ما يزال فضاء السوشيال ميديا يضج تحت وطأة “تريند” مركز “تكوين” الفكر العربي، والذي انعقد مؤتمره التأسيسي على مدار يومين في المتحف المصري مطلع الشهر الجاري، وكان بعنوان: “نصف قرن على رحيل طه حسين؛ أين نحن من التجديد اليوم؟”. ومما لا شك فيه أن الهجوم الذي طال المركز، يضطلع به قوى سلفية و”إخوانية” متشددة لها مصلحة في ألا تهتز أفكارها وسردياتها.

فالمركز المعني بعدّة قضايا وهموم معرفية وثقافية، منها قضايا تتعلق بـالأصوليات الدينية وتفكيك الأدبيات التي روّج لها تيار أصولي ماضوي وقف حجر عثرة أمام محاولات النهضة التي بدأت مع جيل الرواد قبل قرنين منهم طه حسين وعلي عبد الرازق وبطرس البستاني وشبلي شميل وفرح أنطون، يواجه اليوم صراعاً عنيفاً محتدماً، حيث يسعى التيار الظلامي نحو إطلاق مدافعه ويحوّل الخلاف الفكري إلى صراع تكفيري يهدد الباحثين والمؤسسين بالمركز، مرة بالعنف وتأليب الشارع والجماهير، ومرة أخرى من خلال التلويح بقضايا ازدراء الأديان والمواجهات القضائية.

“تكوين” محاولة لتشكيل معرفة تتخطى الثوابت

محاولات التشنيع بحق مركز “تكوين الفكر العربي” تماثل إلى حدٍّ كبير ما جرى مع مثقفي النهضة، حيث تم التعاطي مع أفكارهم بشكل مشبوه، فعميد الأدب العربي طه حسين الذي أسس لتيار عقلاني يعتمد على الشك وقواعد المنهج العلمي الديكارتي، واجه أزمة مع القوى الأصولية والمؤسسة الدينية التقليدية عندما وضع كتابه: “في الأدب الجاهلي”. ولم يكن هذا الكتاب سوى محاولة تأسيسية لتشكيل معرفة تتخطى الثوابت، واعتبر أن هناك مسافة شاسعة بين منهج التاريخ وبين السرديات الدينية. وثمة بَون هائل بين ما ترويه الكتب الدينية ولا سيما القرآن على سبيل القصص والوعظ، وبين ما هو في التاريخ ويحتاج لوثيقة وأدلة مادية أركيولوجية.

من فعاليات منتدى مركز “تكوين” الفكر العربي الأول في المتحف المصري الكبير بالقاهرة- “تصوير الحل نت”

غير أن وكيل النيابة المصري، محمد نور، الذي خلّد اسمه التاريخ، تمكن ببراعة شديدة أن يواجه الدعوات التي تحمل خصومة ورفض أن يخضع طه حسين أمام المساءلة الجنائية، ورفض أن يواجه الفكر بسلاح وقانون العقوبات، واعتبر أن المعرفة لا تواجه إلا بالجدل والنقاش في ساحات ليس من بينها القضاء.

وقرر قطعاً حفظ التحقيق مع عميد الأدب العربي ووجه رسالة إلى دعوات خصومه بأن يواجهونه بالفكر والجدل، وأكد على أنه لا يمكن التعاطي مع ما ذكره بأنه يعني الطعن في الدين أو ثوابت الإسلام.

وكان العميد طه حسين قال: “ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض للأذى. وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا”.

في ظل الفكر المأزوم عربياً من الناحيتين الثقافية والدينية، لا سيما ما يتصل بقضايا التحريض على أساس طائفي، والتحريض أو خرق الروابط المواطنية، فإن “تكوين” تسعى إلى أنسنة الرؤية الدينية، ووضعها في سياق غير التأويلات المتشددة المتشنجة والتي تروّج إلى أن “هدم الكنائس غير حرام شرعاً”، كما يزعم أحد قادة التيار السلفي، ياسر برهامي، والذي يقول: “حين فتح المسلمون مصر، كان جميع الفلاحين نصارى، وكان المسلمون وقتها من الجيش والجنود فقط، ولم يكن هناك انتشار للإسلام بعد، فسمحوا للنصارى ببقاء كنائسهم، كما سمح الرسول لليهود بالبقاء فى خيبر عندما فتحها، وعندما كُثر أعداد المسلمين أخرجهم منها عمر بن الخطاب، لقول رسول الله «أخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب»، ووقتها لم يكن هناك يهودي واحد في خيبر”.

وقال برهامي: “القرية التي بها نصارى، وليس عندهم مسلمون ولا مساجد، فأجازوا بقاء كنائسهم، على الرغم من أن هدمها ليس محرماً، ولكنهم وجدوا سبباً في وجود كنائس للنصارى، حيث لم يكن عدد المسلمين كافياً، وكانوا قلة، ولكن عندما سكن المسلمون الأرض وبنوا عليها مساجد، فلا يصلح أن يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب كما قال رسول الله”.

إضاءات على الأفكار العنيفة

الفكر الذي يؤدي إلى أزمة محتدمة وخطاب الكراهية بين المواطنين على أساس طائفي، ليس وحده، إنما هناك مناهج تعليمية في المؤسسات الدينية حدثت لها مراجعات بعد ضغوط صنعها مفكرون كما تقوم مؤسسة “تكوين” وأضاءت على المشكلات المتسببة فيها أفكارهم العنيفة والقديمة والتي لم تعد مقبولة في سياق تاريخنا المعاصر والحديث بعد التطور الهائل في القانون والتشريعات والحضارة.

ففي كتاب “الإقناع في حل ألفاظ أبى شجاع” والذي كان يتم تدريسه بالمناهج الأزهرية وتم تعديلها إثر ضغط نخبوي، جاء فيه: “للمضطر أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره.. واستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبياً فإنه لا يجوز الأكل منه جزماً.. أما إذا كان الميت مسلما والمضطر كافراً فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، وحيث جوزنا أكل ميتة الآدمي لا يجوز طبخها، ولا شهياً، لما في ذلك من هتك حرمته، ويتخير في غيره بين أكله نيئاً وغيره”.

بل إن الكتاب ذاته يحرض على المخالفين للإسلام ويقول إن للمسلم الحق في “قتل مرتد وأكله، وقتل حربي، ولو صغيراً، أو امرأة وأكلهما، لأنهما غير معصومين”.

تهدف مؤسسة “تكوين” إلى وضع الثقافة والفكر العربي في أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلاً وشمولية مع المجتمع العربي، ومد جسور التعاون مع الثقافات المختلفة في عالمنا المعاصر بهدف تمهيد السبيل نحو فكر عربي مستنير يقوم على قاعدة فكرية رصينة ومتزنة.

وقال إنه “يحل قطع جزء نفسه لأكله إن فقد نحو ميتة، وكان خوف قطعه أقل، ويحرم قطع بعضه لغيره من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. نعم، إن كان ذلك الغير نبياً لم يحرم، بل يجب. ويحرم على المضطر أيضاً أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم لما مر”.

“تطوير الفكر الديني”

الخطاب التكفيري المتشدد والمغلق والذي يؤدي إلى صراعات وعنف ودويلات طائفية، هذا تحديداً ما سعت له حتى الآن مؤسسة “تكوين” المعرفية الثقافية، حيث تعيد النظر في عدة قضايا، بعضها يتصل بالدين، وبعضها الآخر مرتبط بالثقافة بشكل عام، والثابت في كل الأحوال أو المشترك هو “التنوير”. بمعنى تقديم العقل وتنمية روح الإنسان بحيث يمكن أن يكون هناك هذا الفضاء الذي يجمع بين البشر بغض النظر عن الصراع الهوياتي والأيديولوجي.

ففي ظل التوترات التي تشهدها البيئة العربية والمسلمة، نتيجة ولادة الأصوليات الدينية والتنظيمات من مرجعيات متشددة، فإن النتاج الوحيد هو العنف الدموي والتوترات. من ثم، تقول “تكوين” بأن هدفها “بث روح التجديد والإصلاح في الفكر الديني، لكي يعود إلى مكانته المرموقة وتمكنه من التكامل مع مستجدات العصر”.

وبالتالي، تطوير الفكر الديني في الوطن العربي ليواكب التقدم المطلوب في جميع المجالات الفكرية والعلمية والعملية، ثم تأسيس جسور تهدف للتواصل بين الثقافة المتجددة حول العالم والفكر الديني. وذلك من خلال إعادة النظر في الموروث الديني المتسبب في عدة مآزق فكرية ودينية واجتماعية، ما أدى إلى ظهور بعض المنظمات المتطرفة.

تهدف “تكوين” أن تضع الثقافة والفكر العربي في أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلاً وشمولية مع المجتمع العربي- “الحل نت”

فتعمل مؤسسة “تكوين” الفكر العربي على تطوير خطاب التسامح وفتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين. فيما تنادي مؤسسة “تكوين” الفكر العربي عربية إلى تأسيسها مجموعة من المفكرين والباحثين العرب بهدف تعزيز قيم الحوار البناء، ودعم الفكر المستنير والإصلاح الفكري، وخلق فضاءات تقنية مناسبة تسمح بوصول منتجها الفكري المرئي والمسموع والمقروء إلى أوسع قاعدة ممكنة من الجمهور. كما تهدف المؤسسة إلى إرساء قيم العقل والاستنارة والإصلاح والحوار وقبول الآخر والإيمان بمبادئ السلام العالمي بين المجتمعات والثقافات والأديان.

كل ذلك يؤدي إلى تمهيد السبيل نحو مستقبل مشرق للمجتمعات العربية والإسلامية من خلال الثقافة والفكر الديني المستنير وما بينهما من اتصال، وبث روح التجديد والإصلاح الذي يعيد للفكر الديني مكانته اللائقة وتواصله وتكامله مع مستجدات العصر ومواكبة التقدم في كافة المجالات العلمية والفكرية والقيمية، وما يمكن أن نطلق عليه عملية توطين الثقافة والفكر ليكونا عنصراً فاعلاً مشاركاً وأساسياً في معادلة الإصلاح والتقدم والتنوير للفرد والمجتمع في بلادنا العربية.

وعليه، تهدف “تكوين” أن تضع الثقافة والفكر العربي في أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلاً وشمولية مع المجتمع العربي، ومد جسور التعاون مع الثقافات المختلفة في عالمنا المعاصر بهدف تمهيد السبيل نحو فكر عربي مستنير يقوم على قاعدة فكرية رصينة ومتزنة، وتؤسس جسوراً من التواصل بين الثقافة والفكر الديني، للوصول إلى صيغة جديدة في النظر والتعامل مع الموروث الديني باعتبار أن بعض تأويلاته القديمة أدت بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية، حيث شكلت تلك التأويلات كثيراً من أشكال وأنماط حياتنا المعاصرة بطريق مباشرة أو غير مباشرة، ما أدى إلى ظهور واحتضان مجتمعاتنا لأفكار متطرفة وتأويلات رجعية أساءت للدين الإسلامي الحنيف ولمجتمعاتنا على سواء وسعت إلى تمزيق مجتمعاتنا على أسس طائفية ومذهبية متشددة.

“تكوين” لا تعادي الدين الإسلامي

من ثم، دافع الباحث المصري وأحد أعضاء مجلس أمناء مركز “تكوين”، إسلام البحيري، بخصوص مزاعم البعض بشأن وجود علاقة بين اسم المركز وسفر التكوين اليهودي، بأن “اللي قال كده أكيد بيهذي”.

وقال البحيري إنه ليس في تصادم مع الموروثات الدينية أو التعرض لها، بل إن المركز يعمل ضمن إطار مجتمعي عريض يحتضنه ويشجعه، لتعزيز السلم المجتمعي والتعايش السلمي بين أتباع الديانات المختلفة.

وتابع: “المركز يهدف إلى بناء لبنة جديدة تضيف إلى أسس الفكر العربي وتعمل على إثرائه وتعزيز وجوده على الساحة العالمية، كما يسعى لنشر ثقافة الحوار والتسامح وتقبل الآخر، إضافة إلى رعاية المواهب الناشئة وتحفيز الطاقات الإبداعية ودعمها”.

وذكر الروائي والمفكر يوسف زيدان في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”: “انتشرت في اليومين الماضيين أكذوبة أطلقها المذعورون من مؤسسة تكوين، يزعمون فيها أن النائب العام في مصر أغلق مؤسسة تكوين، واستدعى أمناء المؤسسة للتحقيق، وهذا كذبٌ بواح، وصفاقة لا حدود لها”.

وأردف: “أقول لكم، وليس لهؤلاء الكذبة المرعوبين من الحقائق ومن استعمال العقل: يا قوم، تكوين ليست مبنى يمكن إغلاقه، هي مبادرة للتثقيف العام في البلاد العربية، ودعوة مفتوحة لإعمال العقل وإعادة بناء المفاهيم العامة وتحكيم المنطق والعقلانية، وهى تنطلق برعاية الدولة المصرية لإطفاء حرائق الكراهية المقيتة”. موضحاً أن “تكوين، لا تستهدف إطلاقاً معاداة الدين الإسلامي أو الأزهر أو الكنيسة أو المعابد الهندوسية، ولا تنوي الدخول في مهاترات المجادلة مع الذين يتكسَّبون بالعقائد الخرافية، ويخدعون بخبث أولئك البسطاء من الناس في بلادنا”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات