لا يعيش الصحفيون والباحثون والناشطون والكتّاب بصورة طبيعية في لبنان، لأنه بمجرد التعبير عن رأيهم المناهض لـ”حزب الله” يجدون أنفسهم متّهمين إما بالتعامل مع إسرائيل أو تُلصق بهم تهمة مساعدة الإرهابيين.

آخر ضحايا هذا الواقع المرير كان الباحث مكرم رباح، وهو أستاذ محاضر في كلية التاريخ في الجامعة “الأميركية” في بيروت، علماً أنه ليس الأول الذي يتعرّض للملاحقة القضائية “المسيّسة” بتأثير من “حزب الله”، ولن يكون الأخير في مواجهة المعارضين لنهج هذه الميليشيا المدعومة من إيران.

كيف وصل رباح إلى هنا؟

كان رباح يعبّر عن رأيه في مقابلة إعلامية فقال: “في 8 تشرين الأول/أكتوبر، وباعتراف من حسن نصرالله، قال بنفسه: نحن فتحنا هذه الجبهة، وبالتالي أصبح الرد الإسرائيلي مبرراً لناحية القانون الدولي”. 

رجل يقف لالتقاط صورة مع قطع من الورق المقوى لحسن نصر الله (يسار)، زعيم حزب الله الشيعي اللبناني، ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، معلقين من قبل متظاهرين لبنانيين في وسط بيروت في 8 أغسطس 2020، خلال مظاهرة ضد قيادة سياسية يتهمونها بالمسؤولية عن الانفجار الوحشي الذي أودى بحياة أكثر من 150 شخصا وشوه العاصمة بيروت. (وكالة فرانس برس)

وتابع رباح بمعرض السخرية: “القول بأن لإسرائيل أطماعاً بأرضنا، يا ليتها تأتي وتأخذ نهر الليطاني، يكون ذلك أفضل من تحوله إلى مجرور، فالكلام على أن الهدف الإسرائيلي الوحيد هو لبنان، غير دقيق، فالإسرائيلي كان راضياً بأن يتحول حزب الله إلى حرس حدود على حدوده الشمالية، ولكن عندما وصله قرار من إيران بفتح الجبهة كي لا يصغروا في أعين الرأي العام العربي والإسلامي، قام بذلك”. 

وختم رباح حديثه، “نحن لدينا قدرة على استعادة المناطق اللبنانية المتنازع عليها بالدبلوماسية، كما حصل مع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين في اتفاقية الترسيم، وحزب الله بالنسبة لعقليته نحن جميعاً خونة، ينظر إلينا كما نظر لـ لقمان سليم وقتله وقتل غيره، وسمير قصير بالنسبة له صهيوني”.

حتماً كان هذا الكلام جريئاً للباحث رباح، إلا أن عشرات الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي يقولون أكثر من ذلك، ويحمّلون “حزب الله” مسؤولية ما يحصل في لبنان من حروب وانهيار وبؤس وموت، لكن “الحزب” يعرف أن بعض الأشخاص يعتبرون مؤثّرين على الرأي العام أكثر من سواهم. 

لذلك يختار أحياناً كتم أفواههم إما باستخدام القضاء والقانون بأسلوب تعسفي عبر سيطرته على المحكمة العسكرية، أو من خلال الاعتداء الجسدي وأحياناً الاعتداء المعنوي عبر جيشه الإلكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي.

وما إن انتهت المقابلة مع رباح حتى تلقّى استدعاء من المديرية العامة للأمن العام اللبناني للمثول أمام دائرة الأمن القومي، وقد سئل خلال التحقيق عن معلومات أدلى فيها عن “حزب الله” وأسلحته، فرد بأن هذه المعلومات واردة في الصحف. وأثير موضوع هجومه على “الحزب”، وقيل له إن كلامه “يعرّض الأمن اللبناني القومي للخطر خلال الحرب”.

العقلية السورية

عندها قرّر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي، فادي عقيقي، المقرّب من “حزب الله”، توقيف مكرم رباح ونقله إلى المحكمة العسكرية بعد اتهامه بالعمالة لإسرائيل ومطالبته بتسليم هاتفه الذي لم يكن بحوزته. إلا أن رباح ومحاميه رفضا ذلك، فتمّ إخلاء سبيله مع تركه رهن التحقيق!

شاشة تلفزيونية في مخيم البرج للاجئين الفلسطينيين تبث خطاباً للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 5 يناير/كانون الثاني 2024 في بيروت، لبنان. (تصوير مروان طحطح/غيتي)

من المؤكّد أن قضية رباح تحوّلت إلى قضية رأي عام وانتهاك لحرية التعبير، ولاقى موجة عارمة من التضامن، أكّدت غضب الشعب اللبناني من أداء “حزب الله” الذي يُذكّر بتصرفات النظام الأمني اللبناني السوري خلال حقبة الوصاية الممتدة من عام 1990 حتى 2005.

في هذا السياق، خصّ مكرم رباح موقع “الحل نت” بحديث خاص قائلاً: “نعم يجوز التشبيه بين تصرفات النظام السوري وحزب الله، إلا أن النظام السوري كان، على الأقل، يستخدم الدولة اللبنانية ولم يدمّرها بالكامل، إنما الحزب يعمل على تدميرها على نحو كامل، مما يجعل منه نظاماً أشرس وأخطر على الحريات”.

ورغم ملاحقة رباح، إلا أنه لم يتخلَّ عن شجاعته، مؤكداً أن “تهمة التعامل مع إسرائيل هي دائماً تهمة معلّبة ومجهّزة ليتّهومننا بها، وخصوصاً عندما يخسرون في أي نقاش، وإذا كانت مواقفي التي تفنّد ذريعة الحزب بالاحتفاظ بسلاحه هي تهمة، فأنا أرضى بأنني أحرّض أن يكون في لبنان دولة وقانون واحتكار الدولة للسلاح”.

ولا يعتبر رباح أن القضاء العسكري الجهة الصالحة لمقاضاة ناشطي الرأي، ويوضح أن “هذه المحكمة يجب أن تكون حصراً لمواضيع العسكريين، ونحن في مؤسسة الشهيد لقمان سليم عملنا كثيراً على ضرورة إلغاء أو تعديل مهام المحاكم الاستثنائية التي تُعتبر ضد حقوق الإنسان، وانتقادنا ليس للجيش اللبناني، إنما بسبب تسخير القضاء العسكري كأداة لقمع كتّاب الرأي والناشطين كما حصل معي منذ أيام قليلة”.

وما لا يعرفه كثيرون، هذه ليست المرة الأولى التي يتعرّض فيها رباح لاضطهاد “قضائي” مسيّس، وهو يُستهدف للمرة الرابعة على التوالي. ويُلفت إلى أن “ما أزعجهم أنني سمّيت الأمور بأسمائها، وليس صحيحاً أن البيئة الشيعية كلّها مع حزب الله والسلاح، لذلك علينا تنقية هذه السرديّة، فـ”الحزب” فاشيّ في جوهره ويميل إلى إلغاء الرأي الآخر”.

من الواضح أن ما أراح مكرم رباح هو الدعم الكبير الذي لاقاه من اللبنانيين، وهؤلاء يشعرون بالوجع بسبب تجارب سابقة طالت تحت ذريعة “التعامل مع إسرائيل” كل من الممثل اللبناني زياد عيتاني والناشطة كيندا الخطيب والإعلامية ليال الاختيار والكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف وغيرهم. 

ويشير رباح إلى أن “هذا ما يؤكّد بأن الحرية لا تزال أهم من الخبز في لبنان، قد نختلف مع بعضنا على طريقة إصلاح النظام، إلا انه ليس هناك خلافاً على معنى لبنان هو الحرية”.

