ما تزال قضية الكبتاغون تحايث الحكومة السورية، وتخطت كونها ضمن وسائل دمشق لتحقيق سياساتها إلى اعتبارها بيئة وبنية كاملة لها اقتصادياتها كما تجتمع حولها مصالح أمنية وعسكرية تفوق ما ظاهر من سلطة النظام بدمشق بقيادة بشار الأسد، ولا يمكن إيقاف وتعطيل دائرة إنتاج تلك الحبوب التي تبدو وكأنها تضخ الحياة وتبعثها للوجود. إذ يوماً بعد يوم، يتبين أن سوريا التي تغيّرت وانقسمت بين العديد من الدول المنخرطة فيها، وخاصة الميلشيات المدعومة من إيران.

وبالتالي رسمت خطوط جديدة ومعابر خارجية وداخلية تفصل حدودها، بحيث تبدو تجارة “حبوب الكبتاغون” تزداد ازدهاراً، لدرجة أنها أصبحت مربحة بقيمة عشرات مليارات دولار للنظام في دمشق والميلشيات الإيرانية، فيما تبقى سوريا وأبناؤها الخاسر الأكبر من هذه التجارة. فالعائق الأساسي أمام أي حل سياسي شامل لسوريا هو استمرار هذه التجارة من قبل شبكات تسير تحت أعين قوى عسكريتارية تابعين لميلشيا إيران وبرعاية الحكومة السورية ورجالها المتنفذين.

تمثل تجارة وعملية تهريب الكبتاغون الأثر السياسي الأبرز الذي بات ورقة النظام بدمشق يهدد بها الأطراف الإقليمية التي تعارضه ويراها ضمن خصومه، إذ إنه يقوم بابتزاز تلك الدولة وإغراقها بالمخدرات.

حبوب الكبتاغون التي حوّلت سوريا إلى “جمهورية الكبتاغون”، يؤكد المبعوث الألماني الخاص إلى سوريا، ستيفان شنيك، أن “تهريب الكبتاغون من سوريا آخذ في الارتفاع والإنتاج والاستهلاك”، مشيراً إلى “تعاون وثيق” بين ألمانيا والأردن والعراق بشأن تهريب المخدرات من سوريا.

وفي تصريحات نقلتها صحيفة “النهار” اللبنانية، حديثاً، قال شنيك إن حجم تجارة المخدرات في سوريا “ضخم جداً، ويقدر بين 5 إلى 10 مليارات دولار”، مضيفاً أن “المشكلة الأساسية التي تواجه مكافحة هذه التجارة غير المشروعة تكمن في المكاسب المرتفعة التي تدرها، والجهات التي تستفيد منها”.

تدعيماً لهذه الفرضية، فقد قال مسؤولون أمنيون في وقت سابق إنه مقابل كل شحنة يتمّ ضبطها، تصل تسع شحنات أخرى إلى وجهتها. ويتراوح سعر حبة “الكبتاغون” بين دولار و25 دولاراً. وبضربة حسابية بسيطة لسعر الحبة بخمسة دولارات، ووصلت أربع من أصل خمس شحنات إلى وجهتها، تتخطّى قيمة تجارة الكبتاغون السنوية عشرة مليارات دولار. ويّعد ذلك أقل تقدير لتلك التجارة الضخمة، وفق مراقبين.

“الكبتاغون” عقبة أمام الحل السياسي

شنيك بيّن أيضاً، أن عائدات المخدرات “تمول الميلشيات والجماعات الإرهابية”، مشيراً إلى أن حكومة دمشق “تعتمد على إنتاج الكبتاغون، ويقيد أي تعاون لبدء عملية خطوة مقابل خطوة ضمن قرار الأمم المتحدة رقم 2254”.

وأكد الدبلوماسي الألماني أن إيران “تحتاج إلى إيرادات تجارة المخدرات لتمويل ميلشياتها، وكذلك الضغط على جيران سوريا وزعزعة استقرارها”.

تُعد تجارة حبوب الكبتاغون من أبرز الصادرات السورية، وتفوق قيمتها كل قيمة صادرات البلاد القانونية، وفق تقديرات مبنية على إحصاءات جمعتها “وكالة فرانس برس” في تحقيق سابق. وباتت سوريا مركزاً أساسياً لشبكة تمتد إلى لبنان والعراق وتركيا وصولاً إلى دول الخليج مروراً بدول إفريقية وأوروبية، وتُعتبر السعودية السوق الأول للكبتاغون.

حجم تجارة المخدرات في سوريا “ضخم جداً، ويقدر بين 5 إلى 10 مليارات دولار- “إنترنت”

الدول العربية التي أعلنت عودة علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق اعتقدت أنها تستطيع قطع الارتباط العضوي بين دمشق وطهران، لكن هذا يبدو صعباً للغاية، ويكاد يكون مستحيلاً، فالحقائق على الأرض في ظل وجود مساحات شاسعة من سوريا تحت سيطرة أو حماية إيران والقوى الميلشياوية التابعة لها، تكشف أن الرئيس السوري بشار الأسد لم ولن يمضي نحو تحقيق هذه الخطوة، التي تعتبر شرطاً أساسياً لإعادة دمشق بشكل حقيقي إلى المحيط الإقليمي ومن ثم الغربي.

ويبدو أن مسألة تهريب الكبتاغون لن تنتهي إذا لم يوقفها الأسد ومن ثم ينفك عن إيران وميلشياتها، نظراً لأن جميع محاولات دول المنطقة وشركائها بالتصدي لهذه التجارة الممنوعة باءت بالفشل، ولهذا ذكر شنيك أن اللجان الوزارية من الدول العربية المعنية التي كُلفت تنسيق الجهود لضبط تجارة المخدرات “لم تسفر عن نتائج”، مضيفاً أنه “مع أنها مهمة جداً على جميع المستويات، ضمن العمليات السياسية وطرح الموضوع على الطاولة، إلا أنه من الضروري وجود مستوى من التنسيق بين المانحين على مستوى استراتيجي وتقني أكثر”.

ودعا المبعوث الألماني إلى “دعم وتنسيق دوليين لإيجاد طرق جديدة لمحاربة إنتاج الكبتاغون وتهريبه واستهلاكه”.

وكشف شنيك أن ألمانياً “تعمل عملاً وثيقاً مع الأردن والعراق، وتقدم تعاوناً تقنياً في التدريب، وفي الأشعة السينية”، مشيراً إلى “الحاجة إلى تعزيز التجهيزات لقوات أمن الحدود، والتعاون على مستوى استراتيجي أكثر مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، وتطوير الاستراتيجيات الوطنية والاستراتيجيات الإقليمية”.

لا خطوات جدية

ذكر العديد من المسؤولين الغربيين في وقت سابق، أن الأردن واحدة من أهم الجهات الفاعلة الإقليمية التي تعمل معها واشنطن، من أجل مكافحة ملف الكبتاغون بسوريا. كما وفي لقاء أخير جمع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، بالرئيس السوري بشار الأسد، ركز في نقاشه أيضاً عن كفاح الأردن مع تهريب المخدرات على حدوده مع سوريا.

بالتالي، فإن التقارب العربي القائم على أساس مسار “خطوة مقابل خطوة”، تتناول في جوهرها ضرورة التعاون في مكافحة تهريب المخدرات من سوريا إلى الجوار، وهو ما ركز عليه الصفدي أثناء زيارته لدمشق.

لذلك فالدول العربية بعد احتضان دمشق تنتظر خطوات عملية وجادة من دمشق في هذا الملف، بالنظر إلى أن أولوية هذه الدول هي قضية المخدرات والسلاح ووجود الميلشيات بالقرب من الحدود، لكن إذا لم تستجب دمشق لهذه الخطوات وتثبت حسن نيتها وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، فسيكون ذلك مناورة واضحة من دمشق، وبالتالي فإن هذه الدول العربية ستتوقف عن إعادة تعويم الأسد، وستشتد العقوبات ضد دمشق خاصة فيما يتعلق بملف “الكبتاغون”.

ميلشيا إيران وبرعاية النظام في دمشق، تعتاش على الكبتاغون وأيضاً على الأزمات التي تحققها هذه المخدرات في المنطقة وبالبلدان التي تنتقل لها هذه العدوى في حين أن الشعب السوري في مقابل كل هذه المناورات والأفخاخ يحصد الخسائر بمرارة مضاعفة.

وهذا ما يحصل يبدو، إذ قام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) بالتشاور مع الخارجية الأميركية، مؤخراً، بتعديل على قانون العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، ويستثني فيها مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، وبعض مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، باستثناء مناطق عفرين وأريافها، فضلاً عن حظر مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب، وبالتالي يبقى مناطق سيطرة حكومة دمشق كاملاً تحت العقوبات الأميركية.

هذا بالإضافة إلى اشتداد العقوبات الأميركية على شخصيات بارزة في أركان “نظام الأسد”، خلال النصف الأول من العام الفائت، وبالتالي لا يمكن تجاهل هذه الرسالة في مطبخ السياسة الخارجية الأميركية.

وبالتالي أيضاً، فإن استمرار العقوبات الأميركية على سوريا تبدو جواباً أميركياً غير مباشر على تعويم دمشق من قبل دول الإقليم، وربما يحمل معنى مفاده أن لا فائدة أو جدوى من التعامل وإعادة العلاقات مع هكذا “نظام”، لما له من علاقات مع إيران و”حزب الله” الضليع والمعروف بهذه التجارة اللا مشروعة.

هيمنة إيرانية

تقارير وتحقيقات عديدة كشفت في وقت سابق عن وجود مصانع “الكبتاغون” تديرها ميليشيا “حزب الله” اللبناني و”الحرس الثوري الإيراني”، بالتعاون مع حكومة دمشق، في العديد من المحافظات السورية. فمنذ أكثر من 10 سنوات، أصبحت نسبة كبيرة من المناطق السورية أشبه بكونها مرتعاً لأنشطة ومشاريع طهران غير المشروعة بالتواطؤ مع دمشق، من التصنيع حتى التصدير عبر الحدود السورية المتعددة بغض النظر عن القوى المسيطرة عليها، وكثرة الشبكات التي تشارك في هذه الأعمال نتيجة مغرياتها المالية، وسط الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة وتحديداً سوريا ولبنان.

الأردن واحدة من أهم الجهات الفاعلة الإقليمية التي تعمل معها واشنطن، من أجل مكافحة ملف الكبتاغون بسوريا-“رويترز”

تجارة المخدرات وتحديداً حبوب الكبتاغون، تُعد من أهم مصادر الدخل لهذه الميليشيات الإيرانية وللحكومة السورية أيضاً، وقيمتها تتجاوز المليارات بالعملة الصعبة.

وكشف تحقيق سابق لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”، عن تصنيع المخدرات وزراعة الحشيش في مناطق النفوذ الإيراني في دير الزور والميلشيات المتورطة بهذا الملف. وظهر التحقيق ذاته وجود سبعة معامل لصناعة “الكبتاغون” وأراض لزراعة الحشيش بقيادة “حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني”.

التحقيق يقول إن الميلشيات التابعة لإيران تستقدم المخدرات إلى مناطق نفوذها في دير الزور قادمة من أماكن تصنيعها، سواء في القصير بريف حمص الجنوبي الشرقي، أو المناطق الحدودية مع لبنان بمحافظة ريف دمشق، وكلا المنطقتين تحت إشراف “حزب الله” اللبناني بشكل كامل، ويعد المورد الأبرز للمخدرات إلى دير الزور.

إذاً ميلشيا إيران، يستبيحون الأراضي السورية وبالتعاون مع “الفرقة الرابعة” التابعة للجيش السوري، بتصنيع الكبتاغون وزراعة الحشيش وتصديره لدول الجوار، وهذا ما أدى إلى زيادة العقوبات الغربية على سوريا، وبالتالي فإن هذه الأعمال تُدخل البلاد لأزمات عدة، نتيجة العقوبات، فضلاً عن انكفاء العديد من الدول عن منتجات وتجارة سوريا وهذا ما يؤثر على اقتصاد البلاد المنهك أصلاً.

في ضوء كل ذلك، تمثل تجارة وعملية تهريب الكبتاغون الأثر السياسي الأبرز الذي بات ورقة النظام بدمشق يهدد بها الأطراف الإقليمية التي تعارضه ويراها ضمن خصومه، إذ إنه يقوم بابتزاز تلك الدولة وإغراقها بالمخدرات، وذلك بنفس قدر استفادته منها في تخصيص الاقتصاديات المرتبطة بالحرب والنزاع، ومنها السلاح على اختلاف أنواعه الذي تفتك به الميلشيات المدنيين في سوريا. فاستمرار “الكبتاغون” سيظل المؤشر على حيوية الحكومة في دمشق أو بالأحرى صلابة وقوة البنية الخفية والتحتية للقاعدة الأمنية والعسكرية لـ”الأسد” بامتدادها وعمقها الإيراني. 

ميلشيا إيران وبرعاية النظام في دمشق، تعتاش على الكبتاغون وأيضاً على الأزمات التي تحققها هذه المخدرات في المنطقة وبالبلدان التي تنتقل لها هذه العدوى في حين أن الشعب السوري في مقابل كل هذه المناورات والأفخاخ يحصد الخسائر بمرارة مضاعفة، لا سيما والأزمة السورية تمتد بلا أفق سياسي، كما تدخل نفق مظلم وتصل للانسداد. فزيادة أرباح آل “الأسد” وشركائه من تجارة الكبتاغون. يقابله استمرار العقوبات الغربية على سوريا التي تفاقم أزمات السوريين، وهو ما ستكون له نتائج سلبية كبيرة على البلاد ككل، إضافة إلى تعقيد الحل السياسي، وسط كل هذه المماطلات والتعاون غير الجاد مع المبادرة العربية التي طرحت على الأسد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة