لحجز مكانةٍ على الخريطة الدولية، وتوسيع دائرة صراعها مع الغرب بعيدا عن الجغرافيا الروسية، تسعى موسكو لتعزيز علاقاتها مع دول القارة الإفريقية. كذلك تأمل روسيا تخفيف عزلتها الدولية وأثر العقوبات الغربية المفروضة عليها، عن طريق بناء شراكات سياسية واقتصادية مع هذه الدول، في ظلّ استحواذها على المعادن الثمينة والنادرة في القارة السمراء.  

فخلال “قمة السلام”، التي استضافتها سويسرا بشأن أوكرانيا مؤخرا، رفضت جنوب إفريقيا توقيع البيان الختامي للقمة. وفي هذا السياق، يشير خبراء إلى توجّه ثابت من جوهانسبورغ للتعاون مع روسيا سجلته دبلوماسية جنوب إفريقيا تحت قيادة “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي”، رغم انتقاده الحاد من قبل “حزب التحالف”، واتهامه بخيانة عدم الانحياز والحياد المعلن تجاه الصراع الأوكراني والتوترات الأوسع بين روسيا والغرب.

جنوب إفريقيا، واحدةٌ فقط من أدوات موسكو في مواجهة الغرب. حيث أجرى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بين 2-6 حزيران/ يونيو الحالي، زيارته السادسة إلى دول القارة  السمراء خلال عامين، شملت تشاد وغينيا والكونغو وبوركينا فاسو، وهي الأولى إلى تشاد، والأولى إلى غينيا منذ آخر زيارة في عام 2013. وتعكس الزيارة، حسب “مركز المستقبل للأبحاث“، اهتماماً روسياً متصاعدا بتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.

بجانب ذلك، تعمل موسكو على توظيف زيادة تقاربها مع الدول الإفريقية لإقامة علاقات شراكة استراتيجية معها. إذ هدفت زيارة لافروف لعدد من الأهداف المرتبطة بتعزيز نفوذ روسيا وتوسيعه في معظم أنحاء القارة السمراء، عبر إقامة علاقات شراكة استراتيجية، وتعزيز التعاون العسكري، وتعظيم المكاسب الاقتصادية، ومواجهة الضغوط الغربية، مع تعزيز نفوذها في ليبيا، ومواجهة الإرهاب.

كما أن حضور وفدٍ سوداني رفيع المستوى منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، المنعقد في روسيا بين 5-8 حزيران/ يونيو الحالي، مع ما رافقه من تصريحات المسؤولين السودانيين عن الاتفاق السابق مع موسكو بشأن القاعدة العسكرية الروسية في مدينة بورتسودان، تشير بحسب مركز “إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية“، إلى دفعة قوية على مختلف الأصعدة تشهدها تحركات موسكو تجاه السودان، بما يتفق مع الخط العام لسياسة روسيا تجاه القارة الإفريقية.

إذ خصص مفهوم السياسة الخارجية لروسيا المعتمد لعام 2023 فصلاً كاملا لإفريقيا، حسب الباحثة الاقتصادية لدى الاتحاد الدولي للمؤرخين، وباحثة ماجستير اقتصاد كلية الدراسات الإفريقية العليا، سارة هشام حسن. ففي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وما أعقبه من عزلة سياسية وعقوبات غربية فرضت عليها، زادت أهمية القارة بنظر “الكرملين”، في إطار تكثيف جهود تنويع اتصالاته الدولية. 

مع ذلك، فإن قيود العلاقات الروسية الإفريقية، تشير إلى خلل واضح في علاقات الجانبين. وتنبع هذه المعوقات من اختلاف إمكانات الجانبين، والمصالح المتباينة وعدم التوافق الاقتصادي، مع عدم التجانس السياسي والاجتماعي والاقتصادي في إفريقيا، والذي يقلّل إلى حدٍّ كبير من التعاون مع البلدان الإفريقية في العلاقات الثنائية. 

على ذلك، فشل التّعهد برفع حجم التبادل التجاري إلى 40 مليار دولار، المعلن عنه في القمة الروسية الإفريقية الأولى في سوتشي عام 2019. “لم يفشل في الزيادة فحسب، بل انخفض بالفعل”، قالت حسن في حديث لـ “الحل نت”. فـ تجارة الجانبين ارتفعت بشكل مطّرد منذ عام 2013، وصلت ذروتها عام 2018 بمبلغ 20 مليار دولار. ثم تراجعت خلال جائحة “كورونا” إلى 11 مليار دولار، لتصل قرابة 18 مليار دولار في عام 2022، وهو تراجعٌ انسحب على الساحة الدبلوماسية أيضا، فخلال قمة سوتشي شارك 43 زعيماً إفريقيا، فيما تراجع عدد الزعماء الأفارقة المشاركين في القمة الثانية عام 2023 إلى 17 فقط. 

لاعبان رئيسيان في النظام العالمي الجديد

عبر شركة الأمن الروسية الخاصة “فاغنر” وخليفتها “فيلق إفريقيا”، وسّعت موسكو تعاونها العسكري مع دول القارة، حسب “المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية“. وعبر استغلالها لحالة السّخط والاضطرابات السياسية في الدول التي تعرّضت لانقلابات، عزّزت موسكو علاقاتها مع دول القارة، ووّقعت صفقات تعدين تمكّنها من الاستحواذ على الذهب والماس من جمهورية إفريقيا الوسطى، والكوبالت من الكونغو، والذهب والنفط من السودان، والكروميت من مدغشقر، والبلاتين والماس من زيمبابوي، واليورانيوم من ناميبيا. 

إضافة لذلك، تأمل روسيا الحصول على دعم سياسي، أو على الأقل حياد دول القادة تجاه غزوها لأوكرانيا. فعلى الرغم من معارضة الاتحاد الإفريقي والعديد من دول القارة لهذا الغزو، إلا أن أكثر من نصف الدول الإفريقية، امتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة الداعية لانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.

النفوذ الروسي بدأ يتزايد في جميع أنحاء إفريقيا في السنوات الأخيرة، حسب الباحثة المتخصصة في الشؤون الإفريقية إيمان الشعراوي، مما يضع القارة في قلب المنافسة الجيوسياسية المتنامية بين “الكرملين” و”البيت الأبيض”، في ظل مساعي موسكو بتطوير نظام عالمي متعدد الأقطاب، واستغلالها المشاعر المعادية للغرب لتعزيز نفوذها في القارة وسط منافستها الجيوسياسية مع الغرب، مع تركيزها على ملئ الفراغ الأمني الذي أحدثه الغرب. 

في الشق الاقتصادي، تقول الشعراوي في حديثها لـ “الحل نت”، رغم مساعي روسيا لتعزيز نفوذها الاقتصادي في إفريقيا، إلا أن حجم تجارتها البينية بلغت نحو 20 مليار دولار في الوقت الحاضر، وهو إنجاز متواضع إلى حدٍّ ما. لكن مع ذلك، تظل القارة الإفريقية بعد الحرب الروسية الأوكرانية سوقاً واعدةً للسلع الصناعية الروسية، حيث تسعى الأخيرة لتطوير التعاون الاستثماري مع دول القارة، وتوسيع حضور الشركات الروسية في الأسواق الإفريقية، عبر زيادة تسليم المنتجات الصناعية والغذائية، وتعزيز مشاركة روسيا بدفع التنمية الاقتصادية في إفريقيا.

“روسيا وإفريقيا لاعبان رئيسيان في النظام العالمي الجديد”، عبارة وردت في فيلم قصير تم عرضه خلال افتتاح فعاليات القمة الروسية-الإفريقية عام 2023. أعقبه لقطات أرشيفية لـ لقاءات القادة الأفارقة مع القادة السوفييت، في إشارة إلى التضامن التاريخي بين الجانبين. إلى جانب ذلك، كتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقالا نُشر في العديد من وسائل الإعلام الإفريقية قُبيل انعقاد القمة، شدّد فيه على متانة العلاقات التاريخية، وقدّم وعوداً لمستقبل أفضل على صعيد الشراكات الثنائية، مع إشارة لبلوغ حجم التجارة الروسية مع دول القارة قرابة 18 مليار دولار عام 2022.

كما تضمن المقال عرضاً سخّياً للقادة الأفارقة، “الشركات الروسية مهتمة بتكثيف أنشطتها في القارة على عدّة أصعدة، من بينها مجال التقنيات العالية والاستكشاف الجيولوجي في مجمع الوقود والطاقة، بما في ذلك قطاع الطاقة النووية في الصناعات الكيميائية والتعدين والنقل والزراعة وصيد الأسماك. وأشار البيان الختامي للقمة، إلى التزام الحاضرين بـ “العمل المشترك على تشكيل نظام عالمي عادل وديمقراطي متعدد الأقطاب، يحترم مبادئ القانون الدولي المُعترف بها وميثاق الأمم المتحدة”.

لكن بالمقارنة مع اللاعبين العالميين الآخرين، يظهر الضعف الاقتصادي لروسيا في إفريقيا، حسب سارة حسن، فقيمة تجارتهما البينية أقل بأربع مرات من تجارة إفريقيا والولايات المتحدة، وتمثل 5 بالمئة فقط من إجمالي تجارة إفريقيا مع الاتحاد الأوروبي، ولا تزيد على 6 بالمئة من تجارتها مع الصين، فأربعة اقتصادات فقط ـ الجزائر، ومصر، والمغرب، وجنوب إفريقيا ـ تمثل 70 بالمئة من تجارة روسيا مع إفريقيا. ويقلّ الاستثمار الأجنبي المباشر من روسيا عن 1 بالمئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا، حيث لا تحتل روسيا حتى مرتبة بين أكبر 10 مستثمرين. كما تحدّ العقوبات الغربية على روسيا والتكاليف المرتبطة بها من إمكانية تطوير العلاقات الاقتصادية الروسية الإفريقية. 

ساحة للتنافس الاستراتيجي العالمي

كجزءٍ من أهدافها الاستراتيجية لعام 2023، تسعى موسكو بسياستها الخارجية إلى تعزيز وجودها في القارة السمراء، في إطار يمكن تسميته بالمنافسة الاستراتيجية خارج النطاق التقليدي، حسب مركز “شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية“. وقد أسهم الصراع المتفجّر في أوكرانيا بتعزيز أهمية دور روسيا في القارة، كوسيلة لنقل مواجهتها مع القوى الغربية لما وراء حدودها الجغرافية، عبر تحويل إفريقيا إلى ساحة رئيسية للتنافس الاستراتيجي العالمي بينها وبين الدول الغربية.

وفقا للمركز، تتلخص دوافع موسكو لتمديد نفوذها في القارة بالآتي: البحث عن موطئ قدم عسكري دائم في إفريقيا لتحقيق مكانة الدولة العظمى، سوق مفتوح للشركات العسكرية الخاصة وصادرات السلاح، أداة جذب للاستثمارات الكبرى وسوق واسع للمواد الخام، كسب الدعم الإفريقي في المنظمات الدولية، وإحداث توازن مع بكين لمواجهة الضغوط الغربية، إضافة لتطويق الوجود الغربي في إفريقيا وحماية المصالح الروسية.

التغلغل العسكري الروسي في منطقة الساحل الإفريقي يأتي على حساب النفوذ الأميركي، حسب الشعراوي. منوّهة لتعزيز موسكو وجودها الدبلوماسي في إفريقيا، عبر زيارات ولقاءات مستمرة، وسعيها للتوسّع في إنشاء السفارات، كقرارها مؤخراً فتح سفارتين في بوركينا فاسو وغينيا الاستوائية. ويشكل الجانب الإعلامي جانباً خفياً لحضور روسيا في إفريقيا، حيث تسعى روسيا لتطوير التعاون الإعلامي وتبادل الخبرات وتوسيع حضور اللغة الروسية في إفريقيا، وهناك عدد من وسائل الإعلام الإفريقية، منها محطات إذاعية وصحف، تتلقى تمويلات مباشرة من موسكو، وتسعى لزيادة العِداء تجاه الغرب وتصوير روسيا باعتبارها حليف لدول القارة وليست دولة ذات مطامع استعمارية.

مركز الإمارات للسياسات“، ينوّه بدوره لزيادة نفوذ روسيا والصين في القارة السمراء، عبر استغلالهما بشكل استراتيجي مهمات حفظ السلام الفاشلة، والانسحاب العسكري من جانب القوى الغربية، والتدخّل لتوفير الدعم الدبلوماسي والمساعدات الاقتصادية والأمنية. نتيجة لذلك، بدأت النيجر ومالي وبوركينا فاسو بتعميق علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع روسيا والصين بعد الانسحاب الفرنسي – الأميركي. فلدى روسيا والصين مصلحة مشتركة بالحفاظ على الأنظمة العسكرية الجديدة في إفريقيا، عَبَر وقف الانقلابات والانقلابات المضادة. وهي مصلحة باتت تشكل جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية روسيا. 

لضمان ذلك، عمل ويعمل المستشارون الروس ومجموعة “فاغنر”، مع نسختها المحّدثة “الفيلق الإفريقي”، على نشر طائرات من طراز “الـ -39″ و”سوخوي-25” المقاتلة ومروحيات “أم آي-24 بي” إلى جانب وحدة قوامها 400 مقاتل بهدف محاربة المتمردين الإسلاميين في المنطقة. وبحسب المركز، ترحّب مالي وبوركينا فاسو والنيجر بروسيا بوصفها حليفا مفضّلا. مع تمركز قوات روسية في جمهورية أفريقيا الوسطى. ودخل جنوب السودان، الذي توسطت واشنطن لحصوله على الاستقلال عام 2011، ضمن النفوذ الروسي.

كيف يُقوّي السلاح الروسي الأنظمة القمعية في إفريقيا؟

تواجد روسيا في إفريقيا أثّر على حدود الديمقراطية والاستقرار والتنمية، حسب “مركز شاف”، فمن أجل ترسيخ أقدامها في القارة، نشرت موسكو مرتزقة “فاغنر”، وشنّت حملات تضليل، وتدخّلت في مسار الانتخابات، ودعمت الانقلابات العسكرية، وقايضت السلاح بالموارد الطبيعية. ما سينعكس على عرقلة المسار الديمقراطي، ودعم الأنظمة العسكرية الحاكمة، وتغذية الانقلابات العسكرية، وإطالة أمد الصراعات في دول القارة، التي تستورد أكثر من نصف معداتها العسكرية من روسيا. مما يُفاقم حدّة الصراعات، مع احتمالية ارتداده على دول الجوار، التي أضحت من أخطر بؤر التطرّف العالمي.

التأثير السلبي للإجراءات الروسية على آفاق الأمن والتنمية في إفريقيا، من شأنه أن يُضعف جاذبية روسيا في عيون العديد من البلدان الإفريقية، حسب الباحثة حسن، لا سيما تلك التي لديها حكومات ديمقراطية. وبرأيها، أدت العواقب المترتبة على السياسة الدولية العدوانية التي ينتهجها “الكرملين” إلى تقويض الأمن الغذائي في إفريقيا بشكل مباشر، وهو ما من شأنه أن يؤدي على الأرجح إلى تعميق السّخط بشأن العلاقات مع روسيا بين المجتمعات والنُّخب الإفريقية في المستقبل القريب

وفقا لـ “فرانس 24”، فإن صادرات روسيا العسكرية تعزز وتقوي الأنظمة القمعية والنُّخب السياسية التي لا تبالي كثيراً بقضايا حقوق الإنسان في دول القارة، لا سيما في دول مثل بوركينا فاسو ومالي المراهنتين على شراكة عسكرية مع موسكو بعد طلبهما سحب القوات الفرنسية من أراضيهما. لذا، تابعت الدولتين عملية تمرّد زعيم مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين في تموز/ يوليو 2023 بقلق كبير. ولطمأنتهما أبلغهما لافروف بأن عمل “فاغنر” لديهما سيستمر. 

فالمجال العسكري أبرز الأحصنة التي تمتطيها روسيا للتغلغل في دول القارة، حسب الشعراوي، وذلك عبر تصدير الأسلحة. حيث وقعت روسيا عقود تسليح مع دول إفريقية بقيمة 4.5 مليار دولار خلال عام 2023. كذلك فإن “الفيلق الإفريقي” الذي تم الكشف عنه مطلع عام 2024 ليكون بديلا عن مجموعة “فاغنر”، يعكس سعي روسيا لتوسيع نفوذها العسكري في القارة، مع منحه شرعية الوجود الرسمي والعلني في مواجهة الحضور الأوروبي والأميركي. وستتيح القاعدة العسكرية الروسية في السودان، التي تم الإعلان عنها مؤخرا، موطئ قدم استراتيجي على البحر الأحمر، كبوابة إلى القارة السمراء.

دوافع عدة تدفع موسكو لتعزيز علاقتها بالدول الإفريقية، فإذا كان ضمها لشبه جزيرة القرم وانخراطها العسكري إلى جانب حكومة دمشق قد أخرجا روسيا خارج حدودها، فإن تموضعها في الساحة الإفريقية سيمنحها بجانب المكاسب السياسية والاقتصادية مقعدا على الخريطة الدولية، حسب التفكير الاستراتيجي الروسي. غير أن تحدّيات جمّة تواجهها، أقلها غياب مشروع تنموي تقدّمه لدول القارة، وحدّة التدافع الإقليمي والدولي على النفوذ فيها، إضافة لحالة عدم الاستقرار التي تشهدها دول القارة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة