تفيد العديد من التقارير والرؤى بأن التراجع الظاهري للإسلام السياسي لا يعني التراجع الفعلي داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وأنه في حاجة إلى فرصة تمكنه من العودة مرة أخرى، وتستند هذه الرؤى إلى تاريخ الإسلام السياسي الذي يشهد ببراعته في تنفيذ التقية أكثر من الشيعة أنفسهم، وذلك من خلال التخفي داخل البنى الاجتماعية وخلف التنظيمات الدولية والظهور في أول فرصة تتاح له.

ومنذ أن تم إعلان تأسيس مؤسسة “تكوين” الفكر العربي التي جاءت بأهداف مصاغة حول قبول الآخر، وطرح الفكر المستنير، وتأسيس قيم السلام العالم ذات الانطباع التنويري، وسعى الإسلام السياسي إلى ترتيب صفوفه من خلال طرح نفسه بوصفه حائط صد لحماية العقيدة، والحارس الوحيد والمشروع للدين الإسلامي والأمة الإسلامية.

في الوقت نفسه يعمل على شيطنة المؤسسة وتقديمها في صورة عدو للإسلام، ليبني من خلالها شرعية لوجوده بوصفه ممثلاً للإسلام، ويضع المجتمع المصري في حالة تعاطف شديدة معه، بل يجعله مدان له ويطالبه بالوقوف معه لأنه يمثل الدين، مستخدماً في ذلك سلاح التكفير المعتاد له، مما يدفع المجتمع المصري للتعاطف معه بوصفه ممثل الدين كما حدث سابقاً، وخوفاً من التكفير كذلك.

“التكفير” بوصفه أداة التيارات الإسلاموية

عادة ما يستخدم الإسلاميون التكفير باعتباره أداة خضوع للمجتمع وذلك من خلال إعلان أنفسهم بوصفهم أصحاب العقيدة والعلم الديني، ومن ثم الموكلين بتحديد الطريق القويم للمجتمع عملًا بمبدأ الحق يعرف بالرجال، ويستخدمون في هذا بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية. وفي المجتمعات العربية ذات الهوية الهشة الساعية لدمج العقيدة بالهوية، يحاول الفرد الامتثال للأوامر الصادرة من العارفين خوفاً من التكفير، أو الخروج من الملة والدين.

من فعاليات منتدى مركز “تكوين” الفكر العربي الأول في المتحف المصري الكبير بالقاهرة- “تصوير الحل نت”

وكان للتكفير دور كبير هذه المرة في مساعي الإسلام السياسي للعودة إلى المشهد العام من جديد، وذلك بوضع مؤسسة “تكوين” كمرادفة للتكفير، ومن ثم يعود مرة أخرى كما يفعل في كل مرة، كتكرار للتجربة النبوية التبشيرية، وحمل الإيمان للناس مقابل التكفير؛ أي أن يكون هو الإيمان المقابل لمؤسسة “تكوين” التي تمثل الكفر، ومن ثم يكون رفضه رفضاً للإيمان وقبول مؤسسة “تكوين” قبولاً للكفر.

وأكد هذا أستاذ الدراسات الإسلامية بـ”جامعة ماربورغ” الألمانية، الدكتور عاصم حفني في تصريح خص به “الحل نت” قائلاً: تقديم المؤسسة من خلال وجوه غير مقبولة نسبياً، إضافة إلى “المزاح” الذي مرره كل من المفكر السوري فراس السواح والمفكر المصري الدكتور يوسف زيدان بتفضيل أنفسهم على أحد الرموز المصرية وهو عميد الأدب العربي، طه حسين، أعطى فرصة ذهبية للتيارات الإسلاموية التي تم لفظها إثر توليها الإدارات السياسية وحضورها الطاغي في المجال العام بالعديد من البلدان العربية، للظهور مرة أخرى والعودة إلى المشهد العام، وتقديم التنوير على أساس أنه العداء مع الدين، أو تنحي الدين من المجتمع.

واستغل هذه التيارات الظلامية الكارهة للتنوير وجود هذه الشخصيات وربط التنوير بمعاداة الدين، ومن هذه التيارات الإسلام السياسي، الذي يجد في تدشين هذه المؤسسة التنويرية ثغرة لإعادة ترتيب صفوفه من جديد، وظهر هذا بوضوح في الحضور الإسلاموي في صورته المعتادة بوصفه حارساً للدين، وهذا ما قدمه الشيخ محمد حسان فيما قاله، ولا نزنه إن كان علمياً أو صحيحاً أو غير ذلك، ولكنه دخل في مصاف الدفاع عن الإسلام وعن العقيدة، وهي ثغرة كثيرا ًما يعيدون ترتيب صفوفهم من خلالها، هذا ما أضافه الدكتور حفني بعبارات واضحة.

مصر معقل “الإخوان”

لا يمكن تفسير حالة العداء غير المفهومة والمبررة لمؤسسة “تكوين” على أنه نتيجة الركود الثقافي وحده، ولكنه يصبح مفهوماً في إطار الخصوصية التي تعرفها مصر مع “الإخوان”، حيث تشكلت جماعة “الإخوان” في مصر، وسعت هذه الجماعة الإسلاموية في فترة حكمها لمصر أن تكون مصر الحاضنة لجماعة “الإخوان”، فهذا العداء في جانب كبير منه لفهم المركزية التي تعرفها مصر من قبل “الإخوان”، وعدها معقلًا لهم.

والواقع أنه فضلاً عن براعة الإسلام السياسي في لعب لعبة التكفير والعودة من خلفها، فإنه تغلغل داخل المجتمع المصري وفرض معايره التي جعلت المجتمع في العديد من الأحيان يزايد على المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر)، وفي غالبية الأمر يكون حاضراً خلف المشهد العام ويعمل في الخفاء حسب عادته.

وأكد هذا الدكتور حفني لموقع “الحل نت” قائلاً: مثلت هذه المسألة فرصة انتقامية لـ”الإخوان المسلمين” ليشوهوا أصحاب التنوير؛ حيث يعد التنوير هدم لمشروعهم الساعي إلى الحكم بصورة دينية، والتنوير يسعى بشكلٍ مباشر إلى عزل الدين عن الدولة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فكل الرموز التنويرية الموجودة في مؤسسة “تكوين” كان لها دور في سقوط “الإخوان”، وكانوا يسعون لذلك، فهناك الحلقات التي قدمها الإعلامي المعروف إبراهيم عيسى على سبيل المثال، وكذلك الدكتور يوسف زيدان.

بالإضافة إلى ما أفاد به الدكتور حفني فإن التيارات الإسلاموية ترفض أن تسمح لغيرها بالمشاركة في صناعة الوعي العام في مصر، خاصة أنها حققت انتصارات كبيرة على المستوى الاجتماعي تظهر في حالات التكفير ورفض التفكير الموجودة في الشارع المصري، التي قد تصل إلى المزايدة على الإمام شيخ “الأزهر”، والعديد من أساتذة “الأزهر” ومشايخه، وذلك نتيجة لخضوع الوعي المصري العام للصياغة السلفية من قبل الشيوخ السلفيين.

الجهاد الفيسبوكي والكتائب الإلكترونية

عرف الإسلاميين قيمة الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي في فترة الانتفاضات العربية منذ عام 2011، لأن هذه المواقع كانت الشرارة التي فجرت هذه الانتفاضات، كما أن هذه المواقع والمنصات تمثل بديل لإغلاق منافذ الإعلام أمامهم، لذلك سعت إلى تكوين إدارات أشبه بالكتائب تسعى للجهاد الإلكتروني وتقديم رؤيتها وأفكارها من خلال هذه الكتائب.

خروج حالة “الجهاد الفيسبوكي” ضد “تكوين”، تمثل مقدمة لحضور الإسلام السياسي إلى المشهد العام من جديد، حيث بدأ الأمر بتكفير المؤسسة وشن الحملة عليها لينتقل إلى الرد وحماية الدين.

وحالة الانتشار السريع والمبالغ فيه لمؤسسة “تكوين” بوصفها مؤسسة تكفير على منصة “الفيس بوك”، رغم إصرارها على أنها مؤسسة دراسات وأبحاث تسعى إلى تطوير خطاب التسامح وخلق فضاءات علمية وبحثية جيدة، توضح دور هذه الكتائب الإلكترونية ففي صناعة هذا التصور، حيث طرحت هذه الصورة بوصفها بديهية وفي غير حاجة إلى برهان، بسرعة مدهشة.  

وحسب ما صرح به الدكتور عاصم حفني لـ “الحل نت” فإن العمل الخفي للإسلام السياسي يظهر في حالة التربص التي قوبلت بها المؤسسة قبل أن تبدأ عملها الفعلي، وفتح باب شيطنة المؤسسة على مصراعيه، واستغلال مزاح تفضيل السواح وزيدان نفسيهما على طه حسين، رغم أن هذه التيارات نفسها تكفر طه حسين، ولكنها استغلت الموقف وسعت إلى شن حملة “جهاد فيسبوكي” إذا صح التعبير، من “الكتائب الإلكترونية” للإسلام السياسي، وشارك في هذه الحملة العديد من المتعاطفين، أو المسلمين البسطاء الذين وصلهم أن هذه المؤسسة هدفها ضرب الدين أو تفكيك الأمة الإسلامية.

خروج حالة “الجهاد الفيسبوكي” هذه تمثل مقدمة لحضور الإسلام السياسي إلى المشهد العام من جديد، حيث بدأ الأمر بتكفير المؤسسة وشن الحملة عليها لينتقل إلى الرد وحماية الدين- “إنترنت”

وخروج حالة “الجهاد الفيسبوكي” هذه تمثل مقدمة لحضور الإسلام السياسي إلى المشهد العام من جديد، حيث بدأ الأمر بتكفير المؤسسة وشن الحملة عليها لينتقل إلى الرد وحماية الدين، ومن ثم فتح ممر آمن يعمل من خلاله على الحضور الفكري على الأقل، ومن ثم يؤهل لعودته التنظيمية على الساحة مرة أخرى، ويعود لطرح نفسه بوصفه فصيل اجتماعي وسياسي مرة أخرى والنزاع على الحكم حسب المعتاد منه، لكن تحقيق ذلك غير ممكن وسط كل الإخفاقات التي واجهوها، خاصة خلال السنوات القليلة الفائتة.

فالحرب غير المفهومة على مؤسسة “تكوين” باعتبارها منارة للكفر ودعوة إلى الإلحاد، دون توضيح ما تقدمه هذه المؤسسة بالأساس، اتجهت جماعات الإسلام السياسي إلى نشر فكرة أن وجود هذه المؤسسة يعني اللعب بثوابت الدين، لكن يبدو أنها ذريعة جديدة للعودة إلى المشهد العام مرة أخرى، ولعب دورها ضمن الأطر الاجتماعية بعد أن لفظته هذه الأطر بشكل واضح.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات