باتت هواجس وتهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أي إجراءات أو خطوات تقوم بها “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا، ورغم أنها لا تمت بصلة بالجانب التركي، مثل وجبة ثقيلة لا يتمكن أردوغان من أردوغان، وتتسبب في تقلصات تجعله مرتبكاً حتى تبدو تهديدات غثيان مزمن. وكلما عاين استقرار أهالي شمال شرقي سوريا، فإنه يقف على أطرافه ويوجه سلاحه نحوهم، إذ لا يتوقف الرئيس التركي عن استغلال أي ذريعة أو حجة ما لشنّ هجوم جديد على مناطق “الإدارة الذاتية”، بهدف تحويلها إلى مناطق “هشّة” غير مستقرة، إذ لا ينفك بالسعي دوماً نحو تقويض أو عرقلة أي مشروع سياسي حقيقي قد يتحقق في تلك المنطقة.

ومنذ أن أعلنت “الإدارة الذاتية” اقتراب موعد الانتخابات البلدية في مناطقها، والمقرر إجراؤها في 11 حزيران/ يونيو الجاري، حتى ظهر أردوغان كالثور الهائج، متوعداً وملوّحاً بعملية عسكرية جديدة ضد مناطق “الإدارة” بشمال وشرق سوريا، بل وأشار إلى أنه سيلجأ إلى كل الوسائل الممكنة لمنع “تأسيس دولة” على حدودها.

انتخابات “الإدارة الذاتية”

تستعد “الإدارة الذاتية” لتنظيم انتخابات البلدية في 11 من حزيران/ يونيو الجاري في 7 كانتونات تابعة لنفوذها شمال شرقي سوريا، وهي: الشهباء وعفرين ومنبج بريف محافظة حلب، ومقاطعتا الفرات والطبقة التابعتان لمحافظة الرقة، إضافة إلى مدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي ومناطق الجزيرة السورية بمحافظة الحسكة، وسيجري في الاستحقاق انتخاب رؤساء البلديات وأعضاء المجالس على مستوى 1792 مركزاً، بواقع 2113 صندوقاً انتخابياً.

يمكن القول إن خطوة “الإدارة الذاتية” تحمل أُفقاً سياسياً واجتماعياً ضمن خطوات مماثلة وإجراءات مرتبطة بشروط “العقد الاجتماعي” لجهة ابتعاث عملية حُكم تشاركية وتوافقية، ودعم مشروعها الذي يتبنى مجموعة قيم تجعل الأطراف المجتمعية بكافة خلفياتها القومية والدينية على نفس المسافة من الشعور بالانتماء.

في حين سيخوض 5336 مرشّحاً في مناطق شمال وشرق سوريا، الانتخابات البلدية، بجانب خوض 27 حزباً وتنظيماً هذه الانتخابات ضمن تحالفين رئيسيين وعدة أحزاب مستقلة، بالإضافة إلى العديد من المرشحين المستقلين.

وسبق أن أجرت “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، انتخابات للبلديات في شباط/ فبراير 2015، كما أجريت انتخابات لمجالس الأحياء في 22 أيلول/ سبتمبر 2017. ويعتبر تشكيل “المفوضية العليا للانتخابات” والاستعداد لبدء انتخابات البلديات أولى خطوات تطبيق “العقد الاجتماعي” الجديد، يليها تطبيق بقية مواد “العقد الاجتماعي” مما يتطلب إصدار عدة قوانين، وفق ما أعلنته “الإدارة الذاتية” في وقتٍ سابق.

تخوفات من إقامة مشروع “سياسي” حقيقي

من الواضح أن الانتخابات المحلية التي ستجريها “الإدارة الذاتية” بعد أيام معدودة، تثير غضب تركيا، إذ تعتبرها خطوة تندرج في سياق مخطط “الانفصال” عن سوريا وإنشاء “دويلة” على حدودها الجنوبية، رغم تأكيد “الإدارة الذاتية” الكُردية عدم وجود هكذا نوايا لديهم، وأن تحركاتهم تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وتطوير الخدمات المحلية، بجانب تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة، وأن هذه الانتخابات لا تستهدف أي طرف سياسي سواء داخلياً أو خارجياً.

وعلى إثر إعلان “الإدارة الذاتية” عزمها إجراء الانتخابات المحلية، شدد أردوغان على أن بلاده لن تسمح أبدا بـ“إنشاء دويلة في الجانب الآخر من حدودها الجنوبية شمالي سوريا والعراق”.

واعتبر أردوغان، خلال مشاركته في مناورات “إفس 2024”، مؤخراً، انتخابات البلديات “أعمال عدوانية”، مدعياً أنها “تهدد أمن” بلاده.

تزعم تركيا أنها تخشى على وحدة الأراضي السورية، بينما تتقاتل فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها بين الحين والآخر على أملاك وأرزاق السوريين- “إنترنت”

وقد هاجمت وزارة الدفاع التركية الاستحقاق الانتخابي في المنطقة، وقال مستشار وزارة الدفاع التركية زكي أكتورك إن “الإدارة الذاتية تحاول إضفاء الشرعية على نفسها بدعم أطراف أخرى”.

وشدد أكتورك، خلال مؤتمر صحفي في إزمير، على أن تلك الانتخابات غير مقبولة، وتابع أن “أنقرة لن تسمح بفرض أمر واقع يهدد أمنها القومي وينتهك وحدة أراضي سوريا”.

وتزعم تركيا أنها تخشى على وحدة الأراضي السورية، بينما تتقاتل فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها بين الحين والآخر على أملاك وأرزاق السوريين، ولا سيما مدينة عفرين ذات الغالبية الكُردية والتي هيمنت عليها أنقرة منذ عام 2018 بعد شنّ عملية عسكرية آنذاك.

وكان آخر اقتتال بين فصائل تركيا، مساء أمس الاثنين في مدينة عفرين بريف حلب الشمالي الغربي، بين فصيلي “حركة التحرير والبناء” و”القوة المشتركة” ضمن “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، ما أدى إلى سيطرة “المشتركة” على عدة حواجز، ووقوع إصابات بين الطرفين.

وبحسب مصادر محلية، فإن المواجهات اندلعت بداية بين “فرقة الحمزات” التابعة لـ”القوة المشتركة”، و”تجمع أحرار الشرقية” المنضوي ضمن “حركة التحرير والبناء”، بسبب خلاف قيل إنّ سببه قطعة أرض وعدة محال تجارية.

وبالتالي، يبدو أن تصريحات تركيا ضد الانتخابات المحلية لـ”الإدارة الذاتية”، ينمّ عن تخوفات جديدة من إقامة مشروع كُردي حقيقي في شمال شرقي سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، ولا سيما بعد أن أجرت “الإدارة الذاتية” التي تمثّل كافة مكونات المنطقة من العرب والكُرد والسريان والآشوريين وغيرهم جملةً من التغييرات في بنيتها الإدارية والسياسية لصالح كافة أطياف وقوميات سكانها، وإطلاق “عقد اجتماعي” جديد للمنطقة خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، ومن ثم التغييرات التي حصلت في “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) الجناح السياسي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الكردي- العربية، والمدعومة من الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش”، حيث قامت “مسد” بانتخاب رئيسيه المشتركين الجديدين، محمود المسلط وليلى قره مان. 

وعليه، فإن “الإدارة الذاتية” بصدد تحقيق خطوات حقيقية وهامة نحو بناء مشروع سياسي حقيقي يعبّر عن رغبات وحقوق أبناء المنطقة، وهو ما يؤمّن استقرار المنطقة واستدامتها.

ردود الأفعال

في سياق ردود أفعال بعض الأطراف الدولية والمحلية من خطوة “الإدارة الذاتية” نحو إجراء انتخابات محلية، اعتبر “المجلس الوطني الكُردي” الانتخابات “غير محايدة و محسومة النتائج”، بجانب “افتقارها إلى الشرعية”.

من جانبها، تحفظت واشنطن من خطوة “الإدارة الذاتية”، حيث أعلنت السفارة الأميركية في دمشق أن واشنطن حثّت “الإدارة” على عدم المُضي في الانتخابات بالوقت الحالي و”أن الظروف الملائمة لمثل هذه الانتخابات غير متوافرة بشمال شرقي سوريا في الوقت الحاضر”.

هذا الحيّز الذي تنشط فيه “الإدارة” لا يعني تشكيل دولة داخل الدولة كما يزعم المعارضون المحليون والإقليميون، وهذا ليس وارداً في ذهن “الإدارة الذاتية” ومؤسساتها التي تصرّح دوماً بأن الحل في سوريا يتعين أن يكون سياسياً وأنهم جزء من هذا الحل بما يؤكد انفتاحهم على الحكومة في دمشق.

في إطار ذلك، يرى مراقبون أن تحفّظ واشنطن على إجراء الاستحقاق الانتخابي ربما يأتي من باب إنهاء الانقسام بين القوى السياسية الكُردية، خاصة وأنها تكثّف تحركاتها لإقناع حزب “الاتحاد الديمقراطي” و”المجلس الوطني الكُردي” باستئناف الحوار بينهما الذي جُمد منذ العام 2020، على أمل التوصّل إلى أرضية تسمح بتقاسم إدارة المنطقة، وتزيل بعض الهواجس التركية. 

ويشير مراقبون أيضاً إلى أن واشنطن لا تريد أن تظهر في ثوب المبارك لخطوات قد ترى تركيا أنها “استفزازية”، مع أن الخطوات التي أقدمت عليها “الإدارة الذاتية” حتى الآن تندرج في سياق مسار قد يكون المدخل الأنسب لإيجاد تسوية نهائية للأزمة السورية المندلعة منذ العام 2011، والتي لم تجد بعد طريقها إلى الحل.

ويرفض كلٌّ من “المجلس الوطني الكُردي” والمظلمة التي ينتمي إليها “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية”، المدعوم من تركيا، الاستحقاق الانتخابي، فيما شدّد حزب “الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا” (يكيتي)، على أن الانتخابات (يشارك فيها الحزب) البلدية المقبلة في مناطق “الإدارة الذاتية” لا تحمل في طياتها أي تهديد بتقسيم سوريا أو أي تهديد لدول الجوار.

يبدو أن تصريحات تركيا ضد الانتخابات المحلية لـ”الإدارة الذاتية”، ينمّ عن تخوفات جديدة من إقامة مشروع كُردي حقيقي- “إنترنت”

ولم تصدر حكومة دمشق أي بيانات رسمية بخصوص الانتخابات المحلية في مناطق “الإدارة الذاتية”، لكن صحيفة “الوطن” شبه الرسمية الصادرة في دمشق، قال يوم أمس الاثنين، إن “إصرار الإدارة الذاتية على المُضي في إجراء الانتخابات المحلية سيترتب عليه تبعات سياسية وحتى ميدانية”.

في العموم، كل هذه الردود لا بدّ أن “الإدارة الذاتية” كانت قد أخذتها بعين الاعتبار قبل الشروع في تنفيذ هكذا خطوة، وبالتالي لا يبدو أنها ستتراجع عنها، بل ستمضي قُدماً في إجراء الانتخابات، ولا يبدو أيضاً أن هناك ضغوطاً أميركية كبيرة عليها، خصوصاً أن الموقف الأميركي جاء ضمن بيان مقتضب وغير مفصل. 

ويمكن القول إن خطوة “الإدارة الذاتية” تحمل أُفقاً سياسياً واجتماعياً ضمن خطوات مماثلة وإجراءات مرتبطة بشروط “العقد الاجتماعي” لجهة ابتعاث عملية حُكم تشاركية وتوافقية، ودعم مشروعها الذي يتبنى مجموعة قيم تجعل الأطراف المجتمعية بكافة خلفياتها القومية والدينية على نفس المسافة من الشعور بالانتماء، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الحيّز الذي تنشط فيه “الإدارة” لا يعني تشكيل دولة داخل الدولة كما يزعم المعارضون المحليون والإقليميون، وهذا ليس وارداً في ذهن “الإدارة الذاتية” ومؤسساتها التي تصرّح دوماً بأن الحل في سوريا يتعين أن يكون سياسياً وأنهم جزء من هذا الحل بما يؤكد انفتاحهم على الحكومة في دمشق وبالتالي هواجس ادعاءات الانفصال بأي معنى لا تبدو مطروحة، فالمسألة السورية هي وحدة كلية ولا يتم التعاطي معها في وحدات جزئية تؤدي إلى إضعاف الحل السياسي السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات