منذ انخراط روسيا في الحرب بسوريا إلى جانب الحكومة السورية، لم تكن موسكو ترى أبعد من مصالحها التي تحميها بآلتها الحربية العسكرية، ولهذا تورطت إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد وقواته في “جرائم حرب” على خلفية قصف المدنيين والمنشآت المدنية، لا سيما المدارس والمستشفيات، وقد طال موسكو اتهاماً مؤخراً يعود لعام 2019 بخصوص قصفها عمداً مشفى بشمال سوريا.

الاتهام المرفوع للجنة أممية مختصة بحقوق الإنسان في “الأمم المتحدة”، ترافقه تحقيقات أممية سابقة بشأن “جرائم حرب” للقوات الروسية في سوريا، الأمر الذي حدا بموسكو أن تنفي مراراً وتكراراً خروقاتها للقانون الدولي. 

وقبل نحو عام، ذكر “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، أن القوات الروسية إلى جانب حكومة دمشق؛ تسبب كل منهما في مقتل 15 مدنياً وإصابة 81 آخرين منهم أطفال ونساء إثر قصف “ممنهج” في شمال غرب سوريا، وكانت تلك حصيلة يوم واحد، مستخدمين فيها المدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ في 15 مدينة وبلدة وقرية في ريفي إدلب وحلب، فضلاً عن استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، من بينها “الأسواق والمدارس والمرافق العامة والعمال الإنسانيين في استمرارٍ لسياسة الإرهاب الذي تمارسه على المدنيين ودفعهم للنزوح من قراهم وبلداتهم”.

ووفق تقرير “الدفاع المدني”، فإنه “في حصيلة أولية لضحايا القصف الجوي والمدفعي والصاروخي المكثف والمستمر من قبل قوات الجيش السوري وروسيا على مدن وبلدات ريفي إدلب وحلب في 6 تشرين الأول/ أكتوبر (العام الماضي) بلغ العدد الكلي للقتلى والجرحى؛ القتلى: 2 بينهم طفل، الجرحى: 19 بينهم 9 أطفال و 6 نساء. وبلغت حصيلة 5 تشرين الأول/ أكتوبر؛ القتلى 13 مدنياً بينهم 3 نساء وطفلان، والجرحى 62 مدنياً، بينهم 18 طفلاً و 13 امرأة. ونفذت قوات حكومة دمشق هجمات صاروخية ومدفعية مكثفة استهدفت مدن وبلدات ريف إدلب، وتسببت هذه الهجمات بمقتل 6 مدنيين بينهم طفل وامرأتان، وإصابة 48 مدنياً، بينهم 12 طفلاً و10 نساء”.

ضرب المنشآت الطبية

في العام ذاته أي عام 2023، أوضحت “مفوضية حقوق الإنسان” التابعة لـ “الأمم المتحدة”، أن الضربات على المنشآت الطبية في سوريا، ومنها “مستشفى كفرنبل”، تؤكد “بقوة” إلى أن “قواتٍ مرتبطة بالحكومة تنفذ تلك الضربات وتتعمد -جزئياً على الأقل إن لم يكن كلياً- ضرب منشآت رعاية صحية”.

فيما سبق لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن أكدت، قبل أعوام قليلة، على همجية الهجوم الروسي في شمال غرب سوريا، موضحة أنه يرقى إلى وصفه “جرائم ضد الإنسانية”، وقال كينيث روث المدير التنفيذي للمنظمة: “قصفوا المستشفيات والمدارس والأسواق والمناطق السكنية. ليس عن غير قصد فحسب وليس أثناء محاولة استهداف من يُطلق عليهم إرهابيون وإنما عن عمد”‬، بل كشف عن أهداف هذه الحملة العسكرية وهي “طرد المدنيين وجعل حياتهم لا تطاق على أمل تسهيل سيطرة القوات المسلحة السورية والروسية على المنطقة”.

ولم يخفِ التقرير الأممي ضلوع الأسد وحليفه الروسي فلاديمير بوتين والقادة الروس في هذه الانتهاكات، وقد شدد روث، على أنه “لا يمكن إدراك أن هناك تداعيات لمواصلة هذه الاستراتيجية من جرائم الحرب سوى عن طريق المتابعة وضمان أن هؤلاء الذين يشرفون على جرائم الحرب تلك لن يفلتوا دون عقاب”.

إذاً، لم يكن مباغتاً أن تُرفع شكوى قبل أيام مفادها اتهام القوات الجوية الروسية بمقتل اثنين من المدنيين في سلسلة من القصف الجوي على “مستشفى كفرنبل” الجراحي، بمحافظة إدلب شمال غربي سوريا في الخامس من أيار/ مايو 2019. والشكوى مقدمة من وكالة إغاثية “يداً بيد للإغاثة والتنمية”، فضلاً عن اثنين من أقارب القتيلين، وتتضمن الشكوى مجموعة من الوثائق منها الشهادات المنقولة من روايات شهود عاينوا الحادث وتفاصيله، فضلاً عن مقاطع مصورة وتسجيلات صوتية، ومراسلات بين طيار روسي والمراقبة الأرضية بشأن إلقاء الذخائر.

من استهداف مستشفى كفرنبل في 2019 – (فيسبوك)

وصرّح فادي الديري، المدير الإقليمي للوكالة الإغاثية بقوله: “يتطلع السوريون للجنة حقوق الإنسان لتُظهر لنا قدراً من الإنصاف من خلال الاعتراف بحقيقة هذا الهجوم الوحشي وما سبَّبه من معاناة”. ومن جانبه، أوضح جيمس إيه. غولدستون، المدير التنفيذي لـ”مبادرة العدالة” التي يتقدم محاموها بالشكوى: “هذه الشكوى المقدمة للجنة دولية بارزة معنية بحقوق الإنسان تكشف عن الاستراتيجية المتعمَّدة من الحكومة الروسية والقوات المسلحة لاستهداف (منشأة) رعاية صحية في انتهاكٍ واضح لقوانين الحرب”.

يثير التوقيت الخاص برفع هذه الدعوة محاولة إضفاء زخم على طبيعة التحركات العسكرية الروسية في سوريا بعد أن اتّجهت الأنظار إلى الأزمة الأوكرانية، والتي أدت في النهاية إلى إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال ونقلهم بصورة غير قانونية من أوكرانيا، وعلى الرغم من عدم إلزامية القرار في حال صدوره ضد روسيا، إلا أن أهمية هذه القرارات تكمن في أنها تتسم بالبُعد الأخلاقي وبالصورة الذهنية لروسيا في المنطقة، حسبما يوضح الباحث المختص في الشؤون السياسية والإقليمية الدكتور مصطفى صلاح.

وفي هذا السياق، فإن استعادة سوريا مقعدها في “جامعة الدول العربية” وظهور بوادر تفاهمات إقليمية من شأنها الوصول إلى تسوية شاملة للأزمة السورية تتعارض بصورة أو بأخرى مع اتجاهات التحركات العسكرية الروسية، وفق حديث صلاح لـ “الحل نت”، وبالتالي قد تُضعف هذه الممارسات التي تعتمدها موسكو من مدى القبول الإقليمي والدولي بالدور الروسي المستقبلي.

ويمكن القول هنا، إن روسيا تسعى من وراء تعزيز حضورها العسكري في سوريا دونما الاعتبار للمدنيين بأنها تنشط في ظل تداخل قوي من جانب القوى الإقليمية والدولية، بينما تحاول فرض سيطرتها الميدانية على كامل الأراضي السورية، بما يسمح لها بالامتلاك والتأثير على القرارات المرتبطة بسوريا، وإبعاد النفوذ المتنامي لهذه الدول وخاصة إيران.

تحجيم نفوذ موسكو

الممارسات الروسية ستؤدي حتماً إلى وجود خلافات عميقة بين كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران باعتبارهما يمتلكان الكثير من الأوراق الضاغطة على روسيا في سوريا، ومن ثم سيتعين على موسكو الدخول في مباحثات دقيقة معهما تفادياً لتعاظم الخلافات، أي أنه يقع على عاتق روسيا إدارة هذا المشهد المختلف في أجنداته بين هذه القوى التي تسعى إلى حماية مصالحها وضمان نفوذها.

من ناحية أخرى، فإن الممارسات غير القانونية لروسيا ستدفع المعسكر الغربي إلى استغلال هذه النقاط في إحداث تقارب مع القوى الأخرى المتنافسة مع روسيا في سوريا بهدف تحييد وإبعاد وتحجيم النفوذ الروسي المتنامي بالأساس، خاصة أن هذه الخريطة التفاعلية تشهد تغيرات عنيفة بين هذه الأطراف خصوصا، وأن كل طرف يحاول استغلال مواطن الضعف لدى بقية الأطراف.

في تقدير الكاتب السياسي السوري درويش خليفة والذي يتحدر من مدينة حلب التي شهدت الخروقات الروسية، والقصف الممنهج على أحد مشافيها، أنه على أقل تقدير بأن ما هو معروف ومتداول بين السوريين ووثّقته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أنه خلال الأشهر الأولى للتدخل الروسي في سوريا عام 2015 وحتى نهاية عام 2016، استخدم الروس ما يقارب 87 مرة من الأسلحة الحارقة ضد المدنيين بسوريا، في وقت كانت حلب خارج سيطرة الحكومة السورية، موضحاً لـ “الحل نت”، أن حلب كان لها “النصيب الأكبر من هذه الأسلحة الروسية ، حيث استخدم 51 مرة من الأسلحة الحارقة ضدها، ثم إدلب 19 مرة، وفي حمص 6 مرات، وفي ريف دمشق مرتين، وكل هذا خلال 16 شهراً فقط من التدخل الروسي في سوريا”.

هذا بالإضافة إلى استهداف منشآت الدفاع المدني (الخوذ البيضاء)، كونهم الشاهد الأول على توثيق الجرائم الروسية وقصفهم للمنشآت الحيوية والطبية كالأسواق الشعبية و المشافي والنقاط الطبية. وأثناء مباحثات “أستانا” التي هي بالأساس فكرة روسية وتنفيذ روسي، على حد تعبير خليفة، يكون هناك استهداف للمدنيين كما حدث في إحدى المرات ببلدة سرمدا وكذلك استهداف مواقع “الدفاع المدني” كونهم منظمة مدنية معنية بإسعاف المدنيين وإطفاء الحرائق. ومع ذلك فإن روسيا قامت باستهدافهم ما لا يقل عن 33 مرة وذلك خلال الأشهر الأولى فقط من التدخل الروسي إلى جانب حكومة دمشق في سوريا، مع الأخذ في الحسبان الاستهدافات والانتهاكات الروسية المتعددة في سوريا للمدنيين والمدن والبلدان المناوئة للحكومة السورية.

وبالتالي، يمكن القول إن روسيا كان لديها مخطط لتدمير وإنهاء المرحلة العسكرية لـ “الثورة السورية” خلال أشهر عديدة. ولذلك؛ جاء استخدام موسكو للعديد من الأسلحة ضد السوريين، وكما قيل في أحد التقارير، إن روسيا استعملت قرابة 300 نوع من الأسلحة على رؤوس السوريين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات