على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، يقف الطرفان على حافة هاوية حرب شاملة، بعد ثمانية أشهر من المناوشات المتقطعة، هذه المواجهة المحتدمة كشفت عن حقيقة مروّعة: أي تصعيد إضافي سيكون بمثابة زر للدمار الشامل.

“حزب الله”، ذلك اللاعب الإقليمي، يجد نفسه أمام معادلة صعبة. فهو يدرك تمام الإدراك أن أي حرب شاملة ستحوّل لبنان إلى أنقاض، وستحصد آلاف الأرواح البريئة. هذا السيناريو الكارثي يضع الحزب في موقف حرج بين نار المواجهة وجحيم العواقب.

في المقابل، تقف إسرائيل مترددة، تستحضر ذكريات حربها الأخيرة في غزة. لكنها تدرك أن ما واجهته هناك لا يكاد يُذكر أمام القوة النارية لـ”حزب الله”. هذا الإدراك المتبادل لـ فداحة الثمن يخلق توازن رعب هشّ، يُبقي الطرفين على حافة الهاوية دون السقوط فيها.

وعلى الرغم من ذلك، الطرفان كما يبدو يسرعان نحو الحرب التي حاولا تجنبها كثيراً منذ بدء الصراع في غزة بهجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لكن، ماذا سيحدث إذا اندلعت الحرب، والأهم ماذا سيحدث بعد الحرب؟

ما مدى خطورة الوضع الآن؟

كان الوضع على الحدود بين إسرائيل ولبنان محفوفاً بالمخاطر لعدة أشهر، إلا أن كلا الجانبين ظلا – حتى الأسابيع الأخيرة – ضمن حدود الصراع منخفض الحدة، وعلى الرغم من أن الصراع ظل عند مستوى منخفض، إلا أنه قُتل أكثر من 400 شخص في لبنان و30 آخرين في إسرائيل. ونزح ما يقدّر بنحو 150 ألف شخص على جانبي الحدود، ولكن مؤخراً ازدادت حدّة الاشتباك.

تظهر هذه الصورة الملتقطة من موقع في شمال إسرائيل طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي تحلق فوق المنطقة الحدودية مع جنوب لبنان في 10 مارس/آذار 2024. (تصوير: جلاء مرعي/وكالة الصحافة الفرنسية)

فيما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن المرحلة الأكثر كثافة من الهجوم الإسرائيلي على غزة قد انتهت، إلا أنه يتم نقل وحدات من الجيش الإسرائيلي إلى الحدود اللبنانية استعداداً لتوسيع المعركة مع “حزب الله”. 

كل ذلك، جاء بعد أن أصدر “حزب الله” مقطع فيديو مدّته تسع دقائق يظهر لقطات بطائرة بدون طيار للبنية التحتية العسكرية والمدنية الإسرائيلية، بما في ذلك مدينة حيفا الساحلية، فيما حذّر وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل، يسرائيل كاتس، من أن حكومته “قريبة جدًا من لحظة اتخاذ قرار بتغيير القواعد ضد حزب الله ولبنان”.

لكي نتمكن من فهم الأمور بشكل أفضل، سنعود ثمانية أشهر إلى الوراء، إلى أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد أربعة أيام فقط من الهجوم الذي شنّته حركة “حماس”، كانت لدى إسرائيل فرصة لم تتكرر، وهي القيام بنشاط وقائي على الحدود الشمالية، لقلب المعادلة رأساً على عقب، أيّدت المنظومة الأمنية برمّتها القيام بمثل هذه العملية، لكن نتنياهو قرّر عرقلتها، وكانت الخطة في حينه أن على إسرائيل أن تركز في حرب غزة ثم تحل “المشكلة الشمالية”.

أهداف إسرائيل واستعدادها

خلال الأشهر الثمانية الأولى من الحرب، لم يكن لدى متّخذي القرار في إسرائيل نيّة حقيقية بشأن خوض حرب برّية في لبنان، لكنهم منحوا حسن نصرالله نصيحة: “نصر الله سيرتكب خطأ حياته إذا قرر الحرب، وأن إسرائيل ستعيد لبنان إلى العصر الحجري إذا تجرأ”.

الاستراتيجية والخيارات كيف سترد إسرائيل على الهجوم الإيراني؟ (1)
الجيش الإسرائيلي ينشر منظومة القبة الحديدية للدفاع الجوي بالقرب من القدس في أعقاب الغارات الجوية الإيرانية في القدس في 15 أبريل/نيسان 2024. (تصوير سعيد قاق/غيتي)

خلال الأسابيع الماضية، تغيّر الوضع بعض الشيء، العمليات المستمرة بين “حزب الله” وإسرائيل، اختراق المسيّرات اللبنانية أصبحت أكثر مما يستطيع نتنياهو تحمُّله، وهو ما طرح على الطاولة الإسرائيلية فكرة: الذهاب إلى حرب “رخيصة” ممكناً الآن، ليس هدفها في المرحلة الأولى إعادة لبنان إلى العصر الحجري، أو احتلال المنطقة حتى الليطاني، ولكن هدفها هو ردع “حزب الله” وإعادة سكان البلدات الشمالية إلى بيوتهم.

الحديث الآن في إسرائيل عن مناورة برية محدودة لبضعة كيلومترات، الهدف منها توجيه رسالة ردع إلى “حزب الله”، ورسالة أمان إلى سكان الشمال.

أما حول استعداد إسرائيل لمثل هذه المناورة واحتمالية تطورها إلى حرب مفتوحة، وعكس ما يتردد حول قدرة إسرائيل على الدخول في صراعات كبيرة على جبهتين في وقت واحد، وربما أكثر من جبهة (حال تداخلت الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا واليمن) في الحرب، مع احتمالات تصاعد العنف في الضفة الغربية وهو ما يشكّل تحدّياً إضافيا لأجهزة الأمن الإسرائيلية. 

إلا أن الحقيقة أن سيناريو “الحرب متعددة الجبهات” هو ما كانت تستعد له إسرائيل منذ سنوات وربما أكثر من استعدادها “لهجوم يشبه 7 أكتوبر”، فبينما كان هجوم “حماس” مفاجئ وغير متوقع، إلا أن الحرب المتعددة الجبهات لاقت اهتماماً واستعداداً من قبل الإدارة الإسرائيلية، فبإمكاننا أن نقول أن إسرائيل مستعدة عسكرياً لحرب مثل هذه، فلدى إسرائيل ترسانة كبرى من صواريخ جو-أرض تُطلق من طائرات حربية مختلفة وطائرات بدون طيار مسلحة.

وفي الوقت نفسه، فإن بدء حرب في لبنان يمكن أن يؤدي إلى أضرار واسعة النطاق في الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والتأثير على الاقتصاد، فقد حذّر خبراء من أن حرباً بين إسرائيل و”حزب الله”، ربما تؤدي إلى تأثيرات كبيرة وسلبية على قطاع الطاقة في البلاد، حيث صرّح شاؤول غولدشتاين، وهو مسؤول كبير في قطاع الطاقة الإسرائيلي، أن الحرب يمكن أن تعطّل بشدة البنية التحتية للطاقة في إسرائيل، وأضاف أنه في غضون 72 ساعة من انقطاع التيار الكهربائي. بحسب موقع “الحرة”.

أيضا حرب ضد “حزب الله” يمكن أن تؤدي إلى هجوم إيراني واسع النطاق سيكون مُرهقاً لإسرائيل، فـ”حزب الله” ليس مجرد ذراعاً لإيران، إنما هو شريك استراتيجي لنظام الملالي، وإذا اعتقد الإيرانيون أن “حزب الله” يوشك أن يتعرض لضربة قوية، فمن الممكن أن يضعوا كل ثقلهم من أجل دعمه. 

وهناك ستجد إسرائيل نفسها في خضم حرب إقليمية شاملة وهذا لا ينفي حقيقة أن الولايات المتحدة ستهبُّ لمساعدتها (رغم تصريحات واشنطن بأنها لا تريد هذه الحرب)، لكن وضعٌ كهذا من شأنه أن يشكّل فوضى في الشرق الأوسط.

أما حول إمكانية إسرائيل لتحقيق أهدافها جرّاء هذه الحرب، فمن المؤكد أن “حزب الله” سيتلقى ضربة قوية، لكن ليس من المؤكد أن تنتهي الحرب بسرعة، وستجد إسرائيل نفسها متورطة في حرب طويلة، وربما سنعيد المتاهة حول (ماذا سيحدث في اليوم التالي في لبنان؟)، وقد تضطر إسرائيل إلى الانسحاب من دون تحقيق إنجازات، أو تبقى مجدداً في منطقة أمنية في جنوب لبنان.

تأثير الحرب على لبنان

رغم تحركات “حزب الله”، وعملياته المستمرة إلى أنه حتى تلك اللحظة ليس مؤكداً أن الحزب يريد حرباً واسعة النطق مع إسرائيل، لكن يمكن فهم موقف الحزب بأن نصرالله تورّط في واقع يفرض عليه استمرار القتال، لا يمكنه أن يظهر كمن يترك غزة لمصيرها، لقد تمكّنت إسرائيل من إلحاق أضرار جسيمة بـ”حزب الله”، وهي الآن تتحكم فيما نعرّفه باسم “مدرّج التصعيد”، كما ظهر مؤخراً في اغتيال كبار ضباط الحزب خلال الأسابيع الماضية.

لبنان وذهنية الولي الفقيه هكذا يصادر الملالي جغرافيا الإقليم لصناعة الهلال الشيعي (2)
أعلام لبنانية على طول البحر – غيتي

ما سبق ذكره من تأثير الحرب على إسرائيل، لا يمكن مقارنته بما سيحدث في لبنان، فلا تزال ذكريات الحرب التي وقعت قبل عقدين من الزمن باقية. كان لحرب عام 2006 تأثير مدمر على لبنان. بلغت تكلفة إعادة الإعمار أكثر من 10 مليارات دولار أميركي وتم تمويلها إلى حدٍّ كبير من قبل المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى.

ومنذ ذلك الحين، تغير المشهد الجيوسياسي، وفي الحرب الجديدة سيكون من الأصعب بكثير تمويل أي مشاريع إعادة بناء. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تكون الخسائر في الأرواح كارثية – وخاصة في المناطق الحضرية المزدحمة في لبنان.

وبينما يخشى سكان حيفا في شمال إسرائيل من هجمات “حزب الله”، فإن مخاوف سكان جنوب لبنان من هجمات الجيش الإسرائيلي أكبر، ورغم أن الهجمات – حتى الآن – اقتصرت إلى حدٍّ كبير على الأهداف العسكرية، إلا أن تداعياتها أثّرت على المدنيين في جميع أنحاء جنوب لبنان، حيث دمرت الأراضي الزراعية وأجبرت العديد من الناس على مغادرة منازلهم. وقد أدى هذا إلى تفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي الهشّ بالفعل في لبنان، وفي الحرب الواسعة ستكون هناك المزيد من الخسائر والضحايا.

من الناحية السياسية، فإن حرباً مثل هذه تمثّل تهديداً لمكانة “حزب الله”، ولأن الحزب يعرّف نفسه بأنه “حامٍ للبنان”، وهو أيضاً لاعب مهم في السياسة اللبنانية، فإن الشرعية الداخلية تؤثر فيه، ومسألة تدمير لبنان، سيقضي على شعبيته الداخلية، وسيكون هو المتّهم الوحيد بتدمير لبنان و سيضطر إلى دفع أثمان كبيرة نسبياً. 

“حزب الله” الذي يحتل دوراً مركزياً في السياسة والاقتصاد في لبنان، فإن أي صراع مع إسرائيل من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم اتفاق تقاسم السلطة الدقيق في لبنان، مما يزيد من الضغط على الوضع الاقتصادي، ويشعل الداخل اللبناني خاصة مع التيارات التي تعارض “حزب الله” وترى أنه يورّطها في حرب لا داعي لها حتى يغطي على فشله.

كما أن الطائفة المسيحية لديها مخاوف من أن الحرب ستترك آثارا كبيرة على الاقتصاد اللبناني الذي يعاني أصلا من أزمة عميقة، والهاجس الثاني هو في حال تمكّنت إسرائيل من ترحيل الفلسطينيين من غزة فهذا يعني أن عودة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى بلادهم سوف تصبح مستحيلة، وبالتالي سوف يصبح تجنيسهم أمراً محتوماً، هذا سوف يزيد أعداد المسلمين بشكل كبير ويُضعف تأثير الأقلّية المسيحية التي تعاني أصلا من تراجع حجمها الديموغرافي، بحسب دراسة لموقع “كارنيجي”.

نوايا نصرالله وطهران

من ناحية التأثير على لبنان دولياً، فإن حرباً كهذه بإمكانها أن تثير انتباه العالم، فمثل “حماس”، فإن “حزب الله” منظمة لا تحظى بشعبية كبيرة داخل الجمهور الموالي لـ عقيدتها الذي موّلته طهران. وتثير علاقتها مع إيران قلق صنّاع القرار في واشنطن ولندن وأماكن أخرى، وقد تم حظرها كمنظمة إرهابية من قبل عدد من الدول الغربية، مما سيكون لذلك العديد من التداعيات على وضع لبنان مع دول العالم.

حسن نصر الله حزب الله لبنان إيران النظام الإيراني الحرس الثوري فيلق القدس إسماعيل قآاني إسرائيل لبنان
جندي إسرائيلي يرتدي رقعة على ظهر سترته الواقية تظهر زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله كهدف، يقف أمام مدفع هاوتزر ذاتي الدفع في الجليل الأعلى في شمال إسرائيل. (تصوير جلاء مرعي/وكالة الصحافة الفرنسية)

أما حول مدى مساعدة إيران، لـ”حزب الله” في هذه المرحلة، فوفقاً لتحركات إيران الأخيرة واستثمار مواردها لدعم “الحوثيين”، فإن مسألة دخول إيران الحرب بشكل مباشر ليست مؤكدة، ومن الممكن أن تدفع بميليشياتها الأخرى في المنطقة لمساعدة “حزب الله”، ليؤمن مظلة حماية ضد أي هجوم إسرائيل بحسب دراسة لمركز “كارنيجي”. 

لكن مستبعداً أن تقوم بدخول المواجهة بشكل مباشر رغم تصريحات قادة طهران التي هي عكس ذلك. التاريخ يعلّمنا أن حسن نصرالله ومن خلفه إيران يحبون الخطابات الحماسية ولكن دون أفعال في أرض الواقع.

أما التأثير على لبنان كدولة فهو أسوأ كثيراً، فالكثير من ترسانة صواريخ “حزب الله” مدفونة في صوامع مخبأة في المناطق المدنية. كثيراً ما تقع القرى اللبنانية على جوانب الممرات الجبلية حيث يحفر “حزب الله” مواقعه، ونظراً للحاجة إلى الوصول إلى الصوامع بسرعة، وقبل أن يتسنى إطلاق كل الصواريخ، فإن إسرائيل ستجتاح لبنان برّياً، مما سيؤدي إلى أضرار جانبية ضخمة ووفيات بين المدنيين، وفي هذه الحالة ستكون النتيجة مؤلمة لـ”حزب الله” من جانبين، الأول هو الضحايا من المدنيين، والثانية هو تدمير بنيّته التحتية.

من الناحية العسكرية، فإن إسرائيل التي استثمرت خلال السنوات الأخيرة العديد من الموارد لجمع معلومات استخباراتية عن البنية التحتية العسكرية لـ”حزب الله”، فإنها لن تتأخر في القيام بهجوم قوي ومباغت على المطارات ومواقع إنتاج الصواريخ والبنية التحتية العسكرية للحزب، وحتى لو يتم تدمير كامل لقدرات “حزب الله”، فإنه سيتضرر بشدّة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات