سوريا بعد الأسد تجارة «الكبتاغون» ازدهرت فيها رغم سقوط الراعي ورغم الضغوط العربية والمحلية تجارة المخدرات ترفض مغادرة الأسواق السورية

تُعدّ مسألة تهريب المخدرات عبر الحدود من أخطر القضايا التي تهدّد أمن الدول؛ يسهّل هذا التهريب حين تعاني الدولة من بطالة مرتفعة وانخفاض في معدّل الإنتاج، أي في ظلّ وضع اقتصادي متدنٍ واستقرار داخلي وخارجي هزيل. وتتوفّر هذه العوامل في سوريا نتيجة الاضطرابات الأمنية المستمرة، ووجود شبكات عابرة للقارات كانت تشرف عليها سلطة النظام السابق لتهريب المخدرات داخل أراضيها.

أمّا العامل الأخطر فهو العين الإيرانية التي تراقب الحدود السورية وتنسّق عمليّة التهريب إلى الداخل السوري بطرق وأساليب مختلفة، ثمّ إلى دول أخرى كالعراق ولبنان ودول الخليج العربي.

«الكريستال» الإيراني في الكيك

كلما زادت حملات التفتيش على تهريب المخدرات عبر الحدود، أمعن القائمون على هذه التجارة في التمويه والتخفي، في محاولات مستمرة للهروب من الرقابة الأمنية. ويبدو أن «الحرس الثوري» الإيراني مصرٌّ على استمرار تهريب المخدرات إلى الأراضي السورية، مبتكرًا ومجدّدًا أساليبَ جديدة.

ضباط الشرطة السورية يتفحصون المخدرات المضبوطة أثناء استعدادهم لحرقها في دمشق، سوريا، 25 فبراير/شباط 2025. قامت السلطات السورية الجديدة بحرق مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة وأكياس الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق. وكالة الصحافة الفرنسية/محمد الرفاعي

فوفقًا لوسائل إعلامية سورية، قُبض على شحنة مخدرات جديدة في الأسبوع الأول من شباط/فبراير 2025 عبر الحدود العراقية – تحديدًا من منطقة البوكمال – مخبأة داخل معجنات مغلفة، تسلمتها شبكات توزيع محلية متورطة منذ سنوات طويلة، بالتنسيق مع الميليشيات الإيرانية.

وتؤكد المصادر المدعومة بالصور، أن الشحنة المهربة تتكوّن من نحو 15 ألف علبة كرتونية من «الكيك» المغلَّف المخصّص للبيع في الأسواق والمتاجر؛ تحتوي كل علبة على 28 قطعة «كاتو» مغلَّف تحمل علامات تجارية إيرانية معروفة، منها شركة «حام» للصناعات الغذائية (HAAM Food Industries) وشركة «شهربابانا» – وكلاهما من كبرى الشركات الإيرانية المتخصصة في إنتاج المعجنات والمخبوزات. كما تحمل أغلفة المخبوزات تواريخ قريبة من موعد التهريب؛ إذ أُنتجت نهاية كانون الثاني/يناير 2025، كما هو موضح على الأغلفة.

الغريب في هذه الشحنة أنّ المخدرات أُخفيت داخل طبقات «الكيك» على شكل حشوة صغيرة، فتُباع للمدمنين ومتعاطي المخدرات بشكل سري. فقد أوضحت المصادر أنّ المنتجات التي تحمل علامة التصنيع في مدينة مشهد تحتوي على بلورات «إتش بوز» (كريستال ميث)، في حين أُضيفت مادة مخدرة على شكل بودرة بيضاء بين طبقات الكيك المنتج في تبريز.

ويعلّق نور الدين البابا، المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، في حديثه مع «الحل نت» قائلًا:

«يعد سلاح المخدرات أداة اختراق وتمويل أساسية لتنظيم الحرس الثوري الإيراني؛ فعبرها يبني شبكات دعم لوجستية واستخباراتية، ويستهدف المجتمعات المراد تمزيقها عبر تفكيكها بالمخدرات. وفي الوقت نفسه تؤمن له شريان تمويل أساسي لرعاية نشاطاته الإرهابية، كما هي أداة ابتزاز سياسي وضغط يُستعمل ضد الحكومات».

ويضيف المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية: «بعد سقوط النظام البائد وأجهزته الأمنية والعسكرية، التي كانت منخرطة بالكامل في تجارة وترويج المخدرات، حاول المتورطون إعادة بناء شبكات محلية متفرقة – غالبيتها تقوم على صلات عائلية أو عشائرية أو مناطقية – لكن الدولة السورية الجديدة واجهت بحزم، منذ اللحظة الأولى، محاولات إعادة تفعيل هذه الشبكات؛ فخفضت نسبة الاتجار والترويج إلى أقل من خمسة في المئة مما كانت عليه قبل تحرير سوريا، عبر ضرب مراكز القوة التي كانت ترعاها، وتفكيك معامل الإنتاج، واستهداف مستودعات التخزين، وإغلاق معابر التهريب، ومطاردة العصابات الراعية لها».

الوسيلة سوريا… والهدف دول الخليج

من اللافت في قضية تهريب المخدرات إلى الأراضي السورية الدعوات المتكررة والحملات المستمرة من الحكومة السورية على المناطق المنتجة للمخدرات منذ سقوط الأسد ونظامه. فقد صرح أحمد الشرّع، رئيس الإدارة الجديدة في سوريا، في خطاب سابق بأنّ سوريا «ستُطَهَّر» من تجارة المخدرات. إلا أنّ هذه الدعوات والحملات لم تثنِ «الحرس الثوري» الإيراني عن رغبته في تحويل سوريا إلى سوق مفتوح للمخدرات.

هنا يبرز سؤال: لماذا يُصرُّ «الحرس الثوري» الإيراني على البقاء داخل سوريا عبر تهريب المخدرات حتى بعد سقوط الأسد حليفه الأول؟ يجيب المحلل السياسي المختص بالشأن الإيراني أسامة الهتيمي، في حديثه مع «الحل نت»، قائلاً:

«ليس خافيًا على أحد أنّ سوريا في عهد بشار الأسد كانت الأولى عالميًا في إنتاج وتصدير حبوب الكبتاغون المخدرة. وبالطبع كانت الوجهة الأولى لتوزيع هذه الحبوب وتصديرها هي دول الخليج، لتحقيق هدفين: الأول، الحصول على مبالغ مالية ضخمة بلغت عدة مليارات من الدولارات سنويًا؛ والثاني، تفكيك المجتمع الخليجي بكل الوسائل».

ومع انهيار نظام الأسد، نجحت السلطة الجديدة في تفكيك العديد من شبكات تصنيع وتهريب المخدرات التي كان يرعاها الأسد ورجاله، ما يعني أن أصحاب هذه الصناعة فقدوا سوقًا مهمة.

في هذا الإطار، يشير الهتيمي إلى أن «الحرس الثوري» الإيراني حرص على الحفاظ على هذه السوق، سواء لأسباب متعلقة بسوريا ذاتها أو بدول الخليج. فعلى مستوى سوريا، يعدّ بقاء رواج هذه التجارة أحد أهم التحديات التي تواجه النظام السوري الجديد، الذي يعتبر إيران من أهم أسباب ما آلت إليه الأوضاع في البلاد؛ إذ تستنزف هذه التجارة الزمن والمال والجهد، وفي الوقت نفسه تمثل داعمًا ماليًا للعناصر الموالية التي قد تشكل بدورها تهديدًا وضغطًا على هذه السلطة الجديدة.

أما على المستوى الخليجي، فلا يمكن لإيران أن تتخلى عن المكاسب المالية الهائلة المحققة من استهلاك هذه الحبوب، ومع كون الطريق الأسهل لتهريبها إلى الخليج يمر عبر سوريا، وجب على «الحرس الثوري» مواصلة محاولاته لتمرير هذه الحبوب إلى السوق السورية ومنها إلى دول الخليج.

سقط الأسد وظلّ «الكبتاغون»

أصبحت سوريا، خلال سنوات الحرب الأهلية التي امتدت لأكثر من عقد، رائدةً في تجارة «الكبتاغون»، ويمثّل هذا الدواء المخدّر مصدرًا رئيسيًّا من مصادر دخل حكومة الأسد. فقد فرض الغرب عقوباتٍ على النظام بسبب جرائم الحرب، فلم يجد الأخير ملاذًا سوى تجارة المخدرات كوسيلةٍ للهروب من العقوبات وكسب المال؛ إذ يُقدّر الخبراءُ أن «الكبتاغون» كان يدرُّ مليارات الدولارات سنويًّا – مبلغٌ يفوق بكثير موازنةَ الحكومة السورية الاعتيادية.

ومع سقوط الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تنهِ هذه الخطوة تجارة المخدرات؛ بل استمرت تحت الرقابة الأمنية المشدَّدة. فالسؤال هنا: لماذا استمرت تجارة المخدرات في سوريا رغم سقوط راعيها الرسمي، الأسد وعائلته؟

يذهب أسامة الهتيمي إلى القول:

«الحقيقة أنّه، على الرغم من تفكيك الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد والتي كانت المسؤول الأكبر في تصنيع وتهريب الكبتاغون، فإنّ ذلك لا يعني انعدامَ عصاباتٍ وعناصرٍ قادرةٍ على القيام بمهامها. يبرز من بين هؤلاء من نطلق عليهم (الولائيين)، خاصّةً في الجنوب السوري وريف دمشق ودير الزور، فضلاً عن العناصر الإجرامية الباحثة عن مكاسب سريعة وكبيرة دون اعتبار للمفاسد».

وليس خافيًا على أحد بحسب الهتيمي أنّ الحالة الأمنية في سوريا لم تستقرّ بعد، ما يمنح المهربين فرصًا أكبر لإدخال كمياتٍ من المخدرات عبر الحدود – الحدود العراقية السورية مثالًا؛ إذ إنّ إدخال المخدرات الإيرانية إلى العراق لا يشكّل صعوبةً في ظلّ النفوذ المتنامي للميليشيات الولائية العراقية، فيما تستخدم شحناتُ التهريب إلى سوريا شبكاتٍ وطرُقًا معقَّدةً ومحميةً، خاصةً في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيات موالية لإيران أو لعصاباتٍ إجرامية تتحوّل فيها تجارة المخدرات إلى نشاطٍ ربحٍ بحت.

ومن طرق التهريب المعروفة معبرُ القائم – البوكمال وبعض معابر ريف دير الزور والأنبار ومعبر الوليد – التنف، حيث يُحدَّث المهربون وسائلَ نقلهم بين الحين والآخر. ومثالٌ على ذلك الشحنةُ الأخيرة التي جرى ضبطها بعد تعبئة الحبوب المخدّرة في الكيك المغلَّف.

ازدهار «الكبتاغون»

مع كل العوامل المذكورة كأسباب مباشرة لازدهار تجارة «الكبتاغون» بعد سقوط الأسد، تبقى عوامل مساعدة إضافية، مثل تلك التي رصدها معهد «نيولاينز» في واشنطن عبر قاعدة بياناتٍ مخصّصة. ففي عام 2024، لاحظ المعهدُ تزايدَ ضغط نظام الأسد على شبكات تهريب «الكبتاغون». يُرجّحُ أن يعود ذلك إلى ضغوطٍ مورست عليه من قِبل بعض الدول العربية.

فعلى سبيل المثال، ترى المملكة العربية السعودية والأردن أن «الكبتاغون» يُشكّل مشكلةً أمنية وخطرًا على شعبيهما، وقد حاولتا إقناع سوريا بالحدّ من هذه التجارة مقابل تحسين علاقاتها الإقليمية.

وكنتيجةٍ لحملة القمع التي شنّها نظام الأسد، «شهدنا خلال العام الماضي اتساعَ تهريب الكبتاغون خارج سوريا إلى العراق وتركيا وألمانيا وهولندا ومصر وحتى الكويت، وهو أمرٌ مثيرٌ للاهتمام»، بحسب كارولين روز، مديرة ملف العلاقة بين الجريمة والصراع في معهد «نيولاينز»، خلال ندوة افتراضية استضافها مركز كارنيغي للشرق الأوسط. وأضافت: 

«لم يكن النظام يعلم بذلك حينها… [لكن] كانوا يمهّدون دون علمهم الطريق لهذه التجارة غير المشروعة، لتزدهر بعد سقوط النظام».

وأشارت روزُ إلى أن شبكات ومختبرات التهريب تطوّرت لتصبح أصغر حجمًا وأكثر تنقلًا ومرونةٍ قبل ديسمبر الماضي، مما «يسهم بشكل كبير في أن يصبح الكبتاغون تجارةً عابرةً للحدود وأكثر مرونةً، ويصعب مواجهتها».

خارج سوريا، من المرجح أن الجماعات التي دعمت النظام سابقًا – بما في ذلك «حزب الله» في لبنان والميليشيات الإيرانية في العراق – لا تزال متورطةً في تجارة «الكبتاغون».

في هذا الصدد، يقول نور الدين البابا:

«هناك العديد من الوسائل لنقل المخدرات من العراق إلى سوريا؛ فطول الحدود ونوعيتها يسهّلان عملية التهريب، خاصةً مع وجود تشكيلاتٍ من الحشد الشعبي الموالي لإيران. وتتراوح الطرق بين المنافذ غير الرسمية والأنفاق والطائرات المسيرة، أو إخفاء الشحنات داخل السيارات التجارية. تحاول الدولة السورية تطوير أدواتها وزيادة تنسيقها الأمني إقليميًا ودوليًا لمكافحة هذه الظاهرة، لكن العقوبات الأميركية تعيقها من تطوير قطاع الأمن وحفظ الحدود».

وعليه، غيّر «الحرس الثوري» الإيرانيُ تكتيكاته ومنهجه سعيًا لزعزعة استقرار الدولة السورية الجديدة عبر قنوات بديلة، تشمل الشبكات السنية المتطرّفة والميليشيات القبلية، مع توسيع نطاق تهريب المخدرات بكافة أنواعها وبشتى الطرق بعد فقدانه القدرة على الاعتماد على قواته الوكيلة التقليدية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات