً الجانب النفسي.
كما أن هيمنة روسيا على وسائل الإعلام وشبكات الإنترنت وفرض رقابة شديدة على حرية الرأي والتعبير وملاحقة المخالفين ومحاسبتهم، أمر تحترفه موسكو هناك باعتبارها دولة “بوليسية واستخباراتية، بدرجة أساسية، وهي تركز بشكل كبير في الوقت الراهن على بث كل ما يمنع ظهور أي حركات تمرد داخلية من السكان، وأسلوب الترهيب والترغيب قائم من خلال محاسبة وملاحقة مخالفي قواعدها وقوانينها العرفية في مناطق سيطرتها من جانب، ومنح معظم السكان وثائق روسية رسمية، من جانب آخر، لبعث شعور خاص برغبتها في أن يكونوا جزءاً من المجتمع الروسي. وهذه هي بداية سلخهم عن مجتمعهم”.
المشكلة الأخرى التي يواجهها السكان، أن من “يندمج ويصبح جزءاً من المشروع الروسي”، سيخضع لعقوبات ومحاسبة من أوكرانيا إذا جرى الاتفاق على إنهاء الحرب وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وهذا “هاجس كبير” بالنسبة لمن يحاولون بدء حياة جديدة مع من يحكمهم أياً كان، على أساس أنهم لا يعرفون ما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل. وذلك في وقت تشير فيه التقارير إلى أن روسيا تتصرف في المناطق الأربعة وكأنها باقية إلى الأبد، وأنها لن تتخلى عن هذه الأراضي. يقول الجنابي
كل ذلك تمارسه موسكو، يشكل المزيد من العبء على الأوكرانيين، إلى جانب المعاناة الاقتصادية جراء الحرب، وعدم الاستقرار، وأزمات الوقود والصحة والتعليم، وباقي مجالات الحياة المتدهورة بعد ثلاث سنوات من الغزو الروسي.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.