ليس الموضوع شخصياً، وفق مكرم رباح، “فكل من يرفض الخضوع لسردية حزب الله سيجد نفسه عرضة للاتهام، وبالتالي علينا التحصّن بمعرفة القانون ونتوحّد في إطار جبهة سيادية عابرة للطوائف، كي نذكّر الشعب اللبناني بأن لا شيء يحمينا سوى الدستور والقانون”.

طوفان “حزب الله” ضد اللبنانيين

وما لُمس بأن رباح ليس خائفاً على نفسه، إنما على الشعب اللبناني الذي لم يبلغ مرحلة أن يستعيد زمام المبادرة وينتزع لبنان من هذا الاحتلال الإيراني واحتلال الفساد لمؤسساته الدستورية وفي مقدمتها البرلمان والقضاء اللبناني.

أشخاص يحملون لافتات ينظمون احتجاجًا خارج قصر العدل في بيروت وهم يرددون شعارات ضد “حزب الله” في بيروت.

من جهته، يؤكّد الصحافي المعارض لـ”حزب الله”، طوني بولس، لـ”الحل نت”، بأنه “دائماً هناك مكرم رباح، ويتجسّد ذلك بكل خصوم الحزب وكل ناشط اتخذ القرار بمواجهة أي اعتداء على الدولة ويعمل لسيادة القانون والمؤسسات”. 

وهذا ما يتناقض مع دور “حزب الله” الذي لا هدف لديه سوى تدمير الدولة اللبنانية ليتمكّن من السيطرة عليها، وخطورة الموضوع أن “الحزب” قادر اليوم على استخدام أجهزة الدولة والمؤسسات الرسمية لتحقيق مآربه وترهيب الخصوم عبر الدولة.

ويرى بولس، أن تهمة التعامل مع إسرائيل هي تهمة مطاطة، بل غبّ الطلب يستخدمها “الحزب” بمواجهة الرأي العام الذي يعارضه، علماً أنه ليس القضاء العسكري تحت سيطرته فقط إنما كل القضاء اللبناني، بدليل أن كل الاغتيالات السياسية التي حصلت في الأعوام الفائتة لم تتحقق العدالة فيها بسبب الفوضى القضائية والتفلّت من العقاب نتيجة استخدام “حزب الله” للقضاء بما يناسبه.

أما المحامي شربل شواح، فذكر لـ”الحل نت”، أنه “عملياً بات كل ما له علاقة بالتعامل مع إسرائيل، من اختصاص المحكمة العسكرية لأنه يعتبر أمراً له طابع أمني، لكن نحن نعرف كمحامين أن هذه المحكمة تنظر في هذه المواضيع ليس بحسب القوانين المرعية الإجراء وحق الدفاع، وهذا مؤسف على صعيد حقوق الإنسان”.

مكرم رباح ليس المعارض الشيعي الأول، فقد اضطهدوا الناشط لقمان سليم سابقاً واتهموه بالعمالة حتى استشهاده، والله يحمي مكرم وكل الشباب التي تعمل في السياسة اليوم لأنها صارت مكلفة، وخصوصاً أن الخصم لا يتعاطى السياسة فقط بل الأمن أيضاً.

المحامي شربل شواح

ما يُجمع عليه الشعب اللبناني، باستثناء بيئة “حزب الله” الضيّقة، أن “الحزب” ينتمي لأنظمة بائدة دكتاتورية شمولية، قد سبقها الزمن وهو وهي بقيا يغطون في عصور الظلام، بينما العالم تغير ويتقدم ويتطور باضطراد، وتخطى تلك الأزمنة الغابرة التي كانت تحكم بالسيف، وتُحاسب على النوايا، وليست قادرة على مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. 

ولم تأتِ عملية تخوين بعض اللبنانيين، من كل الطوائف، وآخرهم مكرم رباح، سوى نهج الخائف الخانع في زوايا التاريخ العفنة، والذي غير قادر على مواجهة الحقيقة المطلقة، بأن الشعب اللبناني سئم نهجه والحياة الهادفة إلى الموت، لأن هذا الشعب توّاق للحياة فيحبها ويعشقها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات