مع بداية عام 2024 وجد المجتمع السوري نفسه أمام جملة من التغييرات في مفاصل ومؤسسات الدولة أحدثها الرئيس السوري، بشار الأسد، كان آخرها قادة أفرع المخابرات الجوية. والملفت في الأمر أنه مع بداية العام الحالي كان هناك تصارعٌ في التغييرات على أمل أنها ربما تكون مؤثرة في الشارع السوري، وهي بالفعل كذلك، ولكنه تأثير عكسي، لأن هذه التغييرات لم تكن يوما قضية بشار الأسد الأولى، فلم يطالب السوريون بتغييرات جزئية وإنما أرادوها كلية شاملة للمنظومة السياسية والعسكرية.

عندما يشرف نظام سياسي على السقوط أو التآكل الداخلي، يلجأ إلى لعبة قديمة قدم المجتمع السياسي. وهي محاولة الطبقة الحاكمة تصدير فكرة التغييرات الداخلية لكل مفاصل الريادية في الدولة. مما يخلق نوع من الارتباك أو التضليل والأخطر من هذا ينتج نوع من إعادة الحسابات لدى الشعب، وهذا أثمن ما يريده الحاكم، أن يتصور المواطن أنه أمام يقظة يصاحبها طفرة من التغييرات الحيوية لمؤسسات الدولة، أو يتصور أننا أمام محاولة من تصحيح المسار داخل أجهزة الحكومة. 

بشكل عام، هذا ممكن في الأوقات الطبيعية، ولكن عندما يكون النظام السياسي يختنق منذ ما يقرب من عقد ونصف من الاحتجاجات والحروب الأهلية والانقسامات الداخلية، والتدخّلات الدولية. فكيف يستقبل المواطن محاولة التغييرات البائسة من الحكومة؟ وهل يعوّل عليها باعتبارها مرحلة جديدة مختلفة عن السابق؟ وما علاقة الحلفاء – روسيا وإيران – بذلك!!! 

تغييرات داخلية في المخابرات الجوية

يوم الخميس الفائت، كشفت مصادرٌ في الجيش السوري عن إجراء تغييرات طالت رؤساء أفرع المخابرات الجوية في عموم المحافظات السورية، والتي جاءت بعد حركة تعيينات كبيرة في الجيش السوري شملت التعيينات حوالي 20 منصب قيادي في الفيالق والفِرق العسكرية، من بينهم تعيين اللواء منذر إبراهيم بمنصب رئيس هيئة العمليات واللواء محمد المحمد بمنصب قائد الفيلق الثاني. 

ما الذي تكشفه تغييرات الأسد في المخابرات الجوية تجاه حلفائه؟
جنود سوريون يقفون للحراسة خارج قاعدة لمخابرات الجيش عند مدخل مدينة بعلبك التاريخية في سهل البقاع في شرق لبنان في 30 مارس/آذار 2005. (رمزي حيدر/ غيتي)

العميد الركن محمد نافع بلال بات رئيساً لفرع المهام الخاصة في إدارة المخابرات الجوية وهو شقيق اللواء الركن غسان نافع بلال رئيس مكتب أمن الفرقة الرابعة دبابات. كما تم تعيين اللواء جهاد اليوسف قائدا للفرقة 17 ورئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في المنطقة الشرقية.

التعيين الأبرز كان للعقيد دريد عوض الذي ينحدر من بلدة الربيعة بريف حماة، رئيساً لفرع المخابرات الجوية بمدينة حماة وكان يشغل سابقاً منصب رئيس قسم الأشغال الناري في قوات الفرقة 25 مهام خاصة.

أيضا تم تعيين العميد رضوان صقار المنحدر من بلدة بيت ياشوط في ريف منطقة جبلة بريف محافظة اللاذقية رئيساً لفرع المخابرات الجوية في مدينة حمص، وكان يشغل منصب رئيس فرع المخابرات الجوية في حماة سابقاً.

أما العميد الركن رامي منير إسماعيل، المنحدر من مدينة اللاذقية، عُيّن رئيساً جديداً لفرع المخابرات الجوية في المنطقة الساحلية. وكُلّف العميد الركن فؤاد سليمان رئيساً لقسم المخابرات الجوية بالقامشلي. وعُين العميد ظافر سليمان بدلا من العميد الركن خردل أحمد ديوب رئيسا للمخابرات الجوية بدرعا.

سلسلة التعيينات الجديدة شملت، العميد جهاد زعل كرئيس فرع المخابرات الجوية دير الزور. والعميد حبيب علي رئيسا لفرع المخابرات الجوية في مدينة حلب. وتعيين العميد خردل أحمد ديوب فرع التدريب بدمشق، ويعتبر هذا الفرع مسؤول عن تدريب ضباط وعناصر المخابرات وإجراء الدورات لهم، والجدير بالذكر أن منتسبي أجهزة المخابرات السورية يقومون بعمل دوراتهم في هذا الفرع قبل تسليمهم مهامهم في أجهزتهم.

وبالمثل، عُيّن العميد أحمد جبارة رئيسا لفرع التحقيق (هيئة التحقيق الرئيسية في المخابرات الجوية)، والعميد رامي حمد رئيسا لفرع المخابرات الجوية بالسويداء. والعميد بسام الدكنجي لفرع المنطقة الجنوبية في حرستا، المسؤول عن دمشق وريفها ودرعا والقنيطرة والسويداء.

كما تم تعيين العميد حسام رستم الفرع الفني 211، وهو فرع الحاسب الآلي أو فرع الكمبيوتر ومختص بالإنترنت وهو تابع للمخابرات الجوية والمخابرات العسكرية، والعميد الركن أحمد شعبان رئيساً لفرع المخابرات الجوية بدمشق، وهو مقرّبٌ جدا من إيران.

لماذا التغييرات؟

رفضت شريحة واسعة من الشعب السوري على وسائل التواصل الاجتماعي هذه التغييرات ليس لرفضها الأشخاص، وإنما لأن هذه التغييرات اختزلت ما يريده الشعب في عدد من القرارات الهيكلة الشكلية بعيدة عن جوهر ما يريده الشعب من الحل السياسي والسلمي للمشكلات السياسية والاقتصادية. 

عزل علي مملوك وتنصيب كفاح ملحم مسار عربي - إيراني أم تعليمات روسية؟ (2)
اللواء علي مملوك ووفد من السفارة الإيرانية في دمشق يكرمون أبو جعفر الشيعي قائد إحدى الميليشيات التابعة لإيران في حماه على عمله في ريف حماه والبادية.

بل أن البعض من السوريين رأوا أن هذه التغييرات ما هي إلا ترجمة حقيقية لهروب حاكم دمشق من مطالب الشعب وفشله في الاستجابة لها. الإعلامي السوري، عمار قطب، ذكر لـ”الحل نت”، أن هذه التغييرات في حقيقتها ما هي إلا خطوة في مشوار دمشق الساعي لإعادة هيكلة قواها الأمنية والسياسية، وقفا ما يتصوره الأسد أنه ضروري للمرحلة القادمة. 

وفقا لقطب، فإن الشعب السوري ليس ضمن حسابات الأسد وإنما ما يريده الأسد هو البقاء في السلطة، ولهذا ربما تكون هذه التغييرات السطحية جاءت بعد طلب من حلفاء الأسد، لأنها تحقق لهم الاستقرار خاصةً بعد أن يصبح رجالهم مسيطرون على قبضة الحكم. 

ووصف قطب، هذه التغييرات بأنها تشبه لعبة الكراسي المتحركة، فكلّهم وجوه قديمة تم تحريكها وفقا لمصلحة الأسد وحلفائه. وبحسب المراقبين فإن الأسد لديه رؤيته التي دفعته لإجراء هذه التغييرات الهيكلية الشكلية؟ لا سيما بعد تصاعد غضب إيران من “جواسيس الجيش السوري”.

يقوم الأسد بإعادة هيكلة النظام وتغيير بعض الأجهزة حتى تكون هذه التغييرات رسالة إلى جهات متعددة؛ أولاً، يريد إظهار قدرته على السيطرة على هذه الأجهزة، وأنه يعمل على إعادة هيكلتها لتعزيزها وجعلها أكثر فعالية في مواجهة أي محاولة تمرّد، سواء من قبل ميليشيات غير منضبطة أو حركة معارضة شعبية. 

علاوة على ذلك، يستخدم الأسد هذه الخطوة للترويج لالتزامه بالإصلاح، حتى في أجهزته الأمنية سيئة السمعة، وهي خطوة تجميلية تهدف إلى استرضاء الدول العربية والغربية التي انخرط معه في جهود متعثرة للتطبيع الدبلوماسي منذ عام 2023. على أمل أن تؤدي مثل هذه التحركات إلى تخفيف العقوبات الاقتصادية التي تواجهها، خاصة أنه لم يتحقق هذا ولا أي من أهدافها الأخرى للتطبيع حتى الآن.

يرى الناشط السوري، ماجد أبو ضيف في تحليله لهذه التغييرات، أن الأسد يتصور أن هذه الإجراءات ستكون لها انعكاسات إيجابية على نظامه والحدّ من الفساد أو القضاء عليه، وهذا لن يكون لأن رجال الأسد هم مصدر هذا الفساد الاقتصادي والأمني، وهذه التغييرات لن تغيّر من الأمر شيئا لأنها تغييرات بأدوات قديمة.

روسيا لها نصيب الأسد

لا يمكن الحديث عن أي تغييرات داخل سوريا دون أن يكون لروسيا دور، وخصوصا بعد تسرّب معلومات تفيد بأن “الكرملين” الروسي وطّد علاقاته مع الأسد بعد تشرين الأول/أكتوبر الفائت، خشية من اتفاق إيراني- أميركي.

الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب "البعث"
الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماع انتخاب اللجنة المركزية لحزب “البعث”

ولهذا يأتي الحديث عن هيكلة المؤسسة الأمنية متساوقا مع المقترح الروسي حول إصلاحها وضم فصائل المعارضة السورية إلى جيش السوري على غرار ضم “فرقة شباب السنة” التي يقودها أحمد العودة للعمل تحت لواء القوات الروسية قبل أن يتحول اسمها إلى اللواء الثامن وتعمل تحت إمرة المخابرات العسكرية في جنوب سوريا. 

بالطبع فإن الحديث عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية سيلقى رواجاً كبيرا من قبل بعض الدول التي تسعى لطي صفحة الماضي مع الأسد. وكان مراقبون في دمشق أكدوا وجود ضغط روسي وعربي على دمشق لإصلاح مؤسسات الدولة وتخفيف القبضة الأمنية، وأيضاً تخفيف انتشار الحواجز الأمنية على الطرقات، كخطوة أولى في طريق الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد المستشري في جميع مفاصل الحياة العامة. 

لهذا عيّن الأسد عدداً من الضباط المقرّبين من روسيا في مناصب حساسة، شملت قادة ورؤساء فروع المخابرات الجوية في المحافظات والمناطق الخاضعة لسيطرته، بما فيها المحافظات الشمالية والوسطى. 

وأشارت المصادر إلى أن الضباط الذين جرى تعيينهم، مقربون من روسيا، معتبرين أن هذه التعيينات تأتي في إطار السيطرة من روسيا على أقوى فرع مخابرات في سوريا، وهو “المخابرات الجوية”، حيث يحمل هؤلاء الضباط الولاء لروسيا.

النفوذ الإيراني والتغييرات

لفت مصدر مطلّع في الجيش السوري، إلى أن روسيا تحاول حالياً سحب الأفرع الأمنية السورية لمصلحتها من خلال هذه التعيينات الجديدة، إضافة إلى سحب الفرق العسكرية أيضاً من النفوذ الإيراني، ولا سيما أنها سحبت “القوات الخاصة” في صفوف قوات الأسد مؤخراً بعد تعيين اللواء سهيل الحسن قائداً لها.

بعد اعتراف رسمي لماذا يلتقي بشار الأسد مع الأميركيين؟ (4)
مندوبو وسائل الإعلام يشاهدون على الشاشة الرئيس السوري بشار الأسد وهو يلقي كلمة أمام القمة العربية في جدة في 19 مايو/أيار 2023. (تصوير فايز نور الدين/وكالة الصحافة الفرنسية)

عدة عوامل جعلت من الأسد يوازي الكفة الروسية بالكفة الإيرانية عبر تعيين قادة أفرع المخابرات الجوية في جنوب سوريا وشرقها من الموالين لطهران، خصوصا بعد أن طفت على السطح تفاصيل تصاعد خلافات سوريا وإيران، بسبب ملفين رئيسيين، هما “جواسيس دمشق”، وحرب غزة.

كان النظام الإيراني قلقا، على الأقل من المبادرة العربية التي دعت إلى انسحاب القوات الإيرانية من سوريا، وتقليص الوجود العسكري لطهران، واستعادة الممتلكات التي استحوذت عليها إيران في سوريا، وانسحاب المليشيات الشيعية لمعالجة مخاوف دول الجوار بشأن تهريب المخدرات من سوريا.

إلا أن قطب يرى، أن الإجراءات الأمنية الأخيرة ما هي إلا رغبة إيرانية خاصة بعد أحداث السفارة الإيرانية، حيث تم توجيه أصابع الاتهام لضباط من القوات التابعة للأسد، في إعطاء الإسرائيليين معلومات عن تحركات “الحرس الثوري” في سوريا، ولهذا ضغطت إيران على الأسد من أجل القيام بهذه التغييرات في القواعد الأمنية. 

فوفقا لما نقله موقع “عربي بوست” عن مسؤول أمني إيراني، فإن “التحقيقات الاستخباراتية وتحقيقات الحرس الثوري الإيراني، بالتعاون مع حزب الله، أكدت وجود خيانة في الدوائر الأمنية المقرّبة من بشار الأسد، وكانت هي السبب في اغتيال إسرائيل لكبار قادة الحرس الثوري في دمشق”.

المصدر الأمني كشف عن المواقع التي يشغلها “جواسيس الجيش السوري” كما سمّتها المصادر الإيرانية في سوريا، حيث خلُصت تحقيقات “الحرس الثوري” بأنهم متواجدون في المخابرات العسكرية السورية، وفي مكتب بشار الأسد نفسه.

 مصدر في “الحرس الثوري” الإيراني، لفت إلى أنهم منعوا أيضاً مشاركة معلومات تواجد القادة وخطط سيرهم مع الحكومة السورية ومع الروس أيضاً، حتى إن قادة “حزب الله” اللبناني وقادة الفصائل العراقية الذين حلوا مكان الإيرانيين، تم منعهم من مشاركة خطط سيرهم مع الحكومة السورية.

من ناحية أخرى، هذه التعديلات أو التغييرات تصبّ في مصلحة إيران، لأن هذه التغييرات سوف تسهّل على إيران سوق “الكبتاغون” ونقله دون ملاحقة شبكاته وعدم ضبطه ودون أي إثبات لارتكاب أي من جرائم في حقّ السوريين. 

حلفاء الأسد الأساسيين (إيران وروسيا) هم العامل المؤثّر الأكبر في إدارة هذه التغييرات. فإن التأثير الأكبر على مسار إجراء التغييرات يقع في أيدي حلفاء دمشق، الذين يؤثرون بشكل مباشر على نوعية الأشخاص الذين سيشغلون مناصب معينة، أو إنشاء هياكل ومناصب جديدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة