مع فصل جديد من التوتر، وتصاعد العنف الذي طاول تلك المرة الدروز، لا يمكن بحال من الأحوال القبول بسردية “الأعمال الفردية/ عناصر غير منضبطة/ مجموعات خارجة عن القانون”، والإذعان لرواية “مثيري الفتن”، باعتبار أن هناك فئة تتحمل المسؤولية في إطار محاولة التعمية عن دور السلطة الحالية أو بالأحرى مسؤوليتها السياسية والأمنية في وقف عدوى الصراعات الطائفية، واحتدام الأزمات المتكررة، والتي تبدو مرشحة بأن تتضاعف، وقد طاولت في السابق العلويين.
إذ إن الإعلان الذي صدر، نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، عن إدارة العمليات العسكرية في سوريا، ونصّب، على إثره، أحمد الشرع نفسه، لرئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، ثم حلّ جميع الفصائل العسكرية، لجهة دمجها في مؤسسات الدولة، يضع الحكام الجدد بدمشق أمام مسؤولية مباشرة عن كل الحوادث والوقائع، الأمنية والسياسية، بما فيها أعمال العنف التي شهدتها مناطق جرمانا وأشرفية صحنايا وصحنايا بريف دمشق.
عنف طائفي ممنهج
ويمكن القول إنه بقدر ما سعت السلطة الانتقالية إلى لملمة السلاح من يد الفصائل العسكرية، في إطار محاولاتها، كما صرحت، بإعادة تشكيل القوات الأمنية والدفاعية على “أسس وطنية”، فالحاجة تبدو ملحة إلى ضبط المجال العام على الأساس ذاته، وليس بمقياس الرغبة في التمكين، وتصفية أو إضعاف المعارضة من الخصوم السياسيين، الأمر الذي بات يؤشر لوجود نمط عنف طائفي ممنهج لتعميم فئة اجتماعية وطائفية، وتغليبها على باقي المكونات، في استعادة ربما تماثل الإدارة السياسية والأمنية لنظام “حزب البعث” السابق.
العنف بالطبيعة أو النمط الذي يجري لا يبدو مجرد نتيجة فراغ أمني، أو تفلت قوى بسلاح غير شرعي، وعناصر غير منضبطة، بل يمكن اعتباره ضمن أدوات استراتيجية لتحقيق الهيمنة والضبط والعقاب وفق تصورات الحكام الجدد وطموحهم السياسي في هندسة المجتمع.
فالخطاب الطائفي المتفلت من بعض الأطراف المحسوبة على السلطة الانتقالية، يعمل في الخفاء والعلن، بل يبعث بمخاطر جمّة، ويحفز أطراف عديدة تصنع مشاهد دموية في سوريا، مثلما حدث في التصاعد المباغت للتوترات بين قوات محسوبة على السلطات بدمشق والدروز. وذلك في الوقت الذي تلح فيه أصوات شيوخ الطائفة الدرزية بنشر قوات دولية لحفظ السلام، لمنع انهيار ما تبقى من سلم اجتماعي يبدو هشا.
وقضى رئيس بلدية صحنايا وابنه بالرصاص على يد مجهولين بعد أن أعلنت السلطة السورية السيطرة على أشرفية صحنايا عقب اشتباكات بين مسلحين مرتبطين بالسلطة وقوات الأمن العام وآخرين دروز، أسفرت عن مقتل أكثر من 70 شخصا خلال يومين فقط. فيما طالب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، بتدخل دولي عاجل ومباشر لحماية المدنيين في سوريا.
اللافت أن الحوادث الدموية، كما حدث مؤخرا، كشفت عن نشاط تحريضي لم يختلف كثيرا في أهدافه وطريقة تسلله إلى المجال العام عن سوابقه المأساوية.
وهذا النشاط اعتمد على تهييج الشعور الطائفي من خلال خطاب متشنج يتبنى تحقير الطائفة الدرزية واتهامها بالعمالة، حيث روج البعض لمزاعم (لم يتثبت أحد من صحتها) ملفقة تشير لوجود تسريب صوتي لأحد المشايخ يحمل إساءة للنبي محمد، الأمر الذي يمكن وصفه أنه كان مجرد ذريعة أو ورقة وظيفية، بينما كانت الأوضاع كافة مهيأة للوصول إلى حافة دموية جديد، والوقوع تحت وطأة دائرة جهنمية من الاحتراب الأهلي والطائفي يدفع ثمنها المدنيون من الدروز كما سبقهم إلى المصير ذاته العلويون. فخلط الأمور ببعضها هو نفسه ما يتكرر، راهنا، فقط لنقل دفة الصراع وتوجيهها إلى ضحايا جدد.

ولهذا، لا يتردد مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، رامي عبد الرحمن، في وضع المسؤولية كافة على عاتق الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، بل يتهمه بالتواطؤ المباشر، ويقول إنه في الوقت الذي يصرح الأخير بـ”لا تقتلوا”، يكون في حقيقة الأمر هو من يأمر بقتل كل المعارضة. وتابع في تصريحات على قناة “الغد”: “من ارتكبوا المجازر في بني ياس لم تتم محاكمتهم”، إنما يتم الإفراج عن من يتم ضبطهم بعد أيام قليلة.
“عدم مسائلة المتورطين”
بالتالي، مع خطاب عنيف ومتشنج قائم على التحقير والاتهام بالعمالة للدروز، وفي ظل سلطة انتقالية لا توفر حماية لهم، بل تشكل مصائد لاستهدافهم، فضلا عن عدم مسائلة المتورطين وقمعهم، تصبح الضحية مدانة، للمرة الثانية، وهي تلتمس حماية خارجية في ظل شعورها ليس بالتهديد الأمني، إنما التهديد الوجودي مع عدوان يرقى إلى أن يكون “إبادة” على حد تعبير الشيخ حكمت الهجري، رئيس الطائفة.
وطالب رئيس الطائفة الدرزية حكمت الهجري، بتدخل “قوات دولية لحفظ السلم” في سوريا، وندد بـ”هجمة إبادة غير مبررة” ضد أبناء طائفته. ووصف في بيان ما يجري في جرمانا وصحنايا بـ”هجمة إبادة غير مبررة” ضد “آمنين في بيوتهم”. وقال إن “القتل الجماعي الممنهج” يتطلب “وبشكل فوري أن تتدخل القوات الدولية لحفظ السلم ولمنع استمرار هذه الجرائم ووقفها فورا”.
وأعرب عن خيبة أمله من غياب التحرك الدولي، وقال: “نحن نعيش نفس التجربة التي عاشها أهلنا في الساحل، ونطالب بالعون الدولي السريع والمباشر، مع أمل التجاوب الفوري حقنا للدماء، فقد قُتل الكثير من الأبرياء والمدنيين العزل خلال اليومين الماضيين”. ودان محاولة تصوير أبناء الطائفة على أنهم جماعات خارجة عن القانون. وتابع: “افتعال الفتن كان لتبرير تغيير صورة الجاني والمجني عليه، الناس كانوا آمنين في بيوتهم وجاءهم التكفيريون، فدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم وأرزاقهم، لا كما يُصوَّر أنهم عصابات”.
وأردف: “أهلنا وشهداؤنا ليسوا عصابات ولم يكونوا كذلك في يوم من الأيام، ولكنها هجمة إبادة غير مبررة. نحن نعرض حجتنا، والله هو الحامي وهو الناصر لأصحاب الحقوق”.
وعرج في بيانه على ضرورة صياغة دستور يحقق العدالة والحرية، وإلى قيام دولة لا مركزية تمثل الشعب وتحترم حقوق جميع مكوناته، بعيدا عن الإقصاء.

وقبل أيام، قال مدير مديرية الأمن في ريف دمشق، إنه تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في جرمانا، غير أن مجموعة من الخارجين عن القانون صعدوا هجماتهم في منطقة صحنايا، الأربعاء الماضي، ونجم عنه مقتل 16 عنصرا من قوات الأمن.
سلطات دمشق تتملص من المسؤولية
وتعد الصياغة الفضفاضة لـ”عناصر خارجة عن القانون” أو “عناصر غير منضبطة”، مثيرة للاستغراب والامتعاض في ظل حوادث بهذه الفداحة. كما أن الوصف ينطوي على محاولة للتملص من المسؤولية، وتغييب الفاعل الحقيقي. فما يجري بحق الدروز يمس الدولة وأمنها القومي، بينما يفاقم من مستويات العنف الطائفي لدرجة التشظي بين مكونات المجتمع، وينهي أي احتمالا للتوافق أو القبول بالتعددية، كما يراكم مشاعر احتقان تخفي معها حالات ثأرية وانتقامية جاهزة للانفجار في أي وقت.
فإخفاق السلطة الانتقالية في وصف الظاهرة، وتعيين الأطراف المسؤولة بوضوح وعدم تردد، ثم تطويق الصراع من خلال فرض السيطرة القانونية والأمنية، يعكس ما هو أبعد من الفشل. فليست هذه أول مرة تُستهدف فيها مكونات طائفية بعينها، كما أنها لم تكن عفوية أو تلقائية وتحمل شبهة انتقام أو ثأر كما مع العلويين، بل منظمة وربما انتقائية.
كما حملت هذه الحوادث وفق مقاطع فيديو وثقت بعض الجرائم، رغبة في الإذلال والتحقير من الدروز على أساس هوياتي طائفي، فيقول أحد العناصر: “شو ساووا بني أميّة؟ فيرد الشاب الدرزي: “نتفولنا شواربنا”.
بالتبعية، تُظهر هذه الحوادث، بشكل واضح ومباشر، جانبا لا يمكن إخفاء حقائقه عن نمط وطبيعة القوى المتسيدة في المجال العام، وبالحكم، في سوريا، في مرحلة ما بعد بشار الأسد المخلوع، حيث إنه على ما يبدو تستثمر السلطة في التوترات الطائفية، لا سيما كلما برزت ملامح تململ داخل بيئات اجتماعية تطالب بـ”اللا مركزية”، وترفض الطاعة والإذعان للحكم الشمولي.
بمعنى آخر، العنف بالطبيعة أو النمط الذي يجري لا يبدو مجرد نتيجة فراغ أمني، أو تفلت قوى بسلاح غير شرعي، وعناصر غير منضبطة، وفق ما تقول السلطة الانتقالية، بل يمكن اعتباره ضمن أدوات استراتيجية لتحقيق الهيمنة والضبط والعقاب وفق تصورات الحكام الجدد وطموحهم السياسي في هندسة المجتمع وإعادة تشكيله.
في المحصلة، ما جرى في السابق ويجري راهنا، لا يقف في محطة أو حدود مناطقية. فالبنية الاجتماعية للسلطة تبدو ضعيفة، الأمر الذي قد يضطرها إلى بعث هواجس أمنية أو قلق وريبة بحمولة طائفية بين الطوائف والمكونات المختلفة، سواء بشكل مباشر أو بالاعتماد على ما يمكن وصفهم بمجموعات الظل، وذلك لا يخفي أيضا إخفاق السلطة في بناء قنوات حقيقية للحوار أو العدالة الانتقالية. وكل هذا يعني أن سوريا، في ظل هذا النموذج السلطوي-الطائفي، مرشحة لأن تتحول إلى مسرح دائم للعنف، من دون حسم، أو بناء سلم.
ولا يبدو أنها كذلك تتجه نحو “مصالحة وطنية”، بل تتفشى انفجارات محلية تتغذى على مظلومية كل طائفة على حدة. فالسلطة تواصل تقديم نفسها كضرورة، وليس خيارا سياسيا، بما يقوض من فكرة المواطنية والتعددية السياسية في مقابل شبكة طوائف محكومة بالخوف الغريزي الذي يعزز من بقاء وتغلغل العنف ضمن بنية الحكم.
- “الانترنت الضعيف” يعيق حياة الأهالي والطلاب في حلب
- “الوفاء لحلب”.. حملة شعبية لإعادة تأهيل أحياء المدينة
- الغاز التركي سيصل إلى حلب خلال 3 أشهر.. هل يُسهم في رفع ساعات وصل الكهرباء؟
- “منحت نفسها صلاحيات مطلقة”.. أيمن أصفري يهاجم الإدارة السورية
- أزمة بوسي شلبي مع نجلَي محمود عبد العزيز تتصاعد.. وتضامن فني واسع
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

تعيين الهايس “خطأ جسيم”.. وترامب يمدد حالة “الطوارئ الوطنية” بشأن سوريا

جولة مفاوضات ثالثة بين أنقرة وتل أبيب.. ما مطالب إسرائيل الرئيسية؟

الشرع يسعى للقاء ترامب.. هل يكسب الدعم الأميركي؟

الشرع يتوجه إلى فرنسا.. ماذا تريد باريس من دمشق؟
الأكثر قراءة

هجومان لـ”داعش” يستهدفان مواقع “قسد” بريف دير الزور في سوريا

هجوم حاد على ديمة بياعة بسبب إيحاءات وكلمات نابية: ما القصة؟

هبوط أسعار السيارات في سوريا.. عوامل تفسر أسباب تراجعها إلى ربع قيمتها

موفق طريف يلتقي قائد بالجيش الإسرائيلي.. وتصاعد في أشرفية صحنايا بسوريا

موجة غلاء تضرب أسعار الخضروات في الأسواق السورية.. متى يتوقف ارتفاع سعر البندورة؟

مصعب العلي: من ساحات الثورة إلى تحديات وزارة الصحة
المزيد من مقالات حول في العمق

الشرع يكرّس حكم العائلة: صفحات جديدة بنفس الحبر القديم؟

التكوينة غير المتجانسة لجهاز الأمن العام وراء سلوكيات الانتهاكات الفردية؟

هل تستطيع سوريا النجاة من نيران الطائفية؟

شرارة كشمير.. الهند وباكستان نحو صراع شامل؟

إيران في قلب معركة حصر سلاح “حزب الله”

الفصائل الفلسطينية في سوريا: من توظيف القضية تاريخيا للانفكاك عنها مستقبلا

“السلطة ضرورة لا كخيار”.. كيف تتهرّب دمشق من مسؤولية حماية السوريين
