د. محمد حبش

رحل الرجل العملاق الذي تمكن من فرض #سوريا على مكاتب العلماء ورفوف المكتبات في العالم.. رجلاً عملاقاً معلماً كبيراً.

 

رحل السوري الذي حقق لسوريا في كل مكان في العالم، مكاناً على ريادة الثقافة العالية في اختصاصه الفقهي، وبكل أمانة، فالريادة في الفقه الإسلامي على مستوى العالم لسوريا بفضل موسوعة الشيخ وتفسيره، ومع أن مكان سوريا كبير في العلوم الأخرى ولكنه في الفقه الإسلامي صدارة ومجد للفقه العالمي كله، ولو كانت للعلوم ميداليات فالذهبية في الفقه هي سوريا بامتياز، فيما نتوزع في العلوم الأخرى بين الفضة والبرونز، وهناك آفاق كثيرة ليس لدينا فيها فرصة مجد.

بالنسبة لي سأكتب الكثير عن هذا الرجل العملاق، وبشكل خاص لمكان يده البيضاء علي، فقد تلقيت العلم على يديه، وقام بنفسه بالإشراف على رسالتي في الدكتوراه القراءات المتواترة وأثرها في الحكم الشرعي، وإن من عناية القدر أن الرسالة التي قام بمناقشتها أصبحت مهرجاناً علمياً في القارة الأفريقية، حيث تم اختيار لجنة تضم ثلاث رؤساء جامعات وهم أحمد علي الإمام رئيس جامعة #القرآن وعلي ابا بكر رئيس جامعة أم درمان الاسلامية وأحمد عبد الرحيم رئيس جامعة #افريقيا العالمية، لمناقشة الرسالة التي كرمت بأعلى درجات الامتياز والتكريم،  وكان ذلك تكريماً للمشرف على الرسالة العلامة الكبير الدكتور #وهبة_الزحيلي طيب الله ثراه…ولكن النجاح الأكبر أن هذا المهرجان العلمي أثمر قيام مجمع الفقه الإسلامي الأكبر على مستوى القارة الأفريقية، الذي انطلق مباشرة بعد زيارة الشيخ وهبة للسودان.

ولكن بعيداً عن المكانة التي يحملها له القلب، كأخ أكبر ودود وناصح، وأستاذ معلم شفيق رفيق، وجار راحم ورفيق درب وسفر، فإن علينا أن ننصف الرجل في عطائه العلمي والعرفاني.

كان الشيخ رحمه الله أغزر علماء عصره وأنقاهم يداً وأطيبهم ملقى وأحسنهم معشراً، وكان يسمى بين طلبته الشيخ السريع، فقد كان للناس مطلع كل شهر أو شهرين موعد مع عنوان جديد للشيخ الزحيلي يتصدر منصات المكتبات والمعارض العلمية، وكانت خطاه السريعة التي يلاحظها طلابه تعكس روح الإسمان بالعلم، وعمل في الحياة التي لا تترك للهو سبيلاً.

كان رجلا حازماً لا يعرف أوقاتاً للفراغ واللهو، لقد ملأت عليه المعرفة حياته، فكان ينتقل من كتاب لكتاب ومن بحث لبحث يملأ حياته بالمعرفة والعطاء والنور.

لن أتحدث عنه كتلميذ في مدرسته بل سأتحدث عنه كسوري ينظر في دور سوريا المعرفي في العالم … إنه الرجل الذي سجل لسوريا مجداً يحق لنا أن نفاخر به ونسجله في مجمع الخالدين.

حين تدخل أي مكتبه في العالم لتبحث عن سوريا فلن يخطئك تصنيف ديوي العشري، فسوريا في كل مكتبات العالم على الرقم 210-220، حيث توجد سوريا على كل رفوف مكتبات العالم، وأول ما ستجده فيها كتابات الشيخ وهبة الزحيلي أو موسوعاته العلمية وتصانيفه الكبرى.

تحاول وزرات الثقافة السورية أن تضع لسوريا مكاناً في مكتبات العالم ولكنها دوماً تصل متأخرة، وحين تكون منشوراتنا الإعلانية فوق موائد الدعاية على هوامش المعارض، تكون كتب الشيخ في صدر المكتبات وفي أعلى سلم المبيعات وتتداولها الناس في صفقات البيوع كأهم كتب تغتني بها الجامعات وتسعد بها المكتبات.

ومع أن الشيخ وهبة الزحيلي لم يسجل في تاريخ الفقه الإسلامي كفقيه صاحب مذهب، ولن يكون في تلاميذه من يقال لهم الزحيليون ولن يكون هناك مذهب زحيلي، حيث يكره الرجل الاصطفاف، ويختار أن يكون عطاؤه تصنيف علم الأقدمين، وتقديمه للناس في حلل جديدة من التصنيف والترتيب ولكن الشيخ الزحيلي في رأيي ترك بصمته في أمرين اثنين سيذكرهما له التاريخ.

الأول: استطاع الشيخ وهبة الزحيلي أن يوسع دائرة المذاهب الإسلامية فبعد أن كانت الموسوعات الفقهية تقتصر على المذهب الواحد أو المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة، أطل الشيخ وهبة الزحيلي بتصنيفه الكبير موزعاً الفقه الإسلامي بين ثمانية مذاهب معتبرة، وهي الشافعية والحنفية والماليكة والحنبيلة والجعفرية والزيدية والإباضية والظاهرية، وقد كان هذا الموقف بالذات تحدياً للمؤسسات السلفية التي لا تؤمن بما وراء المذاهب الأربعة، ويكفّر كثير منها المذاهب الأخرى، ولكن الرجل أثبت بالحجة والبرهان أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس، وأن تعدد المذاهب رحمة وليس لعنة، وأن على أهل السنة والجماعة أن يتسعوا للمسلمين وراء المذاهب الأربعة، وأن ينظروا لفقههم وعلمهم بإجلال واحترام.

في البداية ذهبت مؤسسات سلفية متشددة إلى حظر موسوعة الشيخ لأنها لا تلتزم الولاء والبراء الذي يريدون، فالرجل لا يلتزم بما ألفينا عليه آباءنا، وكانوا يشككون في ولاءه وبرائه، والبراء هنا للأسف هو البراءة من المذاهب الإسلامية خارج المذاهب الأربعة، ولكن الشيخ الزحيلي تمسك بموقفه الكبير واستطاع أن يفرض الاتساع في الفقه الإسلامي، وحتى هذه المؤسسات المتصلبة اختارت بعد ذلك مصالحة فكر الشيخ واعتمدت موسوعته العلمية الرصينة على أعلى سلم المراجع والمصادر العلمية.

لقد تمكن الشيخ من أن يعرض آراء المذاهب الثمانية بأمانة، وحقق الأسلوب الديمقراطي الأعلى في الفقه الإسلامي حيث يتم إعذار المخالف، على قاعدة الفقهاء المستنيرين، حيث كان الحنفي يقول الرأي عندنا كذا وعند السادة الشافعية بخلافه، وكان المالكي يقول الرأي عندنا كذا وعند السادة الحنابلة بخلافه، وتمكن الشيخ أن يقفز أربع قفزات جديدة وتحدث عن السادة الجعفرية والسادة الزيدية والسادة الإباضية والسادة الظاهرية، ونال بذلك احترام العقلاء في العالم الإسلامي بأسره.

إننا مدينون في وعينا الفقهي بالمذاهب الثمانية للتجديد الشجاع الذي قدمه الشيخ الزحيلي نور الله قلبه.

والثاني: هو موقفه في #الثورة_السورية، فقد كان الشيخ صاحب كلمة حق، وكنت قريباً منه حين كان الطغاة يحاصرونه ويتابعونه ويرصدون حركاته وسكناته، ومع بداية الأزمة ألغيت محاضراته ودروسه في جامع العثمان، بعد أن قال كلمة الحق التي ينبغي أن يقولها كل عاقل، وتحدث بمنتهى الوضوح أن المطلوب تغيير شامل في سوريا يرحل به هذا النظام بكل أفراده.

لا أستطيع أن أزعم أنه كان في رأس المظاهرات الغاضبة، ولم يطل على الإعلام الحر ليطالب بثورة عارمة تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما…. وليس هذا مكانه ودوره، ولكن كان في ضمائرهم وقلوبهم، ولو كتب له القدر أياماً جديدة لكان أيقونة النصر في هذه الثورة الكريمة.

لقد تعاقب رجالات النظام عليه يهدونه أعلى ما لديهم من مناصب الفتوى والوزارة، ولكنه كان يأباها وتأباه، يصر أنه لن يكون مطية للأهواء وأنه يكتفي بقول كلمة الحق من مكانه.

على أنه لم يكن قاسياً جلفاً معهم، لقد كان الرجل إيجابياً مع النظام وشارك في كل عمل يعود بالفائدة على #الإسلام والمسلمين، ولكنه تغير تماماً مع أول رصاصة أطلقها النظام ضد الناس، واختار أن يقف بصلابة ضد أي مهادنة لنظام قاتل يسفك دماء الناس، ومع التهديدات المؤكدة التي كانت تتوالى عليه فقد ظل ممسكاً بموقفه، ولا يشاركه موقفه هذا إلا القليل من أهل المواقف الكبيرة، وكان يعلم أن أي ضابط في الأمن أجبن من أن يتحمل مسؤولية اعتقال أشهر اسم أكاديمي سوري في العالم.

سيكتب الكثير عن الشيخ الزحيلي وسأكتب عن أيامه الكريمة الرائعة وأرجو أن ينصفه التاريخ كواحد من أكثر رجال سوريا علماً وفقها وبصيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.